لا حقوق ولا حريات مطلقة لأنّ لكلّ مواطن واجبات ومسؤوليات نعم لرقابة قانونية على حرية التعبير، لا لرقابة سياسية «إنّني مستعدّ إلى حدّ الموت لمقاومة أفكارك.. ولكنّي أعمل حتى الموت لتمكينك من التعبير عنها»-فولتير مع قيام الثّورة شهدت بلادنا انفلاتات على عديد المستويات تحوّلت في عديد المرّات إلى فوضى في تعدّ صارخ على القوانين والضوابط وحتى التقاليد التي تحمي أيّ مجتمع من السّقوط في غاب لا تحكمه أيّة تشاريع. ولعلّ من أبرز الانفلاتات التي عاشها منذ 5 سنوات ولا يزال مجتمعنا تلك التي باتت تميّز المنابر الإعلامية سمعية كانت أو بصريّة أو مكتوبة... كلام غير مسؤول... اتّهامات تفتقر لإثباتات وملاسنات تحوّلت في عديد المرّات إلى سباب وشتائم دون احترام للقانون أو للآخر ولا لأخلاقيات الحوار أو حتى المهنة. في دراسة بعنوان «حريّة التّعبير بين الضوابط القانونية والأخلاقية ومخاطر الانفلات» تعرّض الأستاذ عبد الله الأحمدي (المحامي لدى التعقيب والأستاذ المحاضر) للموضوع وقال:تعدّ حرية التعبير من الحقوق الأساسية التي يتمتع بها الإنسان، وقد أجمع على ذلك شُرّاح القانون. كما كرّست نصوص كثيرة هذا الحق، وقد جاء في القرار الصادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بتاريخ 7 ديسمبر 1976 «إن حريّة التعبير من أهم أسس المجتمع الديمقراطي وهي من شروط تقدم وإزدهار كل فرد». وأكد المجلس الدستوري الفرنسي في قراره المؤرخ في 10 أكتوبر 1984 أن «حرية إيصال الآراء والأفكار أساسية وثمينة، وأن مُمارستها من بين الضمانات الأساسية لاحترام بقية الحقوق والحريات والسيادة الوطنية». وأضاف المجلس نفسه في قرار آخر صادر في 29 جويلية 1994 «إن حرية التعبير عن الآراء والأفكار تقتضي حق كل فرد في اختيار الألفاظ التي يراها كفيلة بالتعبير عن تفكيره». إن هذه القرارات القضائية تؤكد أهمية حرية التعبير التي كرّستها بالخصوص ما اصطلح على تسميته ب«الشرعة الدُولية لحقوق الانسان» ومن ذلك أن المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أقرّت لكل شخص «حق التمتع بحرية الرأي والتعبير». وتضمّنت هذا الحق ذاته المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه تونس والذي أصبح أعلى من القوانين طبق الفصل 21 من الدستور الجديد. ولا جدال في أنّ أهم نص أقرّ حريّة التعبير هو الفصل 31 من دستور 27 جانفي 2014 الذي تضمن أن « حريّة الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة». وغنِي عن البيان أنّ الدّستور يعلُو كُلّ النصوص الأخرى، وعلى المشرّع عند سنّ القوانين أن يحترمه وذلك بعدم المصادقة على أيّ قانون مخالف لفصوله، وتتولى المحكمة الدستورية مراقبة دستورية القوانين. تجاوز الحدود عند ممارسة حرية التعبير وفي تقديرنا أنّ من أهم مكاسب ثورة 14 جانفي 2011 حريّة التعبير، غير أن المتتبع لوسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة والمقروءة يلاحظ أحيانا وجود انفلات إعلامي كبير قد يكون مبنيا على سوء فهم حرية التعبير والتّعسف في استعمالها بطريقة مخالفة لأخلاقيات حرية التعبير والإعلام وخرق للقانون والإساءة للغير، إلى درجة أنّ النقاشات والحوارات في بعض الملفات التلفزية انقلبت الى اللّجْلجةِ وضرْب من الغوْغائية والمشاجرة والتّلاسن وحتى استعمال الكلام البذيء المخل بالحياء وإلى تبادل الشتم والسّب والقذف في مفهومه القانوني الجزائي وأحيانا يكاد يؤول الامر إلى تبادل العنف أو التهديد به وتشابك الأصابع. ومما يحزّ في النفوس، أن تصدر مثل هذه التصرفات المخجلة عن بعض المنتمين إلى ما يسمّي ب«الطبقة المثقفة» ولا خير في ثقافة بلا أخلاق وفي هذا السياق يقول الزعيم المصري سعد زغلول « نحن لسنا محتاجين لكثير من العلم ولكننا محتاجون لكثير من الأخلاق». ونحن نقول رُبّ أُمِيّ متخلّق أفضل من مثقّف عديم الأخلاق. كما ان بعض تلك التصرفات تصدر عمّن يصفون أنفسهم بالحقوقيين وهو مفهوم غير واضح وقد كثر هذا الصنف من الأشخاص ولا نعلم من منحهم هذه الصفة وعلى أي أساس؟ وهناك ظاهرة تتمثل في أن أَرْهُطًا من الأشخاص ينتقلون من منبر الى آخر ويحظون بإستضافات متكررة من لدن بعض وسائل الاعلام في حين أنهم لا يحترمون أدبيات الحوار وضوابطه القانونية والأخلاقية، وجُبِلُوا على التّشنّج والإستفزاز وإفتعال «الفرجة» والحال أنه من المفروض أخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار عند اختيار الضيوف، ومن حسن الحظ ان هذا النوع من الأشخاص قليل. ضوابط حريّة التعبير وإذا كان التحمس للأفكار والدفاع عنها أثناء المناقشات أمرا عاديّا، وأنّ من حق كل مواطن أو مسؤول سياسي أو جمعياتي أن يعبّر عن أفكاره، فإنه لا بدّ من احترام بعض الضوابط المستمدة من أدبيات الحوار وأخلاقيات الإعلام ومن وجوب احترام القوانين الجاري بها العمل، والتي تحمي المجتمع والنظام العام وتحفظ حرمة الحياة الخاصة والآداب العامة. ويجدر التذكير هنا بفصل هام في الدستور، يبدو أن العديد من الأطراف تناسته أو أنها غير واعية بمقاصده وأبعاده ونعني الفصل 49 الذي ينص على أنه « يحدّد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها، ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية، وبهدف حماية حقوق الغير أو لمقتضيات الأمن العام أو الدفاع الوطني أو الصحة العامة والآداب العامة وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها ... وتتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أيّ انتهاك». ونجد المبدأ نفسه بالفصل الأول من المرسوم عدد 115 المؤرخ في 2 نوفمبر 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر الذي ينص على أنه «لا يمكن تقييد من حرية التعبير إلا بمقتضى نص تشريعي». ويؤخذ من هذين النصين أن الحقوق والحريات (ومنها حرية التعبير والإعلام طبعا) ليست مطلقة، بل تخضع لضوابط جعلت لعدم تجاوز حدود لا تقل أهمية عن حرية التعبير أو الإعلام، منها حماية حقوق الغير والأمن العام أو الآداب العامة، ومنها بالخصوص الأخلاق. فالحق في حرية التعبير لا يخوّل المسّ بحقوق الآخرين وشتمهم وهتك أعراضهم أو النيل من حرمتهم. وتستوقفنا في هذا السياق، ما نصّت عليه المادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وقد جاء فيها: «الحق في حرية التعبير يتضمن واجبات ومسؤوليات وإخضاعه لشكليات إجرائية وشروط وقيود وعقوبات محدودة في القانون حسبما تقتضيه الضرورة في مجتمع ديمقراطي لصالح الأمن القومي وسلامة الأراضي وأمن الجماهير وحفظ النظام ومنع الجريمة وحماية الصحة والآداب وإحترام الآخرين ومنع إفشاء الأسرار أو تدعيم السلطة أو حياد القضاء». ويُستشف من هذه النصوص القانونية أن حرية التعبير لها حدود، بل تخضع لضوابط وقيود تقتضيها عدة اعتبارات، منها المصلحة العامة والأمن القومي وحماية المجتمع والمصلحة العليا للبلاد وحماية ما يعرف بالرابطة الاجتماعية. كما يرى جلّ شرّاح القانون أنّ أساس تسليط عقوبات على مرتكبي ما سمّي ب«جرائم الصحافة» هو ردع وشكل من أشكال التعسف في حريّة التّعبير وهي قيد لها. ويبدو جليّا أنّ هناك نصوصا قانونية عديدة تعاقب بعض التجاوزات المؤسفة عند ممارسة الحق في التعبير، مثل جرائم هتك شرف الإنسان وعرضه مثل القذف والشتم المنصوص عليها بالمجلة الجزائية. ومعلوم أنّ المرسوم عدد 115 تضمّن أحكاما جزائيّة تتعلّق بالجرائم ضد الأشخاص المرتكبة بواسطة «وسيلة من وسائل الإعلام السمعي والبصري أو الإلكتروني». ومن بين تلك الجرائم، الثلب الذي ينال من شرف أو اعتبار شخص (الفصل 56) وكذلك الشتم المتمثل في «كل عبارة تنال من الكرامة أو لفظة احتقار أو سب (الفصل 57). إلاّ أنه رغم هذه النصوص الزجرية الواضحة، مازلنا نلاحظ العديد من مظاهر الزيغ والانزلاقات في جانب من الحوارات الإذاعية والملفات التلفزية وحتى في التصريحات أو الكتابات ببعض الصحف التي تتجاوز الضوابط القانونية المذكورة، وتتضمّن النيل من كرامة واعتبار الأشخاص. وهناك جانب آخر لعله أكثر وقعا وخطورة، ويتمثل في أن أشخاصا يعمدون إلى خرق القانون والكشف عن أسرار مهنية. في حين أن القانون يحجّر إفشاءها اذ أن من أوكد المؤتمنين عليها عدم الكشف عنها. ومما يزيد الأمر اسْتِفْحالاً أنّ جانبا من تلك الأسرار قد يمسّ من حقوق الآخرين، وحتى النظام العام في مفهومه الواسع. ويذكر أنّ الفصل 109 من المجلة الجزائية يسلط عقابا بالسجن مدة عام على الموظف العمومي أو شبهه الذي ينشر كتبًا أُؤتمن عليه أو حصل له العلم به بسبب وظيفته أو يطلع عليه غيره. وهناك بالخصوص أسرار تهمّ قضايا عدلية جارية وخاصة الجزائية منها، والحال أن القانون يمنع ذلك. فالفصل 61 من المرسوم 115 «يحجّر نشر وثائق التحقيق قبل تلاوتها في جلسة علنية». كما أن الفصل 60 من المرسوم ذاته يسلط أيضا عقابا بالسجن من عام إلى ثلاثة أعوام مع خطية مالية على «كلّ من يتولى نقل معلومات عن جرائم الاغتصاب أو التحرش الجنسي ضد القصر بأيّة وسيلة كانت، متعمّدا ذكر اسم الضحية أو تسريب أية معلومات قد تسمح بالتعرف عليها». ومن ناحية أخرى، فإن الفصل 31 من قانون 7 أوت 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال ينصّ على معاقبة «كلّ من يتعمّد داخل الجمهورية وخارجها علنا وبصفة صريحة الإشادة أو التمجيد بأيّة وسيلة كانت بجريمة إرهابية او بمرتكبها ...». وفي صورة ارتكاب مثل هذه الفعلة التي وصفها المشرّع بكونها (جريمة إرهابية) فإنه يقع تطبيق هذا القانون دون غيره لأنه قانون خاص، وهو أولى في التطبيق من القانون العام طبق ما درج عليه فقه القضاء. كما أنّ الفصل 54 من المجلة الجزائيّة ينص على أنه «إذا تكوّنت من الفعل الواحد عدة جرائم، فالعقاب المقرّر للجريمة التي تستوجب أكبر عقاب هو الذي يقع الحكم به وحده». ونلاحظ أيضا أنّ بعض الموظفين والمسؤولين لا يحترمون واجب التحفظ المحمول على كاهلهم. بحُكْم طبيعة وظائفهم، فلا يتردّدون في الدخول في مناقشات خلال البرامج الحوارية في الإذاعة أو الملفات التلفزية أو التصريحات الصحفية المكتوبة، ويبدون آراءهم في مواضيع لها علاقة بوظائفهم، والحال أنهم ملزمون بواجب التحفظ الذي يقتضي منهم عدم إبداء الرأي علنا في تلك المواضيع والتي تقتضي القوانين وأخلاقيات وظائفهم عدم الكشف عنها إلا في نطاق إنجاز المهام المنوطة بعهدتهم. وثمّة ظاهرة أخرى لا يمكن التغاضي عنها وتتمثل في أنّ بعض «المجموعات المهنية» تعمد أحيانا إلى تسليط ضغوط على السلط العمومية، وخاصة السلطة القضائية للدفاع عن بعض الأشخاص المنتمين لِأسْلاك معيّنة في صورة احالتهم على القضاء، ويعمد بعضهم إلى محاولة التأثير على مجرى القضايا بدعوى حريّة التعبير، والحال أنه لا بدّ من إحترام السلطة القضائيّة وإستقلاليتها وعدم التّدخل في شؤونها وأنّ المشرّع أقرّ وسائل للطعن في الأحكام القضائية في نطاق القانون. وفي هذا السياق، نلاحظ أن الفصل 434 من المجلة الجزائية الفرنسية مثلا يحجّر منع نشر تعاليق على قرارات قضائية قبل صدور حكم قضائي نهائي بنيّة تسليط ضغط للتأثير على الشهود أو قرارات قاضي التحقيق أو المحكمة. نعم للرقابة القانونيّة على حريّة التعبير، ولا للرقابة السياسيّة يقول الكاتب الفرنسي Gustave FLAUBERT «إنّ الرقابة مهما كانت أسوأ من القتل وإن الاعتداء على الفكر هو جريمة». ولا مجال إطلاقا للتضييق من حريّة التعبير إلاّ في حدود ما أقرّه القانون لتفادي أي إفراط في السلطة أو النيل من هذه الحريّة لأسباب واهية وغير جديّة وخاصّة سياسيّة. ومن هذا المنظور فإن لحريّة التعبير مكانة خاصة في مشهد الحريات، فهي حق موضوعي ومبدأ عام يتوقف عليه وجود الديمقراطية ومجموع الحقوق الأساسية مثلما قال الأستاذ Xavier BIOY، كما أنه لا يجوز للدولة الضغط على الصحافة في كل الحالات بإسم النظام العام، فمن حق كل مواطن وكذلك من حق الصحافة انتقاد عمل المؤسسات العمومية، ومن حقها أيضا التنديد بالتجاوزات التي تحصل والكشف عنها، لكن كل ذلك مع احترام الضوابط القانونية، شريطة التأكد من صحة المعلومات، اذ لا بدّ أيضا من احترام قرينة البراءة. التسامح وحرية التعبير ينبغي أن يكون التّسامح، وهو من القيم التي نص عليها الفصل 6 من الدستور، جوهر حرية التعبير، وذلك باحترام رأي الآخرين وتمكينهم من التعبير عنه. ووفق هذه الرؤية، نادى الزعيم الهندي غاندي بما سمّاه «التسامح المتبادل» قائلا «إننا لا نفكر جميعا بنفس الطريقة وإننا لا نرى إلا جانبا من الحقيقة ومن زوايا مختلفة». إنّ من آداب الحوار الاستماع للآخر وعدم الإساءة إليه إذا كانت آراؤه مخالفة لآرائنا، وإن حريّة التّعبير لا تعني التّهجم على الآخرين الذين يخالفون الرأي. ولعلّ أفضل ما نتوّج به هذا العرض إستحضار المقولة المعروفة التي أطلقها المفكر الفرنسي Voltaire وهو أحد روّاد عصر الأنوار «إني مستعدّ إلى حدّ الموت لمقاومة أفكارك ولكنّي أعمل حتّى الموت لتمكينك من التّعبير عنها».