نفّذت مجموعات مسلّحة مؤلّفة من تونسيين ينتمون إلى تنظيم الدولة الإسلامية المعروف ب «داعش»، فجر يوم 7 مارس الجاري هجمات متزامنة على منطقتي الحرس والأمن الوطنيين وثكنة الجيش الوطني في مدينة بن قڤردان. وقد تعاملت الوحدات الأمنية والعسكرية التونسية مع هذه الهجمات بسرعة، وتمكّنت من السيطرة على الوضع في المدينة. وأعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عن العملية وتوعّد بالردّ على مقتل عناصره في العملية الفاشلة. فلماذا تمّ استهداف مدينة بن قردان تحديدًا؟ وما هي أهداف تنظيم الدولة من وراء العملية؟ وما هي إستراتيجيات التنظيم في محاولة اختراق المجتمع التونسي؟ وكيف السبيل إلى التعامل مع الأخطار والتهديدات الأمنية المتكررة التي تواجهها تونس؟ في دراسة له حاول المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الاجابة عن هذه الأسئلة.لماذا استُهدفت بن قردان؟ تقع مدينة بن قردان في أقصى الجنوب الشرقي من تونس على خطّ التماسّ مباشرةً مع ليبيا، وبالقرب من معبر رأس جدير الحدودي الذي يُعدّ شريان الحياة للمنطقة الجنوبية من الجمهورية وهي جزء من ولاية مدنين. يحدّها من الشمال ساحل بحر بوغرارة وجرجيس وبحيرة البيبان، ومن الشرق والجنوب الحدود التونسية الليبية على امتداد 97 كيلومترًا، ومن الغرب مدينتَا مدنين وتطاوين. ويبلغ عدد سكّان المدينة نحو 80 ألف نسمة، وتتميز بمناخها الحارّ والجافّ. وعلى الرغم ممّا تشتمل عليه المنطقة من ثراءٍ طبيعي وبيئي وتراثي، فإنّها ظلّت بعيدةً عن اهتمام الدولة طوال تاريخها الحديث؛ إذ غابت فيها الاستثمارات الصناعية والزراعية، فاتجه السكان لممارسة التجارة الموازية (التهريب) الذي لم يعُد يقتصر على تهريب السلع والنفط، بل اتسع ليشمل تهريب البشر والسلاح من ليبيا نحو تونس بعد الإطاحة بحكم القذافي. غير أنّ هذه التجارة الموازية تضرّرت كثيرًا بعد أن تصاعدت حدّة الأزمة السياسية والأمنية والعسكرية في ليبيا، عقب اندلاع الاقتتال بين الفصائل المسلّحة المتنازعة لفرض السيطرة بقوة السلاح على مناطق إستراتيجية من البلاد، وهو ما أدّى إلى انعكاس سلبيّ على التجار والمهربين، وإلى تهديد البطالة لآلافٍ من العمّال. كما عُرفت المدينة بتقاليدها «النضالية» في زمن الاستعمار وفي زمن الاستقلال. وفي عهد بن علي، شهدت انتفاضةً عارمةً خلال رمضان 2010، وذلك بعد تشغيل الخط التجاري البحري بين ميناء طرابلس وميناء صفاقس وقرار السلطات الليبية فرض ضريبة بقيمة 150 دينارا (نحو 80 أورو بحساب تلك السنة) على كلّ سيارة تدخل البلاد، ممّا دفع السلطات التونسية إلى منْع بيع البضائع الليبية، مُستثنيةً من ذلك مَن يملكون رخصة تصدير وتوريد، وهو أمر حرم الأغلبية الكبرى من سكان بن قڤردان، من تجّار ومهرّبين.. إلخ، من مورد رزقهم الرئيس. وقد استمرت الانتفاضة أيّامًا، وطالب الأهالي الدولة بأن توجد لهم فرص عملٍ. وكانت تلك الاحتجاجات الشعبية (إلى جانب انتفاضة الحوض المنجمي) الشرارة الأولى لسقوط نظام بن علي. كما عرفت المنطقة بعد الثورة عدّة احتجاجات وإضرابات تنديدًا بإهمالها من طرف السلطة. أهداف العملية يبدو من طريقة التنفيذ أنّه جرى التخطيط للعملية بدقة، وهو أمر تؤكده عدّة مؤشرات، منها: العثور على مخازن للسلاح في المنطقة وتحرك بعض الخلايا النائمة لإسناد الجماعات المسلّحة المهاجمة. اعتماد المهاجمين تكتيك المباغتة والتّرهيب عبر الانتشار في شوارع المدينة وتنفيذ عمليّات قتل وإعدام استعراضيّة في حقّ مدنيّين ورجال أمن. محاولة كسب «تعاطف» السكان عبر التحريض على السلطة التي أخفقت في تنمية المدينة، وفي إيجاد حلولٍ لمشاكلها الاقتصادية والمعيشية. أمّا بشأن هدف العملية، فتوجد قراءتان؛ إحداهما تذهب إلى أنّ هدفها كان جسّ نبض الأجهزة الأمنية والعسكرية التونسية، ومعرفة مدى قدراتها على المواجهة واستعدادها لها. ومن ثمّ، فإنّ العملية – بحسب هذه القراءة – لا تتعدى أن تكون “تمرينًا” يهدف إلى بثّ الرعب في نفوس العسكريين ورجال الأمن التونسيين والتهيئة لعمليات أخرى أكثر أهمّيةً منها، استعدادًا لبسط السيطرة على المنطقة في المستقبل. أمّا القراءة الثانية، فترى أنّ الهدف المباشر للعملية كان السيطرة على المدينة وتحويلها إلى قاعدة آمنة للتنظيم في حال التضييق عليه في ليبيا، أو في حال توجيه ضربة عسكرية ضدّ معاقله فيها. وفضلًا عن ذلك، يمكن للتنظيم، عبر السيطرة على هذه المدينة، الانتشار والتمدد في اتجاه الجنوب التونسي، علمًا أنّ عددًا كبيرًا من مقاتليه يستقرون في الغرب الليبي. ويؤيد هذه القراءة توجّه المهاجمين المسلّحين في وقتٍ متزامن إلى الثكنة العسكرية وثكنات الحرس والشرطة؛ من أجل القضاء على وجود القوى الأمنية الرسمية، وانتزاع أسلحتها، ثمّ الاتجاه نحو المعتمدية (مقر الإدارة المحلّية) لرفع العلم الأسود (العُقاب) فوقها، وإعلان الإمارة. أمّا الخطوة الثالثة، فكانت محاولة السيطرة على المحكمة الابتدائية وإعلانها مقرًّا للمحكمة «الشرعية»، وهو أمرٌ أكّدته حيثيات العملية واعترافات العناصر التي تمّ القبض عليها في تونس. اختراق التنظيم لتونس بلغ عدد القتلى من المهاجمين 49 قتيلًا، وبلغ عدد الموقوفين 30 شخصًا، وقد تمّ التعرّف على هويات 22 جثةً جميعها من الجنسية التونسية، كما تمّت معرفة أنّ أحد القتلى جزائريّ الجنسية. ولا تتجاوز أعمار أغلب المهاجمين 35 عامًا. أمّا العناصر الأكبر سنًّا، فكانت مهمتها التنسيق بين المجموعات المقاتلة المسؤولة عن التنفيذ والقتال. ويبدو أنّ أغلبية هؤلاء هم من مدينة بن ڤقردان، أو ممّن استقروا فيها فترات طويلةً؛ إذ كانوا على معرفة بشوارعها وأسماء الأماكن والأشخاص، لذلك قصدوا بيوت بعض ضباط الأمن، وقاموا باغتيال رئيس مصلحة فرقة مكافحة الإرهاب أمام بيته، أو ربما استعانوا بالخلايا النائمة. وحسب مصادر عديدة، يحتل التونسيون المرتبة الثانية، من حيث العدد في صفوف تنظيم الدولة، وهم يقاتلون مع التنظيم بالعراق والشام. وفي منتصف ديسمبر 2014، وجّه التنظيم أوّل رسالة مباشرة له إلى السلطات والشعب في تونس.وأعلن في شريط فيديو، مسؤوليته عن اغتيال المعارضيْن شكري بلعيد ومحمد براهمي، داعيًا التونسيين إلى «مبايعة الخليفة أبو بكر البغدادي». وفي السابع من أفريل 2015، دعا أبو يحيى التونسي من «ولاية طرابلس»التونسيين إلى التوجه إلى ليبيا للتدرب من أجل إقامة الخلافة الإسلامية في تونس. وبعد التدخل الروسي في سوريا، انتقل عدد كبير من مناصري التنظيم التونسيين إلى ليبيا، والتحقوا بمجموعات تونسية أخرى أقامت معسكرات في عدّة مناطق ليبية يسيطر عليها «داعش». كما تبنى «داعش» لاحقًا عبر ذراعه الإعلامية «أجناد الخلافة في أفريقيا»، عدّة هجمات على الجيش التونسي في جبل السلوم، فضلًا عن تبنّيه، في 18 مارس 2015، هجمات على متحف باردو (أسفرت عن مقتل 22 شخصًا، بينهم 21 سائحًا أجنبيًّا)، وأحد الفنادق السياحية في مدينة سوسة الساحلية (أسفرت عن مقتل 38 شخصًا، معظمهم من السياح البريطانيين)، وتفجير حافلة الأمن الرئاسي في 24 نوفمبر 2015 (أسفرت عن مقتل 12 عنصرًا من عناصر الحرس الرئاسي). خصوصية عملية بن قردان تختلف عملية بن ڤقردان عن العمليات السابقة التي قام بها التنظيم، بالنظر إلى أنّ تلك العمليات كانت إمّا اغتيالاتٍ أو تفجيراتٍ أو استهدافًا لمناطق سياحية، في حين كانت هذه العملية محاولةً للسيطرة على مقرّات السيادة في المدينة الحدودية. وتمثّل هذه العملية، في ما يبدو، امتدادًا لمحاولات سابقة كان مصيرها الإخفاق، وكانت واشنطن قد أعلنت أنّ القصف الجوي الأمريكي الذي استهدف في 19 فيفري الماضي مقرّات لتنظيم الدولة الإسلامية في صبراتة (وهي تقع غرب ليبيا، وتبعد نحو 70 كيلومترًا عن الحدود التونسية قد أدّى إلى مقتل نحو 50 شخصًا، أغلبهم تونسيون. وأشارت إلى أنّ هذه الضربة حالت دون وقوع هجوم كان يجري العمل على الأرجح لتنفيذه في تونس، وهو ما جعل بعضهم يرى أنّ عملية بن ڤقردان تمثّل «انتقامًا لتونسيّي صبراتة» ، وربما تنفيذ ما حاولت الضربة الأمريكية أن تحول دونه. التداعيات المحتملة من المؤكد أنّ هذه الهجمات تمثّل تهديدًا كبيرًا للديمقراطية التونسية الوليدة، فهي تعزّز التوق إلى الاستقرار، كما أنها تعزّز تقوية مكانة الأجهزة الأمنية التي قد تصبح بالتدريج فوق النقد، وربما تعود لتكون فوق القانون. ومن المحتمل أن تسعى الأجهزة الأمنية المستاءة إلى الاستفادة من هذه الهجمات لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وكانت «النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي» قد قامت بدعوة أعضائها إلى «إعلان يوم الغضب الأمني المفتوح»؛ للتعبير عن استيائهم من عدم نزول الحكومة عند رغبتهم بشأن زيادة رواتبهم. وإنفاذًا لهذه الدعوة، قام المحتجون من عناصر الأمن باقتحام قصر الحكومة في القصبة، وسط العاصمة تونس، يوم 25 فيفري الماضي، مردّدين شعارات مناهضةً للحكومة ورئيسها. ومن ناحية أخرى، تترقب قوى الدولة العميقة وأركان النظام القديم في تونس، تداعيات هذه الهجمات، وتطمح إلى إعادة تقديم نفسها بوصفها الأقدر على التعامل مع هذه التهديدات الأمنية، بزعم أنّ الحكومة الحالية غير قادرة على ممارسة دورها في حفظ أمن الدولة والمجتمع. أمّا من الناحية الإقليمية، فإنّ هذه الهجمات قد تؤدي إلى تغيير موقف تونس الرافض لأيّ تدخل عسكري خارجي في ليبيا؛ ذلك أنّ الهجمات الأخيرة ضاعفت مخاوف التونسيين من الخطر الذي قد ينتظرهم في حال استفحال نفوذ تنظيم الدولة في ليبيا، من دون اتخاذ ما يلزم من إجراءات لمواجهته. على أنّ كل ذلك لا يُعفي الحكومة التونسية من مسؤولية وضع إستراتيجية متكاملة قابلة للتنفيذ للحدّ من قدرة تنظيم الدولة وغيره من التنظيمات المتطرفة على التجنيد بين أبناء الفئات الفقيرة والمهمشة في بن ڤقردان وغيرها، ومثل هذا الأمر لا يكون من خلال اليقظة الأمنية فحسب، بل من خلال مزيدٍ من التنمية ومزيدٍ من الحريات والممارسة الديمقراطية أيضًا.