«الكلمات تبقى على حالها، والمبادئ لم تتغير، لكن القواعد تختلف، وكذلك الرسالة» مارسيل غوشيه : الدين في الديمقراطية بقلم: عبد الحميد الجلاصي (نائب رئيس «النهضة» ومسؤول التفكير الاستراتيجي والتّخطيط) التموقع إمّا أن يكون انسياقا وراء حراك الماضي، أو استسلاما لطلبات السوق السياسية، او اختيارا يزاوج بين الاستمرارية وما تفرضه الحاجة المجتمعية . ما دعونا اليه هو التفكير العقلاني لاختيار تموقعات تأخذ بعين الاعتبار الحاجات الشاملة للسوق السياسية، مع الوعي ان لا احد يمكنه، بمفرده، ان يلبي هذه الحاجات. يجب ان تستحضر أجوارك حين تفكر في اختيار مكانك . هناك قالب ذهني يراد حشر «النهضة» فيه. ف«النهضة» نستحضرها فقط حينما تثار قضايا الثقافة واللغة والدين والهوية . غير ان «النهضة»، كحركة اجتماعية وكحزب سياسي، معنية بكل التموقعات . 1 - ف«النهضة» معنية بتحديد تموقعها السياسي وقد حسمت امرها، من خلال الادبيات والتنظيرات والمسار، حركة مدنية ديمقراطية في حياتها الداخلية، وفي برنامجها السياسي، وفي عملها الميداني، بل لعلها ان تكون عنصرا أساسيا لضمان وترسيخ الحريات، والتنافس السلمي، والتداول الديمقراطي في الفضاءالعام. 2 - و«النهضة» معنية بتحديد تموقعها الاجتماعي: هل أن حركة «النهضة» كيان عابر للفئات الاجتماعية ؟ام تمثل فئة محددة؟ ومن هي؟ وكيف تدافع عنها ؟ «ان اغلب ما أنجز من دراسات علم -اجتماعية حول الحركة الاسلامية، اثبت ان الأصول الاجتماعية لابنائها كانت اكثر تواضعا من الأصول الاجتماعية لابناء تيارات اليسار التونسي، الذي ظل حبيس الطبقة الوسطى. وفي حقيقة الامر، فان كل مشاريع التغيير الاجتماعي والسياسي ظلت تراوح في حدود الطبقة الوسطى، ما عدا مشروع «الدستور القديم «الذي توجه أساسا الى الطبقة «البلدية» الحضرية. فحزب «الدستور الجديد» وجه خطابه الى الطبقة الوسطى في العاصمة والبلدات الساحلية، واليسار بتشكيلاته المختلفة وجه الخطاب للطبقة العمالية، ولكنه أخطأها، وبقي محصورا في عالم النخب المنظمة في فضاءات المجتمع المدني التونسي. الحركة الاسلامية لقي خطابها رواجا كبيرا، منذ السبعينات من القرن المنصرم، في أوساط الشباب التلمذي والطلابي، المنحدر من الفئات الاجتماعية دون المتوسطة والفقيرة خاصة .و هي فئات اجتماعية ظلت خارج الفعل الاجتماعي طوال التاريخ الحديث للبلاد التونسية، اذ لم يتوجه اليها اي مشروع تغيير قبل ذلك . ولقد حقق خطاب الإسلاميين نجاحا كبيرا في استقطاب شباب هذه الطبقة من الجنسين، وذلك يعود -على الأرجح -لطابعه الاجتماعي التكافلي، ولرمزيته الدينية العميقة . لأول مرة في تاريخ تونس الحديث يتوجه خطاب الى عالم المألوف والرتيب . «(الدكتور كمال الغزي /تفاعل كتابي في أحد الحوارات الثنائية). إنّ سؤال التموقع الاجتماعي يطرح على «النهضة»، في ظل الهشاشات التي أشرنا اليها أعلاه، ومنها الهشاشة الاجتماعية، وخاصة للفئات الشابة، مع استحضار مخاطر توظيف الارهاب لكل انواع الأعطاب، وفي ظل الخيارات الاقتصادية الدولية المعلومة، وارتباطا بشعبوية خطاب بعض قوى اليسار، وكذلك صعوبات توحيد قوى «الوسط الاجتماعي». أوضاع البناء الديمقراطي هي اوضاع شديدة الرخاوة، يمكن ان تخترقها، وتحول وجهتها، عديد القوى ودوائر التأثير، بما فيها المالية وهذا يستدعي يقظة ديمقراطية . لذلك لعله من الأنسب ان تتموقع «النهضة» اجتماعيا هنا. أي أن تكون معبرا عن الفئات الدنيا والوسطى، دون ان تعادي رأس المال. أن تدافع عن حرية المبادرة الخاصة، وان تحفزها، ولكنها تدافع ايضا عن دور تعديلي للدولة، بِما يعني توفير شروط وحوافز انتاج الثروة، وفي المقابل عدم ترك حراكها وسيولتها خاضعين، فقط، للتدافع التلقائي بين قوى السوق .و هذا يعني ان «العدالة الاجتماعية» يجب ان تكون مكونا أساسيا في هوية وبرنامج حركة «النهضة». لقد تناقشنا طويلا اثناء إدارة الحملة الانتخابية في شعارها. وكان واضحا ضرورة ان يعبر على الانشغال العميق بالمسألة «الاقتصادية -الاجتماعية». وتناقشنا حول الصورة التي تعبر عن هذا الانشغال ، وتداولنا كثيرا فكرة «العياش»، المواطن التونسي البسيط، ذو الأحلام الصغيرة «0» لم نختر هذه الصورة، رسميا، خوفا مما يمكن ان يحمله اللفظ من إيحاءات تحقيرية، ولكن تفكيرنا كان يدور، حقيقة، في تلك الدائرة. و هذا ما نرى ان يبرز بوضوح أكثر في «نهضة» المستقبل . 3 - و«النهضة» معنية بتحديد تموقعها الثقافي : ربما تكون هذه المسألة هي من بين أكثر قضايا المؤتمر العاشر اثارة للجدال، ففيها يتكثف الالتباس، والتلبيس، والإشكال التواصلي. إذ تلامس قضايا من طبائع مختلفة: فلسفية، ودستورية، وقانونية، وسياسية، وانتخابية، وترتيبية - إجرائية . هل المسألة هي العلاقة بين الدين والسياسة، وبالتحديد بين الاسلام والسياسة ؟ام بين الديني والسياسي؟ أم بين الدعوي والسياسي؟ أم بين الدعوي والحزبي؟ هل هي قضية نهضوية؟ بالتأكيد لا. هي قضية وطنية، بل هي في بعض أبعادها الفلسفية تتجاوز الوطني حتى . حينما نكون أمام مسألة معقدة، العقل البدائي يزيدها تعقيدا ويرتبك أمامها، والعقل الايديولوجي يزيدها تلبيسا وتبسيطا، والعقل العملي، والعقل السياسي صنف منه، يفككها. لنحاول تفكيك مستويات الاشكالية : ننطلق من جملة معطيات : - الدين حاجة ضرورية وخطيرة في نفس الوقت. - حوالي 85 بالمائة من التونسيين يعتبرون الدين «شيئا أساسيا أو هاما» في حياتهم . - توجد في البلاد آلاف الجوامع، وآلاف الأيمة والموظفين القائمين على إدارة الشأن الديني. - نحن في دولة ديمقراطية محكومة بالقوانين، وأولها دستور جمهوريتنا الثانية، الذي يعتبر سقف الجميع، وان هذا الدستور حدد في توطئته، وفي عدد من فصوله علاقة الدولة والمجتمع بالدِّين، وموقع الدين في الهوية المجتمعية، وخاصة الفصول:1 و6 و31 و39 و42. الدين في فضاء الدولة: وهكذا «فالدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير، وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي» . - توجد في بلادنا ترسانة من القوانين تنظم العمل المدني وشروط تشكيل وعمل الجمعيات والمنظمات . إننا، إن نظرنا للدين من حيث هو مجال يضم فضاءات وعاملين وموظفين، فان إدارته وترتيب شؤونه من شأن الدولة. والمفروض ان تقدم الاحزاب السياسية، كل الاحزاب، في إطار تنافسها الانتخابي، وسعيها للحكم مقترحات سياسات ومشاريع قوانين في هذا الباب، كما تفعل ذلك في الفلاحة أو البيئة أوغيرها . الدين يصبح هنا حاجة ومرفقا يعني كل الفاعلين السياسيين مهما كانت مرجعياتهم الفكرية، أو قناعاتهم الخاصة بشأن الدين ذاته. الدين في الفضاء المجتمعي: لعل اهم خصائص الوضع الديمقراطي انه مجال الفضاءات المتمايزة، والفاعلين المتعددين . وسلطة الدولة ذاتها «تتآكل» لحساب سلطات متزايدة للمجتمع، ضمن الثوابت الدستورية ومراعاة السلم الأهلي . الدين ثابت، ولكن التدين متغير. وكم من خلط وقع جمَّد إفهام الدين في مرحلة معينة. ومعلومة هي العلاقة بين الأفكار والأوعية التي يفترض انها بعثت لتخدمها. إذ أنّ الأوعية تكون في البداية وسائل لتجسيد أو خدمة الأفكار، وسرعان ما تتحول الى سجون تقيد انطلاقة الأفكار، وتقتل إنسيابية التجديد ومُمكنات التأويل فيها. حدث هذا مع الكنيسة المسيحية، ومع المؤسسات التعليمية في عالمنا الإسلامي، كما يمكن ان يحدث في تنظيمات الاحزاب ذاتها. قد لا يكون لفظ الدعوة هو الانسب لتلبية الحاجة الدينية .فقد يحيل الى معنى الجاهلية أو إعادة الفتح في مجتمعات هي مسلمة بطبيعتها. ولكن هناك حاجة لتطوير الثقافة الدينية، ولإحياء القيم، ولتوفير بضاعة تستجيب للأفق الفكري للبشرية اليوم . هذا جهد تعليمي وتثقيفي وبحثي .الدولة تحدد شروط ممارسته، ولكنه مستقل عنها، ومستقل عن الاحزاب السياسية. ضمن الفضاء العام، الذي تحدثنا عنه في حلقتنا الاولى، وهو أوسع من الفضاء السياسي. هذا الجهد هو من حق الأفراد، وهو ايضا من حق المجتمع، ويمكن ان تؤمنه الجمعيات، ومراكز البحث، كما تؤمنه المساجد، فضاءات ترسيخ الوحدة الإيمانية . الحياة الحزبية مبنية على التنافس، ومن ثم إمكانية التقسيم. أما المساجد فهي فضاء ترسيخ الوحدة الوطنية، العابرة للانتماءات الحزبية، وللانتماءات المذهبية . إن العلاقة بين الحزبي والمدني، تضبطها القوانين، ويجب أن ينضبط لها الجميع. وهي اكثر خصوصية في النشاط الديني لما يتلبس به من معاني القدسية. الدين في الأحزاب: الأحزاب مطالبة بتقديم تصورها لإدارة الشأن الديني في فضاء الدولة .لا خلاف في ذلك . ورغم ذلك يبقى سؤال مهم يتعلق بالمرجعيات الثقافية والفكرية للعمل السياسي . اننا ننتقل من معالجة العلاقة بين الدعوي والسياسي، التي تتداخل فيها الاختيارات الشخصية، مع الاعتبارات القانونية، ولكنها تبقى في كل الحالات ذات طبيعة اجرائية، الى اشكالية أعمق، ذات طابع فكري فلسفي هذه المرة، اي علاقة الديني بالسياسي.و لكن ليس ذلك فقط 0 اذ هي تهم ايضا العلاقة بين السياسةو الثقافة، بين الانسان الكائن التاريخي، والانسان الكائن او الفاعل السياسي، كما تلامس شروط التقدم بالنسبة للمجتمعات. الكينونة الانسانية ثرية ومركبة، وليست مجرد أقاليم متجاورة، مفصول بعضها عن بعض . لن نناقش هنا الدين بِما هو حقيقة، اي بما هو تصورات، ولا الدين بما هو شعائر وطقوس . ولكن لنتحدث عن الدين بما هو وظيفة. عن الأبعاد الاجتماعية للدين. من التصورات الى التاريخ .الدين يبرز هنا، في الفضاء السياسي، يبرز كثقافة. المخرج الذي تنتجه كل الاحزاب السياسية لاستمالة الناخبين هو برنامج، هو سياسات وأرقام . والاحزاب السياسية تعد الناخبين بصلاح الدنيا، ولا يعني انتخابها مكافأة او معاقبة اخروية للناخبين. وعدل الله ورحمته أوسع من مضايق وتنافس الاحزاب . ومع ذلك فلكل ممارسة سياسية خلفيتها الثقافية .حركة «النهضة»، ابنة الشعب التونسي، ترى انه في إطار جمهوريتنا الثانية ودستورها، يمكن تحفيز المواطنين على التقدم والعمل والنظافة، أي على النجاعة والفاعلية التاريخية، انطلاقا من عملية احياء قيمي، لا علاقة لها بالاحتكار، والاسلام ملك للعالمين، ولا علاقةلها بالتكفير . مفهوم الآخرة يمكن أن يكون رادعا، ولكن يمكن أن يكون كذلك أفقا . التكريم الالهي للإنسان، مطلق الانسان، الأمانة، الاستخلاف، الرحمة، الوسطية، العمارة، العدل، الاحسان، كلها مفاهيم يمكن أن تقرأ قراءة جديدة تقود الشعوب الى الحياة والى المستقبل . .مفهوم الفطرة يتحول عند الامام ابن عاشور الى نظرية تربط الوحي بالحكمة، والضمير الديني بالكسب التاريخي. وشغله يحتاج ان يرفع عنها غبار النسيان او التناسي . كل الشعوب التي انجزت نهضتها انطلقت من اعادة قراءة وغربلة للتاريخ والتراث . الفعل السياسي يجب ان يجد متحذرا فيما يسميه حسن حنفي «المخزون النفسي للجماهير». على البشرية أن تتواضع، وعلينا ان ندرك ان القضايا الوجودية الكبرى لا تحسم بالقطايع، وعلينا ان ندرك ان بيداغوجيا التغيير تبدأ بتفهم الفاعلين واستدراجهم او توريطهم. ان النظرة المتعالية للشأن الديني، والتلمذة النجيبة لاقسام الدراسات الشرقية في بعض الجامعات الأجنبية، قد لا يعطينا الحلول المناسبة . يجب ان تكون لنا الجرأة والنهم المعرفي لتجاوز الوصفات القديمة والمساهمة في النقاش العالمي حول القضايا الاساسية بما فيها العلاقة بين السياسة والأخلاق، في وضع حزبي تتهدده العديد من المخاطر، بما فيها التعامل الأداتي مع المناضل، والتعامل الميكانيكي مع الناخب . لنذكر بخلفية مقاربتنا :بناء الفضاء الحزبي الوطني وفقا لمقاربة إدماجية شاملة، تعتمد التكامل والتنافس في نفس الوقت . ان هذه المقاربة تأخذ بعين الاعتبار تقسيم segmentation القاعدة الانتخابية، ومراعاة حاجاتها المخصوصة، ومن ضمن هذه القاعدة القاعدة الدينية المحافظة . ان هذه القاعدة، او جزء منها سيبحث له عن تمثيل سياسي، يحترم ويستلهم من رموزه وقيمه. في خضم الحرب على الارهاب، يتضح الجهد المطلوب لدعم موسستينا العسكرية والأمنية، وكذلك تطوير مؤسستنا القضائية، اضافة لاصلاح المؤسسة العقابية .و مع ذلك يتضح الجهد التنموي والتربوي والثقافي .اضافة للتحصين الديني . هناك الان معركة حول الاسلام .بين اسلام البهجة والتطور والتقدم والتفاعل الحضاري ، واسلام القتل والدمار والتخريب. يمكن ان تجازف «النهضة»، ويمكن ان ندفع «النهضة»، المتوقعة في الوسط بطبيعتها، الى مزيد الانزياح للوسط .حينها لن تكون الخسارة الاخطر هي الخسارة الانتخابية ل«النهضة»، بل ستكون خسارة وطنية. إذ أنّ فئات عديدة، وهشة، ستشعر بيتم سياسي، وستعتبر ان المعروض في السوق لا يمثلها، وان «النهضة» «باعت الطرح». لن تبقى حينها مكتوفة الايدي .ستبحث لها عن تمثيل سياسي، ولن يكون حكيما . في الحلقة السابقة تصورنا مشهدا حزبيا متكاملا، بكل عائلاته، ونصحنا بما نراه ضروريا ومفيدا لشركائنا في الوطن. هنا حددنا موقعنا: حركة ديمقراطية اجتماعية ذات مرجعية إسلامية . لو جازفت بتصنيفها، كما أراها، لرأيتها حركة ديمقراطية، تتموقع في يسار الوسط، معنية بقضايا التجديد والأحياء القيمي والثقافي.