الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    المسرحيون يودعون انور الشعافي    أولا وأخيرا: أم القضايا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    نابل.. وفاة طالب غرقا    مدنين: انطلاق نشاط شركتين اهليتين ستوفران اكثر من 100 موطن شغل    كاس امم افريقيا تحت 20 عاما: المنتخب ينهزم امام نظيره النيجيري    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    منتخب أقل من 20 سنة: تونس تواجه نيجيريا في مستهل مشوارها بكأس أمم إفريقيا    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    الطبوبي: المفاوضات الاجتماعية حقّ وليست منّة ويجب فتحها في أقرب الآجال    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عيد الشغل.. مجلس نواب الشعب يؤكد "ما توليه تونس من أهمية للطبقة الشغيلة وللعمل"..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    كأس أمم افريقيا لكرة لقدم تحت 20 عاما: فوز سيراليون وجنوب إفريقيا على مصر وتنزانيا    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    ترامب يرد على "السؤال الأصعب" ويعد ب"انتصارات اقتصادية ضخمة"    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    كرة اليد: الافريقي ينهي البطولة في المركز الثالث    Bâtisseurs – دولة و بناوها: فيلم وثائقي يخلّد رموزًا وطنية    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    عاجل/ اندلاع حريق ضخم بجبال القدس وحكومة الاحتلال تستنجد    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    تعرف على المشروب الأول للقضاء على الكرش..    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هزيمة 67 وأزمة اليسار العربي
بقلم: د. سمير بسباس
نشر في الشعب يوم 30 - 06 - 2007

قد يتراءى العنوان مثيرا للغرابة إذ أنّ في نظر الغالبيّة ممّن اهتمّوا بدراسة الهزيمة خصوصا منهم اليساريّين يربطونها بسقوط الفكر القومي باعتبار أنّ اليسار العربي لم يكن في السلطة. سأحاول أن أبيّن عكس ذلك. قبل أن ندخل في صلب الموضوع حريّ بنا أن نفكّ رموز بعض المصطلحات التي أوردناها. ما المعنى من الهزيمة؟ البعض يسمّيها هزيمة والبعض الآخر يطلق عليها نكسة أو فشل ولكن مهما اختلفت المصطلحات والتعابير فالنتيجة واحدة ألا وهي ضمّ إسرائيل لمزيد من الأراضي العربيّة وحدوث صدمة عنيفة لازالت بصماتها تنطبع خصوصا في أذهان من عايشوا تلك الفترة.
من ناحية أخرى كان لهزيمة 67 وقع معاكس في الأوساط الصّهيونيّة التي بدأت تشعر بأنّ حلمها في بناء إسرائيل الكبرى بدأ يتحقّق. يعتقد المفكّر الفلسطيني عزمي بشارة اأنّ حرب حزيران مثّلت هزيمة ساحقة للدول العربيّة التي شاركت في الحرب وأخذت الهزيمة المدوّيّة جيلا كاملا رهينة لها ولم تتوقّف التفسيرات من نقد للفكر الديني وحتى نقد الفكر القومي إلى الصدمة الحضاريّة وإلى الإنتاج الأدبي.
لكن أمرا واحدا لم يخطر بالبال وهو أنّ هذه الهزيمة هي استثناء وليست القاعدة وأنّ النظام العربي نفسه حارب أفضل عندما أتيحت له فرص أخرى وأنّ فدائيّين فلسطينيّين وكتيبة مدفعيّة أردنيّة أبلوا البلاء الحسن في معركة الكرامة بعد أشهر من الهزيمةب . عزمي بشارة: مقال حول الهزيمة (الأنترنت).
لكن ما تغافل عنه عزمي بشارة هو لماذا لم تهيؤ الفرص الكفيلة بتحقيق النصر أو حتى تجنّب الهزيمة؟ فأن يتوقّف تقييمنا للهزيمة على دراسة موازين القوى العسكريّة فهذا لا يرتقي إلى المستوى الأدنى المطلوب.
أي علاقة لليسار العربي بهزيمة 67؟ قبل كلّ شيء ما اليسار؟ هو تعبير فضفاض وغامض. يمكن أن يضمّ اليسار اتّجاهات متباينة ولكن ما يجمعها هو انحدارها من صلب ما عرف بالاشتراكيّة االعلميّةب والماركسيّة بصفة عامّة. سوف لن نتعرّض إلى تاريخ مختلف هذه الحركات وإلى المرجعيّة الأيديولوجيّة التي تستند عليها لأنّ ذلك يستدعي مجالا أوسع ممّا يسمح به هذا المقال ولكن سنتوقّف على حقيقة اليسار المعاصر وبالأخصّ في العقود الأخيرة وإلى موقع اليسار العربي في كلّ ذلك وعلاقته بالهزيمة.
هناك أرضية فكرية مشتركة بين اليسار والفكر الليبرالي رغم تعارضهما الظاهري افكلاهما تغذّى ونهل من نفس الرّحم الأيديولوجي: إنّها المبادئ الفلسفيّة للأنوار التي من بين علاماتها المميّزة الإيمان بالتقدّم المستمرّ واللاّنهائي للبشريّة واختزال العلاقات الاجتماعيّة في مصالح اقتصادية ومحورية الاقتصاد (JeanClaude Michéa
Impasse Adam Smith, .).2002 Editions climats, لقد جاءت الأنوار بقيم ومعايير جديدة لعلّ أهمّها التحرّر من سلطة المرجعيّات وتحرير الفكر والعمل ولكنّها روّجت أيضا لمفاهيم لم تعرفها العصور الوسطى كالتحكّم العقلاني والمطلق في الكون والتطوّر اللاّنهائي والتقدّم والفردانيّة وكلّ ذلك بدافع من طبيعة إنسانيّة مزعومة تتّجه بصفة آلية نحو الأرفع والأفضل ووفق قانون خفيّ حتمي (إمّا اليد الخفيّة أو قانون تاريخي علمي وفق النظرة الماركسيّة).
اليسار هو مشروع سياسي للأنتليجنسيا والفئات المتعلّمة بينما الاشتراكيّة كما كُرّست في الواقع هي ممارسة ملموسة للفئات الشعبيّة بالاستناد على قيم بسيطة كالشرف وعدم الخنوع للاستغلال والاستبداد ورفض المزاحمة والمنافسة والتعايش والتحابب...ب (نفس المرجع ) تلك المبادئ التي عبّر عنها George Orwell بالحسّ المشترك Common Decency والتي تعرّض لها مفكّرون مجدّدون مثل Ivan Illich وWolfgang Sachs وSerge Latouche وCornélius Castoriadis وChristopher Lasch... لقد تشكّلت الاشتراكيّة الفعليّة وعلى أرض الواقع (ولا في الكتب والمقالات والأيديولوجيات) على قاعدتين هما رفض الرّجوع إلى النظام القديم (سلطة الملك والكنيسة والجيش) ورفض القضاء على علاقات التضامن التي تميّز المجموعات باختلاف أنواعها ومجالاتها. من المعلوم أنّه من بين القوانين الأولى التي نظّمت الاقتصاد الجديد بعد الثورة الفرنسيّة في سنة 1789 قانون Chapelin الذي فرض حلّ كلّ التجمّعات المهنيّة باعتبارها عائقا أمام تطوّر السوق الحرّ وقانون التنافس. فالدولة الأمة National Building ترفض كل ما يزاحمها من خصوصيات محلية وجهوية وعادات ولغات محلية . لقد اختزلت المنفعيّة العلاقات الاجتماعيّة في حسابات اقتصاديّة وداست على كلّ المفاهيم الفلسفيّة والاجتماعيّة الأخرى كمفهوم العطاء Le Don الذي طوّره المفكّر Mauss. اليسار بصفة عامّة مثله مثل اللّيبراليّة ضدّ المحافظة Conservatisme لا بمعناها السياسي بل بمعنى ضرورة القطع مع كلّ ما يذكّرنا بالماضي لأنّه كلّما تقدّمنا تراكم الإنتاج وتصنّعت البلاد وقربت ساعة الخلاص ومن هنا اشتق مصطلح االتقدميةب. فالتقدمي هو من يتقدم وماذا تريد الليبرالية غير التقدم في اتجاه مراكمة الإنتاج وغزو الأسواق ولم لا التوسع على حساب الأوطان والشعوب وهذا ما عرفه القرنان الماضيان.
اأفضل لنا أن نتعذّب ونتألّم في مجتمع بورجوازي معاصر، يصنّع البلاد ويخلق الظروف المادّيّة الضروريّة لبناء المجتمع الجديد وبالتالي يحرّرنا، من أن نعود إلى الأشكال البالية للمجتمع بدعوى إنقاذ بعض الطبقات والفئات الاجتماعيّة من خطر الاندثار فنجذب الأمّة إلى الخلف وإلى بربريّة القرون الوسطيب (ماركس).
حدث أن تحالف اليسار مع الحركة العمّاليّة في القرن التاسع عشر لمجابهة القوى الرجعيّة التي أرادت التراجع عن مكاسب ثورة 1789 ولكن ومع مرور العقود انفصمت هذه العلاقة بينما انحصرت حركة اليسار في بعض انضالاتا المثقّفين ضدّ العنصريّة ومن أجل حقوق الإنسان والدّفاع عن الأقلّيّات الإثنيّة والدّينيّة.
بالنسبة لليسار تتحدّد السياسة والمؤسّسة في مجال خاصّ هو حكر على الدّولة والأحزاب لذلك فمشاريع اليسار هي مشاريع سلطة كهدف وغاية حتى وإن افتقد الوسائل والأدوات لبلوغ هذا الهدف،
(Conrnélius Castoriadis: La Montée de l'insignisfiance Seuil, Mars 1996)
نعود لنقول أنّ مشروع التحرّر الذي جاءت به الأنوار قد أصيب بعدوى المخيال الإنتاجوي والعقلانيّة التقنيّة الأدواتيّة الخالصة ومحوريّة الاقتصاد والإنتاج . يعتقد سارج لاتوش (Serge Latouche)
أنّ الأنوار هي التي خلقت الاقتصاد ... لكن اليسار يريد توجيه هذا االتقدّمب وهذه المراكمة من خلال عقل تقوده نظريّة اعلميّةب تاريخيّة وتبشيريّة ووفق قانون مسطّر مسبّقا. فكلّما تقدّمت الرأسماليّة أشواطا في تصنيع البلاد شكّل ذلك ظرفا موضوعيّا للتغيير الاجتماعي الذي يكون من جملة أهدافه عقلنة المسيرة الاقتصاديّة وتسريع نموّها ومراكمة الإنتاج وصولا إلى تحقيق الحاجيات وإلى الوفرة الكاملة !!! لقد اعتقد اليسار أنه الأقدر على تحقيق الرخاء الاقتصادي وصولا على مجتمع الوفرة : الكل حسب حاجياتهب. إنّها نفس أهداف اللّيبراليّة.
اليوم نعيش الاحتضار الأخير لليسار العالمي فكرا وممارسة خصوصا بعد انهيار المعسكر السوفيتي وسقوط الصين في الرأسماليّة الفاحشة وتحوّل بعض بلدان الهند الصينيّة التي لطالما مثّلت منارا لليسار إلى مصنع ضخم لتقليد أحذية االنايكا.
في عالم تقنّنت (Techniciser) فيه الحياة وأصبحت فيه المشاريع من مشمولات بعض االخبراءب وبالمختصّينب الذين يعمدون إلى فرض اختياراتهم باسم العلم (التحوير الجيني، فرض الفلاحة الكيميائية، بوضعة الحياة، تكنولوجيا النانو.......)، زالت الفروق بين يمين تقليدي ويسار آمن بحياد التكنولوجيا ومحوريّة الاقتصاد وضرورة تطوير القوى المنتجة كوسيلة ومرحلة لتغيير العلاقات الاجتماعيّة.
لكن ما علاقة هذا اليسار العالمي باليسار العربي وبالهزيمة؟
يرى الدكتور جورج حبش أنّ اعديد القراءات لتجارب هذه الأحزاب تسلّم بإخفاقها عن استيعاب حركة الواقع... فالأحزاب اليساريّة ذات التوجّهات العربيّة القوميّة... وجدت نفسها عاجزة عن التأثير والفعل العملي على مستوى القضايا القوميّة وانحصر جهدها في المستوى النظري حول إشكاليّات القوميّة والأمّة والعروبة والوحدة...ب. جورج حبش: أزمة اليسار العربي، مارس 2007 (مقال على الإنترنت) . في الحقيقة ليست هذه سمة اليسار الذي انبثق من صلب الحركة القوميّة بل حتّى االيسار الجديدب الذي ظهر في كلّ بلد عربي. فمن بين السمات المشتركة لهذه الحركات المزايدات حول القوميّة والهويّة والذات.
يعلّل الدكتور جورج حبش فشل مشروع النهضة العربيّة بالمؤامرات الإمبرياليّة التي حالت دون تصنيع البلدان العربيّة اوبذلك قُطع الطريق على الصيرورة الطبيعيّة!!!! لنموّ بلدانناب (نفس المرجع). كلّ اليسار عالميّا أو عربيّا يعتبر أنّ هناك صيرورة طبيعيّة لكلّ البلدان وهي المرور بمرحلة التصنيع وهي مرحلة ضروريّة نحو نشأة مجتمع امتقدّمب يهيّئ الظروف الضروريّة للتغيير الاجتماعي وبالنسبة للعرب يبعث الأمة من جديد.
لقد انحدر اليسار العربي قديمه وجديده وأصابه الشلل وتراجعت أحزابه. فبينما عرفت الأحزاب الشيوعيّة التقليديّة المتذيّلة لموسكو هذا المصير باكرا بما أنها تخلفت عن الصراع ضد الاستعمار، فإنّ ما يُسمّى بباليسار الجديدب ما فتئ هو الآخر يتراجع وصولا إلى الحالة المتردّيّة التي نعرفها اليوم. لا يعود ذلك لأنّ االيسار عجز عن القيام بإنجاز مهام المرحلة التاريخيّةب كما يقول البعض لأنّه لا توجد في التاريخ مراحل تاريخيّة مسطّرة مسبّقا ومكتوبة ولأنّ التاريخ لا يخضع للقوانين إن هو ليس سوى خلقا وابتكارا وتجديدا. فالإرادة التاريخيّة هي إرادة بشريّة وليست بقدر محتوم. فهذا اليسار الفلسطيني على سبيل المثال تضاءل وانحصر وخضع لثنائيّة فتح وحماس. فبينما تحالفت الجبهة الديمقراطيّة مع فتح عقدت الجبهة الشعبيّة تحالفا مع حماس. من المعلوم أنّ أهمّ ألوان الطيف الفلسطيني اليساري تستمدّ جذورها من حركة القوميّين العرب.
في كلّ البلدان العربيّة تميّز ما يسمّى بباليسار الجديدب بأنّه ايسار قوميب وهذا كنقيض للأحزاب الشيوعيّة العربيّة التقليديّة. أن يرفع االيسار الجديدب راية النضال الوطني فذلك أمر جيّد بما أنّه يستجيب بذلك لطموحات شعبه لكنّ ذلك لا يعني أن يذوب في التيارات القوميّة العربيّة حتّى وإن تموقع على يسارها.
يلاحظ المفكّر Jean Claude Michéa أنّه لا يمكن تجاوز الرأسماليّة بالوقوف إلى يسارها. كذلك لا يمكن لليسار العربي أن يتجاوز الفكر القومي بالوقوف إلى يساره. فلقد قدّم هذا اليسار الدعم للأنظمة القوميّة بدعوى مناهضتها للصهيونيّة. من ناحية أخرى جمع اليسار الجديد خليطا أيديولوجيّا من الماوية والغيفاريّة والستالينيّة والتروتسكيّة والقوميّة وأراد إسقاط كلّ ذلك على واقع عربي هو أعجز من أن يفهمه ويحدّد سماته. فكانت المغامرات التي عرفتها بعض الاتجاهات اليسارية داخل الثورة الفلسطينية والأخطاء التي ساعدت على إنجاح المؤامرة على الشعب الفلسطيني في الأردن وكانت الصراعات بين مختلف أجنحة اليسار العربي وكلها صراعات لا ترتبط بواقع شعوبها ولكن بقضايا افقهيةب تذكرنا بالصراعات بين مختلف الفرق والمذاهب الدينية.
نحن نوافق جورج حبش على أنّ االسمات السلبيّة التي رافقت تجربة االبلدان الاشتراكيّةب لم تنج منها أيضا بعض الأحزاب اليساريّة العربيّةب ولكنّنا نضيف بأنّ كلّ أحزاب اليسار قد تلاشت بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي ولم يبق منها سوى بعضا من المجموعات المعزولة التي لازالت ترفض تقييم التجربة السوفييتيّة وتتعلّق بنظام اجتماعي كرّس الدكتاتوريّة ونهب البيئة وخرّب المحيط وعسكر البلاد وقضى على الثقافة والفنّ وتسبّب في أكبر كارثة بيئيّة عرفها القرن العشرون ألا وهي كارثة بحر آرال.
لا يُجدي تغيير المسمّيات والشعارات نفعا ما دامت نفس الروح هي التي تغذّي هذه التيارات. فلا اليسار الديمقراطي ولا الشيوعيّة الديمقراطيّة أو مختلف المسميات قادرة على إخفاء الحقائق التاريخيّة.
يرى أحد اليساريّين المصريّين (وأنا أوافقه في ذلك) أنّ أفول اليسار العربي لم يكن نتيجة للقمع فحسب ولكن أيضا بسبب ما كان يعانيه من أزمة فكريّة عميقة حيث دفعه العداء للاستعمار والإمبرياليّة والهيمنة الفكريّة للباشتراكيّة السوفياتيّةب إلى الاستسلام والعمل في إطار الأنظمة العسكريّة القائمة... التي لم تتوانى عن تبادل الدّعم مع الحركات الأصوليّة حتى في ذروة الصدام بينهما. تعلّل اليسار بالنضال القومي وبضروريّات المرحلةب ليتذيّل للقوى القوميّة وينعزل عن الشعب وعن مشاغله وقضاياه.
نعود لنقول أنّ اليسار في البلدان الغربيّة ليس سوى الوريث الشرعي لفكر الأنوار وبالخصوص لمقولات التقدّم والمراكمة وتطوير القوى المنتجة ومعاداة كلّ ماهو اتقليديب. فكان يسير في واد والحركة الاشتراكيّة الفعليّة في واد بل حتّى عندما اتّصل بها كرّس في وسطها البيروقراطيّة النقابيّة والتسلّط الحزبي. في الغرب لم يعد يوحي اليسار التقليدي بجميع أطيافه لأيّ مشروع تحرّري. اليوم، لا يمكن للفكر التحرّري أن يتقدّم إلاّ متى قطع مع أطروحات اليسار التي تحوّلت إلى ادين للتقدّمب (على حسب تعبير Jean Claude Michéa) خاصّ بفئة من اليساريّين يمكّنهم من راحة نفسيّة وحالة من الاكتفاء الذاتي الداخلي.
فعلا لقد بدأت تظهر مقاربات فكريّة جديدة حمل لواءها أكثر من تيار فكري وفلسفي (تيار الأوتونوميا / تيار بديل التنمية / الإيكولوجيا السياسيّة...) ويمكن القول أنّ أوروبا تعيش منذ ثلاث عقود على الأقلّ مخاضا فكريّا بدأت علاماته تبرز ونتلمّس تأثيرها خصوصا بعد تراجع اليسار وسقوط مختلف أنواع الموضة الفكريّة من بنيويّة وما بعد حداثويّة وبروز قضايا فكريّة مرتبطة بالتحدّيّات الجديدة (التلوّث / تراجع التنوّع البيولوجي / مخاطر الحروب / تفتّت المجتمعات / تعمّق البطالة والتهميش / تراجع الفنون والثقافة بصفة عامّة / أزمة العائلة والتعليم / أزمة الفكر ..).
من الغريب والمؤسف في آن واحد أنّ المفكّرين العرب الذين مازالوا يغازلون أوهام الأمس لا يعيروا أيّ اهتمام لهذه القضايا. لقائل أن يقول : ما علاقة كل ذلك بهزيمة67؟ تبدو العلاقة جلية إذا تعمقنا في المسألة ولم نقف على ظواهرها. لا يمكن أن نحرز نصرا على قوة عاتية ومدعومة من القوى العظمى إذا كان بيتنا عليلا ومتداعيا للسقوط. فحتى ولو توهمنا أن هذا الانتصار كان ممكنا بفعل بعض الخوارق والمعجزات فهل كانت هناك رؤية لمستقبل مغاير يحمل معه الجديد لهذه الشعوب المتشوقة للنصر ولكن أيضا لحياة أفضل (ولا نقصد بذلك مراكمة الخيرات وزيادة الاستهلاك ولكن المكتسبات في مجال الحرية)؟
هزيمة 67 لا تمثّل فقط هزيمة للفكر القومي ولكن لكلّ روافده ولليسار العربي قديمه وجديده. فبالإضافة إلى الأزمة العامّة لليسار العالمي يختصّ اليسار العربي بتبعيّته للفكر القومي أو بالأحرى للفكر القومجي. فبرامج اليسار تتحدّث عن بناء الاقتصاد القويّ والتصنيع وبناء الدّولة القويّة واللّحاق بركب الحداثة وردم الهوّة التي تفصلنا عن الغرب والتحكّم في التكنولوجيا واستعادة الأمجاد العربية وتحقيق النهضة وتصنيع الفلاحة والحال أنها السبب الرئيسي في الإخلال بالبيئة الزراعية وإهدار التربة والماء والهواء معا. إنّه نفس برنامج البرجوازيّة القوميّة العربيّة. فاليسار العربي لا يختلف في جوهره عن الفكر القومي. إنّه يريد تجاوزه على يساره وهذا ما عجزت قوى اليسار العالمي عن تحقيقه حتى في البلدان المصنّعة. لكن إذا كانت الغلبة لليمين التقليدي في الغرب ففي بلدان الجنوب وبالخصوص البلدان العربية اصطدمت مشاريع النخب الوطنية بمؤامرات القوى العظمى التي ترفض بروز قطب مستقل يزاحمها ويهدد مصالحها في المنطقة. انهزم الفكر القومي العربي التقليدي ومعه كل الفروع والروافد. فعندما نركب نفس القطار حتى وإن لم نركب نفس العربة فإنّه في صورة وقوع حادث مريع فإنّه سيأتي على الغالبيّة من الراكبين، لهذا بالذات كانت هزيمة الفكر القومي هي ذاتها هزيمة اليسار العربي.
من الغريب أنّ بعض هذه القوى بدأت اليوم تتحالف مع القوى الأصوليّة تحت راية الدفاع عن حقوق الإنسان وكأنّي بها لم تتّعظ بالماضي والحال أنّها تعلم حقّ العلم أنّ هذه القوى ليست سوى تعبيرا عن الأزمة ولا تمثّل حلاّ للأوضاع التي تتردّى فيها الشعوب العربيّة وأنهّ في أكثر من حالة فضّلت هذه القوى الأصوليّة السلطة على المقاومة وأعدّت لمشاريع تعيدنا إلى العهود الغابرة. فديمقراطية الأصوليين تتعطل بمجرد تربعهم على العرش. فمهما كانت اوطنيةب هذه القوى فهي تحسب على االيمينب (إذا جاز التعبير الرائج في أوساط اليسار) وهذا بالنظر لمواقفها من القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية وعلاقتها بالتاريخ كما أن تاريخها حافل بالخيانات والتحالفات المشبوهة مع ألد أعداء الشعوب العربية. فهي لا زالت تشكل العجلة الخامسة لقوى الهيمنة واحتياطيا يمكن توظيفه في مشاريع التقسيم والفتن التي تحاك في كل عالمنا العربي.
مثل كلّ أطياف الفكر القومي لم يتخلّص اليسار العربي من عقدة الهويّة والتراث وعوض أن يتوجّه للقضايا الملموسة وينفتح على مصادر الفكر المختلفة حبس نفسه في إطار جامد وتحوّل زعماءه إلى فقهاء يصدرون الفتاوى والأحكام انطلاقا من مرجعيّة ليعودوا لها في آخر المطاف فتنغلق الحلقة وبذلك يكونون قد بلّغوا أو اعتقدوا أنّهم بلّغوا رسالة. لكنّك بمجرّد أن تفتح الظرف تجده خاويا إلاّ من بعض الشعارات والمقولات التي لم يعد لها من مستجيب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.