شاءت الظروف بعد الثورة أن تدخل المجموعة في لعبة الحروف والأرقام، وفي ظل التشابكات والتقاطعات آلت البطولة إلى حروف الألف واللاّم والعيْن والميم. لقد لعبت الأيام كما يحلو لها وتلهّت بخلط الحروف وتركيبها فأفرزت في النهاية ثلاث كلمات أصبحت تتصدّر يومياتنا صباحا ومساء: الإعلام والأعمال والعمّال! هذه الكلمات السحرية فرضت نفسها في المدوّنة السياسية هذه الأيام وأصبحت ركائز ثابتة في خطب أهل السياسة.. وشكّلت أدوات مهمة لتبادل الهجمات والاتهامات والانتقادات. فعلى خلفية الأحداث التي تعيشها البلاد على مستويات عدّة وفي جهات ومجالات مختلفة واجهت الحكومة الحالية بل السلطة برؤوسها الثلاثة انتقادات لاذعة بسبب عجزها عن مجابهة ما يحدث على حدّ قولها. وقد اكتست تلك الانتقادات بعض الوجاهة في جانب منها فيما بدا بعضها متعسّفا حدّ القسوة في ظل الظروف الاستثنائية التي تمرّ بها البلاد وما يتّصل بها من تجاوزات وتصرّفات غير مبرّرة في بعض الأحيان. كان من المنتظر أن يدفع ذلك كل الأطراف إلى الجلوس حول طاولة الحوار لتبادل الآراء ووجهات النظر والبحث عن الحلول... إلاّ أن حبل التواصل لم يصمد أمام المزايدات والتراكمات وحبّ الذات! ففي حين كان الملاحظون ينتظرون تحرّكا ناجعا من هذا الطرف أو ذاك لرأب التصدّعات وتجاوز الاختلافات وحتى الخلافات، اختارت السلطة وهي الركيزة الأساس في لعبة المدّ والجزر والشدّ والمدّ... أن تنتهج أسلوب الهروب إلى الأمام في طروحاتها رغم تعالي بعض الأصوات المنبّهة إلى ضرورة الاستماع إليها. الهجوم... للدفاع ويبدو أن الماسكين بزمام السلطة متشبّعون بالنظرية الكروية الشهيرة التي تقول: «إن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم»... لذلك لم يتأخروا في تطبيقها لمواجهة الفرق المنتمية إلى المعارضة بمختلف أصنافها المحترفة والهاوية. وقد توخّت في تنفيذ تلك الطريقة الهجومية أسلوب أهل الكرة أيضا حيث عمدت إلى جسّ النبض لدى منافسيها وذلك من خلال بعض التلميحات و«الزلاّت» اللسانية قبل أن ترفّع في النسق وتذهب إلى العمق بالاعتماد على الهجوم الشامل. واعتمادا على خطة المباغتة الهجومية تمّت الاستعانة بلعبة الحروف التي أشرت إليها في البداية لتحديد الأولويات فكان الترتيب التالي: الإعلام ويليه رجال الأعمال ثم العمّال أي اتحاد الشغل. إذن كانت ضربة البداية على حساب الإعلام الذي حمّلوه ومازالوا كل أخطاء الدنيا باعتباره إعلاما متخلّفا ومنحازا حينا وبنفسجيا وصفراويا أحيانا أخرى ولم يتركوا جزءا من لحمه إلاّ ونهشوه. لقد تعدّدت التصريحات النارية في شأنه على أكثر من لسان مسؤول بأن الإعلام ليس فوق النقد وذلك لسبب بسيط لأنه وضعهم تحت مجهر النقد... وتمّ التدرّج في التصعيد الهجومي إلى أن انتقلت كرة النار من أروقة الوزارات إلى القصر الرئاسي حيث تمّ التوقيع على قرار ختم البحث والإدانة ضدّ الإعلام! وتخفيفا من حدّة الموقف وقع إلحاق رجال الأعمال بالملف ذاته وبتهمة المشاركة في بثّ الفوضى وتعطيل دواليب الاقتصاد والبلاد وذلك تأكيدا لما جاء على لسان رئيس الحكومة في مناسبة سابقة... وهذا يعني تثبيت التهمة مع سبق الإصرار والترصّد! لقد سبق هذا وذاك التحرّش بالاتحاد العام التونسي للشغل من بعض الأطراف وما تبعه من تبادل للاتهامات والانتقادات. ولئن كانت التهمة واضحة بخصوص الإعلام ورجال الأعمال، فإن حشر الشغالين تمّ بالإيحاء والإشارة... واللبيب من غير همز أو لمز يفهم.. أسلوب قاصر... هذه القراءة السريعة لمستجدّات الساحة الوطنية تجعلنا نطرح بعض الأسئلة التي تبحث عن أجوبة عاجلة وفاصلة: لماذا هذه الهجمة الثلاثية على ركائز لها أهميّتها القصوى في بناء البلاد؟ وهل يمكن بواسطتها معالجة السلبيات وتجاوز الصعوبات؟ لقد أصبح من البديهيات القول بأن الثورة لم تأت لتكريس منطق الاتهامات والاتهامات المضادّة بقدر ما قامت على المبادئ الداعية إلى ترسيخ قواعد الحوار الحرّ والنزيه والمترفع عن ممارسات التسلّط والضرب تحت الحزام من أي طرف كان. لذلك يمكن القول إن محاولات التدجين للإعلام وإخضاعه إلى تمش معيّن وبلون واحد لا تخدم مصالح أي جهة بما في ذلك السلطة والمعارضة معا.. إننا في حاجة إلى إعلام وطني منحاز إلى الحق والمصلحة العليا للبلاد دون سواها. أما رجال الأعمال فهم أقدر من غيرهم على الدفاع عن موقعهم صلب المنظومة الوطنية من خلال أعمالهم وأفعالهم، ونعتقد أن لا مصلحة لأحد في تجميد أنشطتهم وتحويلهم إلى رموز على حائط مبكى جديد يؤمّه الحاقدون... وهذا يفترض التعامل مع تلك الفئة بالموضوعية والنزاهة اللازمتين حتى نقول للمخطئ أخطأت وندفعه ثمن أخطائه ونقول للمحسن أحسنت حتى يواصل عطاءه لفائدة المجموعة الوطنية. أما اتحاد الشغل تلك المنظمة الوطنية العريقة بتاريخها ونضالاتها ورجالاتها ماضيا وحاضرا، فهو لا يحتاج إلى دفاع... فأعماله وإنجازاته ضمن القوى الحيّة بالبلاد شاهدة على حضوره القوي عبر المحطات التاريخية الكبرى. لكلّ هذا نقول إننا في غنى عن مثل هذه الممارسات الإقصائية والاتهامات التي تلقى جزافا، فالمرحلة لا تحتمل الرقص على حبال الاتهامات والهجمات المعاكسة... فكلّنا على ظهر مركب واحد وعلى الربّان أن يحسن القيادة حتى لا نغرق جميعا... لا قدّر الله.. ويدفع المواطن والوطن الثمن!