الحركة الإسلامية التونسية – وتحديدا حركة «النهضة» – هي نتاج للتجربة التاريخية والاجتماعية التونسية، وهي تتطلع إلى «الأنموذج» التركي أكثر منه "الاخواني" فوز «النهضة» خلّف، ولا يزال، تخوفات لدى النخب العلمانية وقطاعات واسعة في المجتمع من إمكانية تنكرها للخيار الديمقراطي الذي أوصلها للحكم لقد فاجأ بروز الظاهرة الإسلامية في سبعينات القرن الماضي، النظام السياسي وكذلك النخب الفكرية والجامعية باعتبار أن البيئة التحديثية التونسية آنذاك كانت في نقيض مع كل أشكال تصور «عودة المقدس»، لتتحول بعد ذلك- هذه الظاهرة- إلى مطلب إيديولوجي للشباب الطلابي . لم يفاجأ الباحثون في ظاهرة الإسلام السياسي، وخاصة الحركة الإسلامية في تونس ممثلة في حركة «النهضة»، بالموقف الذي أعلن عنه رئيسها الشيخ راشد الغنوشي، والمتمثل في الاكتفاء بالفصل الأول من دستور 1959 الذي تعتبره الحركة كافيا للتأكيد على الهوية الإسلامية للدولة التونسية. وذلك بعد تصاعد مطالب إدراج الشريعة في الدستور القادم، وما يعنيه ذلك من تقسيم المجتمع بين «مسلمين» و"أنصار الشريعة". ينسجم هذا الموقف «التقدمي» مع التطور الفكري الذي عرفته حركة «النهضة» في علاقة تفاعلية مع التطور التاريخي والاجتماعي للبلاد التونسية. وهو ما حاولنا «الحفر» فيه وإبرازه، من خلال كتاب «الإسلاميون في تونس..من الاجتثاث إلى الحكم» ، والذي سيصدر خلال الأيام القليلة القادمة. وفيه محاولة إجابة عن الأسئلة التالية: ما هي سيناريوهات المشهد السياسي القادم في تونس بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم؟ وما مدى قدرة «النهضة» على التحول إلى حزب سياسي مدني يؤمن بالتداول على السلطة؟ وما هي نقاط الانقطاع والتواصل بين الديني والسياسي/المدني، بين «المقدس والمدنس» في رؤية الحركة الإسلامية التونسية ممثلة في حركة «النهضة»؟ وما مدى استفادتها من تجارب الحكم «باسم الإسلام» سواء الفاشلة في السودان وإيران أو الناجحة في تركيا وماليزيا؟ وهل هي قادرة على إعادة إنتاج تجربة الأحزاب المسيحية في أوروبا؟ "التونسية" تنفرد بنشر ملخص للكتاب وعلى حلقات أعاد الربيع العربي، الذي انطلق من تونس، صياغة المشهد السياسي والخارطة الحزبية، لا في الدول التي شهدت ثورات فقط، بل حتى في تلك التي لم تنجز فيها أو هي في طور الانجاز. وعاد معه سؤال البحث حول ظاهرة الإسلام السياسي، التي «قتلت بحثا ودرسا» ومع ذلك ما تزال تشغل الباحثين في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية وأيضا في العلوم السياسية. الإسلام السياسي حاكما تزامنت ثورة 14 جانفي في تونس، مع العودة القوية لهذا التيار، ليحتل مساحة واسعة في الفضاء العام، وفي المشهد السياسي ويتصدر نتائج الانتخابات التي تمت في 23 أكتوبر 2011. ما يفند الأطروحة التي سادت منذ بداية تسعينات القرن الماضي، والتي من أبرز ممثليها عالم الاجتماع الفرنسي أولفي روي، في كتابه «فشل الإسلام السياسي»، والذي رأى في أحداثيات الثورة التونسية أنها «ما بعد إسلامية»، في إشارة قاطعة إلى عدم قيادة التيار الإسلامي للحركة الاحتجاجية وخلو شعاراتها – على خلاف سابقاتها من الإيديولوجية الدينية، واقتصارها على المطالبة بالعدالة الاجتماعية وبالديمقراطية. كشفت أحداث ما بعد الثورة، عن حضور قوي للإسلاميين، ترجم خاصة خلال الانتخابات التي انتظمت عشرة أشهر بعد 14 جانفي 2010 –تاريخ الثورة - التي أوصلت الإسلاميين إلى الحكم. برغم أنهم لم يتزعموها، وكانت مشاركتهم فيها محدودة. بل أن حركة النهضة (التيار الإسلامي المؤثر والأكثر حضورا في تونس) فاجأته الثورة، مثلما هو شأن كل التيارات والأحزاب الأخرى، أيا كانت خلفيتها الإيديولوجية. ومع ذلك فقد «استفادت» الحركة الإسلامية أكثر من غيرها بما جعلها تتقدم – وعبر انتخابات حرة وديمقراطية – إلى إدارة مرحلة ما بعد الثورة. وضع جديد سيكون له تأثير يتجاوز صداه الفضاء القطري/التونسي والإقليمي إلى المستوى العربي، وبالتالي ميلاد استراتيجية جيو-سياسية جديدة في التعاطي مع الحركات الإسلامية المعتدلة، بعد سنوات من الرفض والتشويه للإسلام وللحركات الناطقة باسمه، على خلفية أحداث 11 سبتمبر2001. وقد بدأت ملامح تعديل الموقف من الظاهرة الدينية في التشكل في الغرب، من خلال مواقف بدت «متفهمة» لصعود أنظمة عربية يحكمها التيار الإسلامي المعتدل. ولم يبق موقف الغرب في حدود ما هو سياسي ظرفي – مبني وخاضع للمواقف و ردود الأفعال-، بل تجاوز ذلك إلى البعد الاستراتيجي، والتصريح «بأنه لا يوجد تناقض جوهري بين الإسلام والديمقراطية»، وان «الإسلاميين ليسوا جميعهم سواسية»، في إشارة إلى وجود تيبولوجيا/تصنيف غربية للحركات الإسلامية. فاجأت تونس العالم بانجاز أول ثورة شعبية سلمية في القرن الواحد والعشرين، فكل المتابعين للحراك المجتمعي في الدول العربية، لم يتنبؤوا لحدوث الثورة في تونس، بل أن الظروف كانت مناسبة أو مهيأة أكثر في مصر واليمن مثلا –قبل تونس – بسبب وجود حركات احتجاجية قوية ومؤثرة. ومثلما قامت الثورة البلشفية في روسيا الزراعية، بخلاف ما كان يتصور ماركس بأولوية قيامها في مجتمع صناعي، قامت الثورة في تونس التي عرفت باستقرار سياسي وتجربة تحديثية –لا مثيل لها عربيا - ووحدة طبيعية وبشرية. إضافة إلى تجذر تراث الدولة المركزية القوية. وهي ذات العناصر أو المقومات التي أمنت نجاح الفترة الانتقالية، وتسليم السلطة سلميا، بعد انتخابات ديمقراطية، في تجربة «فارقة» و"واعدة". نفسها المكاسب المجتمعية التقدمية، تمثل حصانة للمجتمع التونسي من عودة الاستبداد تحت واجهة دينية هذه المرة. ممّا يجعلنا نتمسك بوجاهة المقاربة السوسيولوجية التي ترى بأن الحركة الإسلامية – وتحديدا حركة «النهضة» – هي نتاج للتجربة التاريخية والاجتماعية التونسية. وأن «الجماعة الإسلامية» التي نشأت في بداية السبعينات من القرن العشرين، من منطلقات وأدبيات «إخوانية» نسبة إلى جماعة الإخوان المسلمين المصرية، سرعان ما فرض عليها مجتمعها التكيف مع خصوصياته، وأنها انتهت إلى التسليم بمقولة «تونسة الحركة» عوضا عن «أسلمة المجتمع» وفق التصور والمنهج الذي دعا إليه سيد قطب في كتابه الشهير "معالم في الطريق". يتبع