مرة أخرى تطفو على الساحة مسألة إقصاء التجمّعيين من الحياة السياسية وذلك على إثر ما جاء في خطاب رئيس الحكومة المؤقتة حمادي الجبالي يوم 9 افريل الجاري من «أنّه لن يسمح للتجمّعيين بالعودة إلى ممارسة الحياة السياسية من الشبّاك بعدما غادروها من الباب». وفي هذا الإطار دعت الهيئة السياسية لحركة «النهضة» إلى سنّ قانون يمنع رموز «التجمع» من ممارسة العمل السياسي خلال العشر سنوات القادمة، كما بادر عدد من نواب «المؤتمر من أجل الجمهورية» بإعداد مشروع تنقيح للمرسوم المنظّم للأحزاب السياسية يتضمن استثناء كل من تحمّل مسؤولية سياسية في حزب التجمّع أو في الحكومة في الفترة المتراوحة بين 7 نوفمبر 1987 و14 جانفي 2011 من ممارسة العمل السياسي لمدة 5 سنوات. والمقصود بالمسؤوليات السياسية هي أمين عام «التجمع» وعضو ديوان سياسي وأمين عام مساعد وعضو لجنة مركزية وكاتب عام لجنة تنسيق وكاتب عام جامعة ورئيس شعبة إلى جانب طبعا عضوية الحكومة. ويرى الملاحظون أنّ أصحاب هذه المبادرة من كتلة المؤتمر المقربين من الرئيس المرزوقي ما كانوا ليقدموا عليها لو لم يجدوا مباركة مسبقة من طرف كتلة «النهضة» التي تتحكم في مجريات التصويت داخل المجلس الوطني التأسيسي بحكم حيازتها على أكثر من ثلث المقاعد وهو ما صرّح به رئيسها الصحبي عتيق من استعداد لمباركة أيّ مشروع يندرج في هذا الإطار بل أنّه ذهب إلى أكثر من ذلك مطالبا بأن يمتد المنع إلى 10 سنوات. لماذا هذه الدعوة لمعاقبة التجمّعيين ولماذا الآن؟ عديد المؤشرات تفيد بأن التجمّعيين والدستوريين بدؤوا يجمعون شتاتهم للتموقع في الخارطة السياسية الجديدة وذلك بعد تقييمهم لنتائج الانتخابات الأخيرة وما أفرزته من تحالفات فرضها الواقع الجديد في ظلّ هيمنة «الترويكا» على الحياة السياسية ومسكها بكل مقاليد البلاد وسيطرة حركة «النهضة» على كل مجريات الأمور. وجاء الاجتماع الكبير ليوم 24 مارس الفارط بالمنستير والذي حضره إلى جانب الوزير الأوّل السابق الباجي قائد السبسي عدد من الرموز التجمّعية والدستورية ومن قادة المعارضة ليدق ناقوس الخطر أمام حركة «النهضة» بالخصوص التي ترى في التجمعيين إذا ما توحّدوا تشكيل قوّة وسطية كبرى قادرة على منافستها في الاستحقاقات الانتخابية القادمة. فاليسار الذي كان وراء الدعوة إلى حلّ التجمّع والذي وجّه سهامه إلى رموز النظام السابق وأتباعه وفلوله لا يمثّل ثقلا كبيرا كما أنّ حضوره في وسائل الإعلام لا يعكس حجمه الحقيقي في الساحة السياسية وهو حجم يبقى متواضعا إن لم أقل ضعيفا مقارنة بحجم الإسلاميين وحلفائهم من السلفيين و«حزب التحرير» وبالتالي فهو لا يشكّل منافسا جديا ل«النهضة» التي استعملت ولا تزال سلاحا خطيرا لمواجهته وهو سلاح الدين كأداة هامّة لمجابهة العلمانيين ومن لفّ لفّهم. لأجل ذلك فهو يسعى إلى تعزيز مواقعه في الأوساط النقابية وفي الجامعة من خلال الاتحاد العام لطلبة تونس ذي المرجعية اليسارية. كما أنّ جماعة البعث والقوميين والناصريين في طريقهم إلى الاندثار باعتبار أنّ هذه القوميات لم يبق له دور يذكر حتى في بلدان المنشإ. ومن جهة أخرى فإنّ حركة «النهضة» تراهن على استقطاب القواعد التجمعية الدستورية لها والتي تبقى من حيث تركيبتها الاجتماعية وثقافتها الدينية أقرب إلى الإسلاميين منها إلى أيّة حركة أخرى، بما في ذلك المبادرة الجديدة التي أطلقها الباجي قائد السبسي الذي يؤاخذه البعض من التجمّعيين على تصريحاته خاصّة تلك التي أكدّ فيها أنّه هو من أمر بإيداع رموز التجمع في السجن كما أنّ الفريق الذي كوّنه من حوله للتسويق لمبادرته يتركّب من شخصيات مقربة منه ولا يشمل أي دستوري أو تجمّعي. وللتذكير فإنّ حوالي ثلث الأصوات التي تحصّلت عليها حركة «النهضة» يوم 23 أكتوبر الفارط كانت من القواعد التجمّعية. وطبيعي أن ترتفع أصوات ضدّ الإقصاء سواء في صفوف المعارضة أو من بعض الشخصيات الوطنية المستقلّة أو من التجمّعيين أنفسهم. فالكلّ يجمع على أنّ الثورة التونسية لم يكن لها لا زعيم ولا تنظيم بل هي ثورة عفوية كان شباب المناطق الداخلية والمهمّشة وقودها و حطبها ونادت بالعدالة لكل التونسيين وبالحرية لكافة أفراد الشعب و للكرامة لكل فئاته دون إقصاء وبالتالي يرى المعارضون لعملية الحرمان في منع المسؤولين السابقين في حزب التجمّع من ممارسة حقوقهم السياسية ضربا من ضروب العقاب الجماعي المنافي لمبادئ الثورة وللقوانين الدولية ولعلّ العراق يبقى البلد الوحيد الذي أقدم على حرمان البعثيين من ممارسة السياسة والنتيجة أنّه لا يزال إلى حدّ الآن يعاني من تبعات هذا القرار وذلك بالرغم من اختلاف الأوضاع لأنّ التغيير في تونس جاء عن طريق ثورة غير مسلّحة في حين أنّ التغيير في العراق حصل بفعل غزو أجنبي الذي أطاح بنظام البعث. وبالتالي فالشعب التونسي هو وحده الذي يمارس هذا النوع من الإقصاء من خلال انتخابات نزيهة و شفافة ويعاقب من يشاء إن ارتأى أنّه أهل لذلك بعدم التصويت له. ومن المفارقات أنّ الدعوة للعقاب الجماعي للتجمّعيين صدرت عن أطراف عانت من ويلات الإقصاء والعقاب وهي أطراف ما كان لها أن تصل إلى سدّة الحكم لولا ثورة 14 جانفي ولكن للسياسة شؤونا وغايات من شأنها أن تسقطنا في بعض المطبّات التي قد تكون نتائجها غير محمودة. ويتساءل المناهضون للحرمان هل أنّ تونس اليوم وفي هذا الظرف الصعب الذي تمرّ به قادرة فعلا على تحمّل المزيد من الأوجاع؟ وهل أنّ الشرعية التي اكتسبتها الأطراف الفاعلة في المجلس التأسيسي تعني صكّا على بياض يخوّل لها أن تفعل ما تشاء وأن تقصي من تشاء وأن تعطي ما تشاء لمن تشاء بغير حساب ؟ ألم يقدم النظام السابق قبيل الانتخابات الرئاسية سنة 2009 على تنقيح القانون الانتخابي بهدف حرمان رمزين من رموز المعارضة وهما نجيب الشابي ومصطفى بن جعفر من الترشّح؟ وبالرغم من ذلك فلا حزب الشابي ولا حزب بن جعفر طالبا بإبعاد التجمّعيين. فلما لا نتّعض بأخطاء الماضي ولا نعمل على التجاوز من خلال عدالة انتقالية تقوم على المحاسبة أمام قضاء مستقل و نزيه قبل المرور إلى المصالحة. إن «الترويكا» الحاكمة وبالخصوص حركة «النهضة» أمام قرار مصيري فإما أن تدفع بالبلاد في اتجاه المصالحة الحقيقية بعيدا عن التشفّي والانتقام وأن تفسح المجال أمام كل التونسيين دون استثناء بممارسة حقوقهم السياسية ما عدا الذين يثبت القضاء تورّطهم في الفساد أو أن تزجّ بالبلاد في نفق قد يبدو مظلما. فلما لا تترك للشعب الكلمة الفصل من خلال انتخابات حرّة ونزيهة وشفافة؟ ولكنّ المصالح السياسية قد تتضارب أحيانا مع المبادئ والقيم حتى تلك التي كرّسها الدين الإسلامي الحنيف في الآية الكريمة «فليعفوا وليصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم".