صعوبة الحصول على وظيفة نتيجة تفاقم أزمة البطالة ولهفة العاطلين على أبواب الرزق تدفع بالكثير من شبابنا إلى السعي بكل ما أوتي من جهد وطرق لضمان عمل يقيهم ذلّ الحاجة ممّا يوقع جانب هام في فخ المتحيّلين فيتحوّلون إلى فرائس سهلة بعد أن تغريهم بعض «مكاتب التشغيل» بعروضها الخيالية وتزين لهم «الجنّة التي تنتظرهم». وللأسف يعمد المتحيّلون إلى وسائل عديدة وطرق ملتوية وفخاخ محكمة النصب لا يكتشف الضحايا حقيقتها إلا بعد فوات الأوان ويبقى السؤال المطروح: ما هو الإطار القانوني لهذه المكاتب؟ ومن المسؤول عن ممارسات المسمسرين بأحلام الباحثين عن شغل؟ وكم عدد المكاتب التي تعمل في هذا النشاط؟ «التونسية» فتحت الملف واستقت شهادات حيّة لعاطلين عن العمل سقطوا ضحايا الاحتيال والابتزاز بعد استدراجهم بطرق شيطانية. بداية الحكاية تنطلق بإعلانات يومية تُغرق صفحات الجرائد لمكاتب أو شركات أو لأشخاص يقدمون جميع المغريات لاستدراج العاطلين عن العمل والباحثين عن شغل يمكّنهم من تحصيل لقمة العيش مع حرص هذه المكاتب على الاكتفاء بتقديم بعض الأرقام الهاتفية لتبقى للحالمات والحالمين بالعمل فرصة اكتشاف المفاجأة والتي عادة ما تنتهي إما بتغيير المكان أو باختفاء أثر المكتب وأصحابه وإمّا بإجابة تقول: «نعلمكم أنّ خطّ مخاطبكم قد توقف عن العمل» ومن هنا تنطلق فرصة البحث من جديد عن عمل مثلما كان الشأن مع دلال العجمي التي لم يمنعها إصرارها على الحصول على عمل من معاودة الكرّة أكثر من مرّة لتتجدّد معاناتها مع التحيّل. محدثتنا قالت باكية إنّ كل السبل ضاقت بها ولم تعد قادرة على تحمّل وضع البطالة فهي متخرّجة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمنوبة منذ سنة 2002 ومنذ ذلك التاريخ وهي في سياق ماراطوني مع الوقت. عن بداية حكايتها تقول دلال إنّ صديقتها روضة اقترحت عليها الالتجاء إلى مكتب تشغيل يقع ب«لافيات» وأعلمتها أن هذا المكتب سيفتح أمامهما فرصة العمل وتضيف دلال إنّ الشخص الذي تم الاتصال به قدّم لها إغراءات عديدة فقرّرت هي وصديقتها التوجه إلى المكتب المذكور وبعد جلسة و«محادثة» جمعت بينهما لمدة 15 دقيقة طلب منهما دفع مبلغ 20 دينارا معلوم التسجيل ومبلغ 60 دينارا معلوم الدورة التكوينية وأضافت: «أعلمنا أننا سنتمكن من العمل في غضون أسابيع قليلة، تلقينا تكوينا لمدة أسبوع وطلب منا بعدها الانتظار قليلا». وتواصل محدثتنا حكايتها مشيرة إلى أنّها يوم 26 مارس 2005 توجهت صحبة صديقتها إلى المكتب سيّما أن مدّة الانتظار قد طالت وكانت المفاجأة حيث تحوّل مكتب التشغيل الى مكتب دراسات وتقول دلال إن ما حدث شكّل صدمة لها ولم تصدق الأمر فاتصلت برقم هاتف صاحب المكتب وكانت الاجابة «نعلمكم أن خط مخاطبكم قد توقف عن العمل». وبصوت حزين ودعتنا دلال قائلة إنها لم تيأس من البحث عن عمل رغم الأموال التي أعطتها مشيرة الى أن الخسارة المعنوية أكبر. تحيّل ومعاكسة أما صابرين فهي فتاة جميلة، صبورة، تتميز بدماثة الأخلاق ورقة الاحساس حدثتنا عن تجربتها فقالت إنها تخرجت سنة 2006 من كلية الحقوق والعلوم السياسية وبعد سنة كاملة من «الراحة» قررت الدخول في معترك الحياة والبحث عن عمل يكفل لها العيش الكريم. وأضافت أنها تريد تحمّل المسؤولية لتعين والديها على مجابهة مصاريف الحياة اليومية سيّما وأن حالتهما المادية صعبة جدا حيث يعمل والدها نادلا بمقهى في ما تقوم والدتها أحيانا بإعداد خبز «الطابونة» لبيعه في بعض المحلات. وتواصل محدثتنا قائلة إنها طالعت مؤخرا إعلانا بإحدى الصحف يهم الباحثين عن عمل فاتصلت على الفور برقم الهاتف المشار إليه فأعلمها المخاطب أنه يمكنها الحصول على وظيفة قارة في ظرف لا يتجاوز الأسبوع شريطة التسجيل بالمكتب الكائن بتونس العاصمة. وتضيف محدثتنا إنها توجهت الى مكتب التشغيل على الساعة العاشرة صباحا. وبسؤالنا عن المكان تنهدت محدثتنا وقالت: «لقد كان المكتب ضيّق جدا.. امتلأ منذ الساعات الأولى للصباح بعدد كبير من الفتيات والشبان من مختلف الأعمار والجهات وكان لكل واحد من العاطلين عن العمل الحاضرين حكاية لا تخلو من «مأساة» عنوانها الأبرز هو اللهث وراء عمل يحفظ له كرامته». ثم أضافت إن المسؤول عن المكتب استقبلها استقبالا حارا ثم ابتسمت قليلا قائلة: «فعلا لقد وجدني فريسة سهلة» حيث طلب منّي مبلغ 60 دينارا معلوم التكوين في الإعلامية فأخبرته آنذاك أن حالتي المادية لا تسمح بتوفير هذا المبلغ فطمأنها وقال لها إنها فرصة العمر وهو مبلغ بسيط مقارنة بالراتب الشهري الذي ستتقاضاه (يفوق 600 دينار) وبعد أن مكنته من المبلغ طلب منها العودة بداية من الأسبوع المقبل ثم ختم محدثتنا لتقول إنها حاولت الاتصال به مرارا لكنها لم تحصل لا على إجابة ولا على وظيفة. عناوين وهمية «إذا غاب القانون حضرت الفوضى»، هكذا استهلت سمية البرهومي حديثها معنا وهي تروي لنا ما حصل مع شقيقتها حيث وقعت في فخ شبكة هؤلاء المتحيّلين عندما قامت بدورة تكوينية في مكتب تشغيل خاص مقابل معلوم مادي يقدر ب 90 دينارا. وقد تم ايهامها بالحصول الفوري على وظيفة والأغرب من ذلك أن صاحب المكتب سلمهم عقود عمل بحضور شخص قال أنه محام كما أن عددا كبيرا من المسجلّين بهذا المكتب قد وقعوا في الفخ حيث وبعد تسلّمهم لتلك العقود اتضح أن الشخص متحيّل وأكدت سمية على ضرورة «اليقظة» التامة من مثل هذه المكاتب التي تستغل العاطلين عن العمل قصد إيهامهم بفرصة العمر. أما سنية فهي فتاة تبلغ من العمر 32 عاما أصيلة مدينة سوسة، تقول إنها تعودت على الانتقال كل شهر الى العاصمة لإجراء الامتحان الشفوي والكتابي الذي تضطر لاجتيازه كلما وقع استدعاؤها من طرف مكتب تشغيل وهي كذلك مطالبة بدفع مبلغ مالي قدره 30 دينارا، وأفادت سنية أنها رغم ما تعاني من فقر وخصاصة فانها تلجأ للتداين بالاقتراض من الجيران حتى تتمكن من تأمين مصاريف تنقلها الى تونس وتسديد معلوم التسجيل وتحمل شقاء التحول من سوسة الى العاصمة صيفا وشتاء بالاضافة الى ما تعانيه من بدانة.. وأكدت سنية أن ما يحزّ في نفسها أنها تعرضت للتحيل من قبل مكتب التشغيل الذي ترتاده 5 مرات وفي كل مرة يقع اعلامها بأنها فشلت في الامتحان، وعند ما قررت مقاضاة العاملين بالمكتب، أوصد أبوابه واختفى وكأن شيئا لم يكن، حتى أنها التقت مجموعة ممن وقعوا في مصيدة التحيل أمام المكتب وهم في حالة وجوم... ومضى كل الى حال سبيله. وغير بعيد عن حالة سنية قال لنا محمد حسنين البالغ من العمر 26 سنة متخرج من شعبة التنشيط السياحي وهو عاطل عن العمل حاليا إنه يلجأ إلى مكاتب التشغيل الخاصة محاولة لتحقيق حلمه في العمل بالخارج وقد اكتشف أن المكتب الذي توجه له ما هو إلا مكتبا وهميا وظيفته التحيل على الباحثين عن عمل حيث طلب منه صاحب المكتب معلوم تسجيل أوليّ مقداره 100 دينار ثم بعد ذلك 3000 دينار معلوم عقد العمل والتأشيرة. وأضاف محدثنا إن مثل هذه الممارسات يجرمها القانون حيث أن الأمر عدد 2948 لسنة 2010 المؤرخ في 9 نوفمبر 2010 المتعلق بضبط شروط وصيغ وإجراءات منح ترخيص تعاطي مؤسسات خاصة لأنشطة في مجال التوظيف بالخارج واضح وصريح في فصله الرابع الذي يمنع المؤسسة من التوظيف بالخارج أن تتقاضى بصفة مباشرة أو غير مباشرة كليا أو جزئيا المقابل المالي أو أية تكاليف أخرى من قبل المترشح للتوظيف بالخارج مؤكدا في هذا الصدد على ضرورة وجود قانون يحمي المترشح من كل أشكال التحيل ويوفر الضمانات اللازمة لطالب الشغل. من جانبه قال محمد وهو أحد ضحايا تحيل مكاتب التشغيل الوهمية انه تعود البحث عن شغل بتسجيل اسمه ضمن قائمة العاطلين الموجودة لديهم بمعلوم قدره 20 دينارا شهريا. وأفاد محمد أنه أبدى اعجابه بعرض شغل كان معلقا على حائط أحد مكاتب التشغيل التي كان يتردد عليها فقام بالاتصال بالشركة العارضة هاتفيا ففوجئ بأن الرقم المسجل غير موجود أصلا فتفطن الى أنه قد وقع التحيل عليه وابتزاز أمواله فتقدم بشكوى ضد مكتب التشغيل، الذي تنصل من المسؤولية حسب أقواله. أكثر من 50 مكتبا وهميا في تونس العاصمة من جهته أكد مراد الصالحي رئيس جمعية المعطلين عن العمل أن عدد مكاتب الشغيل الوهمية قد ارتفع خلال السنوات الأخيرة. وعن هذه المكاتب يقول الصالحي انها تعمل تحت أسماء مستعارة وعادة ما يستغل أصحاب النفوذ ثرواتهم في مثل هذه المشاريع الوهمية لتحصيل أموال طائلة وجني أرباح وفيرة. وأشار رئيس جمعية المعطلين عن العمل الى أن احدى قريباته وقعت بدورها في فخّ هذه الشركات والمكاتب الوهمية حيث قامت بتسجيل نشاط الجمعية عبر احدى شركات الخدمات ودفعت مبلغا ماليا يقدر ب 50 دينارا مقابل التسجيل واتضح فيما بعد أن الشركة وهمية. وجدير بالذكر أن هناك 5 مكاتب فقط مرخص لها من قبل وزارة التكوين المهني والتشغيل عدا ذلك فإن بقية مكاتب التشغيل التي تزعم تقديم فرص الشغل بالخارج غير معترف بها كما أن مكاتب التشغيل الخاصة ليست منظمة فكثيرا ما يجد الشاب الطموح نفسه أمام عملية ابتزاز وتحيّل. وينصح هنا باليقظة التامة حتى لا يقع طالب الشغل في مصيدة تحيل من طرف أحد مكاتب التشغيل المشبوهة لأنه في صورة تعرض طالب الشغل لعملية تحيل عن طريق مثل هذه المكاتب فلا شيء يحميه سوى دفع قضية تحيل ضد المكتب وعادة ما تكون القضية «خاسرة» لأن أصحاب هذه المكاتب يجيدون كثيرا فنون التحيل ويعملون بأسماء مستعارة وسرعان ما يختفي أثرهم بعد كل عملية تحيل.