بقلم: مصطفى قوبعة يفترض أن تكون المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان هي الجذع المشترك بين جميع التونسيين، فهذه المبادئ هي في النهاية صمام الأمان ضد كل الانحرافات والمخاطر التي تهدد مجتمعنا في أهم مرحلة يعيشها في عصره الحديث. في فترة الاستبداد السياسي أو سنوات الجمر كما يحلو لبعض السياسيين أن يصفها، وكما عاشها نشطاء ومناضلون من تيارات سياسية مختلفة وفي مقدمتهم قياديو ونشطاء حركة «النهضة»، كانت هذه المبادئ هي ملاذهم الأول والأخير، بها احتموا سواء كانوا في الداخل أو في المهجر، وانطلاقا من هذه المبادئ تنظمت أكبر وأهم عمليات تعبئة للرأي العام الوطني والدولي في محاولات لحشد المساندة والتأييد لضحايا الاستبداد ولكسر الحصار السياسي والإعلامي المفروض عليهم وللتشهير بالخروقات القانونية التي رافقت محاكماتهم كما حالات التعذيب التي تعرضوا إليها. كما مثلت هذه المبادئ مرجعية ثرية للطبقة السياسية الناشطة بمختلف توجهاتها لبناء خطابها السياسي وتمريره قدر الإمكان ويمكن القول إن الحركة الاحتجاجية الشعبية التي اندلعت شرارتها يوم 17 ديسمبر 2010 استمدت كل شعاراتها في مضامينها السياسية والاقتصادية والاجتماعية من مبادئ حقوق الإنسان، في ظل غياب قيادة سياسية لهذه الحركة الاحتجاجية عند انطلاقها وفي ظل تعثر بناء هذه القيادة لاحقا.. في الماضي القريب جمعت مبادئ حقوق الإنسان بين كل التونسيين، واليوم تفرقهم حسابات سياسية ضيقة وأخرى مستحدثة ومستجدة لا شرعية تاريخية لها تطعن في الصميم القاسم المشترك الوحيد بين التونسيين وتطلعاتهم. إن التنكر اليوم، من أية جهة كانت، لمبادئ حقوق الإنسان ولروح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بمواده الثلاثين وبمحاوره الخمسة المتمثلة في الحقوق السياسية والحقوق المدنية والحقوق الاقتصادية والحقوق الثقافية ومبدإ المساواة في الحقوق هي جريمة في حق هذا الوطن، وعلى مؤسسات الرئاسات الثلاث أن تتحمل مسؤولياتها كاملة وأن توضح موقفها من كل محاولات الالتفاف على هذه المبادئ بمناسبة صياغة دستور البلاد، خاصة بعد ما تضمنه المشروع الأولي من إشارات بعضها يهدد ما تحقق من مكاسب، وبعضها الآخر يوحي بتوقع الأسوء سواء في ما يتعلق بمدنية الدولة أو بمكانة المرأة أو بوضع الحريات عموما. إن رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الوطني التأسيسي هما بدرجات متفاوتة خريجا المدرسة الحقوقية، ورئيس الحكومة كان من حرفائها «المبجلين»، ومن غير المقبول منهم شخصيا ومن الأحزاب التي يمثلونها السماح بإحداث أية شروخات في نص الدستور وفي مضمونه تضرب في العمق تماسك نسيج مجتمعنا والانسجام الذي طبعه على امتداد عصور طويلة، فتونس هي تونس، الدين فيها لله والوطن يتسع للجميع. اليوم كذلك، لا يكفي رفع وترديد مبادئ حقوق الإنسان والانتظار من الناس تبنيها، خاصة وقد اتضح لنا جميعا أن ثقافة حقوق الإنسان لا تزال ثقافة نخب وقيادات وأن روحها ومعانيها لم تصل بعد إلى أعماق الوطن في شرائحه وجهاته الأكثر تهميشا. لقد عشنا في السابق نوعا من التلازم بين عدم احترام حقوق الإنسان وتفشي الجهل والتجهيل والفقر ومظاهر الاستبداد، وفي المقابل تستوجب طبيعة المرحلة الحالية من جملة ما تستوجب إرساء أسس متينة لتلازم لا غنى لنا عنه بين احترام حقوق الإنسان والنضال من أجل التقدم والتحرر انطلاقا من عمليات متنوعة لنشر ثقافة حقوق الإنسان على أوسع نطاق. صحيح أن للإعلام المرئي والمسموع والمكتوب والافتراضي والمواطني دورا كبيرا في هذا الجهد، وصحيح أن للأحزاب نصيبها من المسؤولية في الترويج أكثر وبشكل أفضل لثقافة حقوق الإنسان وتبسيط مفاهيمها وإيلائها المكانة التي تستحق في خطابها السياسي. ولكن يبقى الدور الرئيسي في هذا الجهد من نصيب الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، ولأن هذه الأخيرة هي مؤسسة جامعة لكل الطيف السياسي في البلاد ورائدة النضال الحقوقي فيه، فإنها هي المؤتمنة قبل غيرها على حقوق الإنسان فكرا وثقافة وممارسة طالما أن اهتمامات وزارة حقوق الإنسان في حكومة «الترويكا» بقيت اهتمامات فئوية وضيقة، واللبيب دون إشارة يفهم. في الوضع الراهن، مطلوب من الرابطة التي طالما دافعت عن حقوق الإنسان أن تعمل أكثر من أي وقت مضى على نشر ثقافة حقوق الإنسان جماهيريا قبل الدفاع عنها والانتقال من أوساط النخب إلى أوسع القطاعات الشعبية والاقتراب منها أكثر. إن كل المبادرات التي تأتي من الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ولئن كانت متأخرة هي أفضل بكثير من عدمها بالنظر إلى خطورة ارتدادات المسار الثوري أو المسار الانتقالي التي تتجاوز حدود التباينات في الخيارات السياسية والاقتصادية التي تبقى قابلة للنقاش وللمعالجة السياسية لتطرح بدائل مؤسساتية ومجتمعية تتناقض وتنسف كل الضمانات والتفاهمات والتطمينات المعلنة قبل 23 أكتوبر 2011 في خصوص ملامح المشروع المجتمعي كما سيرسمه الدستور الجديد. مطلوب من الرابطة أن تفعّل هيئتها الوطنية ومكاتبها الجهوية والمحلية أينما كانت، فتضع ما يلزم على المدى القصير برامج وطنية وجهوية لنشر ثقافة حقوق الإنسان باعتماد بيداغوجيا تختلف باختلاف الجمهور المستهدف سواء في الأحياء الشعبية أو في التجمعات العمالية والمهنية أو في المؤسسات التربوية أو في مؤسسات التنشيط الشبابي والثقافي. هنا كل شيء ممكن من أجل نشر ثقافة حقوق الإنسان، فهذا من حق الرابطة كما من واجبها، حلقات تحسيسية مباشرة مع المواطنين في الأحياء وفي مواطن العمل، مطويات ومعلقات في كل مكان، حصص نموذجية منتظمة في مؤسسات التعليم، ورشات عمل في مؤسسات الشباب والثقافة، فضلا عن اكتساح وسائل الإعلام بمختلف وسائطها. كل شيء ممكن من أجل نشر ثقافة حقوق الإنسان فالمعركة وإن بدت في ظاهرها سايسية، فهي بامتياز معركة حقوق الإنسان ومن أجل حقوق الإنسان.