بوريل..امريكا فقدت مكانتها المهيمنة في العالم وأوروبا مهددة بالانقراض    86 مشرعا ديمقراطيا يؤكدون لبايدن انتهاك إسرائيل للقانون الأميركي    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    فتحي الحنشي: "الطاقات المتجددة والنجاعة الطاقية أصبحت أساسية لتونس"    تصنيف يويفا.. ريال مدريد ثالثا وبرشلونة خارج ال 10 الأوائل    قرعة كأس تونس لكرة القدم (الدور ثمن النهائي)    إفتتاح مشروع سينما تدور    فيلا وزير هتلر لمن يريد تملكها مجانا    بين النجم والمنستيري صراع مثير على المركز الثاني    منير بن رجيبة يترأس الوفد المشارك في اجتماع وزراء خارجية دول شمال أوروبا -إفريقيا    انتخاب تونس رئيسا للمجلس التنفيذي لمركز «أكساد»    القصرين: تمتد على 2000 متر مربع: اكتشاف أول بؤرة ل«الحشرة القرمزية»    بطاقتا إيداع بالسجن في حقّ فنان‬ من أجل العنف والسرقة    إنه زمن الإثارة والبُوزْ ليتحولّ النكرة إلى نجم …عدنان الشواشي    المركب الثقافي بمدنين يحتضن فعاليات الملتقى الجهوي للمسرح بالوسط المدرسي    محاميتها تتحدث عن كواليس ليلة القبض على الإعلامية حليمة بولند    المحمدية.. القبض على شخص محكوم ب 14 سنة سجنا    تالة: مهرجان الحصان البربري وأيام الاستثمار والتنمية    "سلوكه مستفز": الافريقي يطالب بتغيير هذا الحكم في مباراته ضد الصفاقسي    سوسة: ايقاف مروج مخدرات وحجز 500 قرصا مخدرا    حالة الطقس هذه الليلة    عاجل/ قضية "اللوبيينغ" المرفوعة ضد النهضة: آخر المستجدات..    مجلس وزاري مضيق: رئيس الحكومة يؤكد على مزيد تشجيع الإستثمار في كل المجالات    توقيع محضر اتفاق بين وزارة التربية وجامعة التعليم الأساسي .    توطين مهاجرين غير نظاميين من افريقيا جنوب الصحراء في باجة: المكلف بتسيير الولاية يوضّح    عاجل/ أعمارهم بين ال 16 و 22 سنة: القبض على 4 شبان متورطين في جريمة قتل    العثور على جثة آدمية مُلقاة بهذه الطريق الوطنية    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    نتائج قرعة الدورين ثمن وربع النهائي لكاس تونس لكرة القدم    عاجل/ الحوثيون: سنستهدف جميع السفن المتّجهة للاحتلال حتى في البحر المتوسّط    لجان البرلمان مستعدة للإصغاء الى منظمة "كوناكت" والاستنارة بآرائها    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها    مراسلون بلا حدود: تونس في المرتبة 118 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لسنة 2024    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    مدنين: حجز 50 طنا من المواد الغذائية المدعّمة    السعودية: انتخاب تونس رئيسا للمجلس التنفيذي للمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة "أكساد"    الحماية المدنية:15حالة وفاة و500إصابة خلال 24ساعة.    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    منظمة إرشاد المستهلك:أبلغنا المفتي بجملة من الإستفسارات الشرعية لعيد الإضحى ومسألة التداين لإقتناء الأضحية.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    أعمارهم بين 13 و16 سنة.. مشتبه بهم في تخريب مدرسة    فوز التونسي محمد خليل الجندوبي بجائزة افضل لاعب عربي    جدل حول آثار خطيرة للقاح أسترازينيكا مالقصة ؟    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    خطير/ خبير في الأمن السيبراني يكشف: "هكذا تتجسس الهواتف الذكية علينا وعلى حياتنا اليومية"..    عاجل/ الأمن يتدخل لاخلاء محيط مقر مفوضية شؤون اللاجئين في البحيرة من الأفارفة..    الرابطة المحترفة الاولى : تعيينات حكام مقابلات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    زلزال بقوة 4.2 درجة يضرب إقليم بلوشستان جنوب غرب باكستان    العمل شرف وعبادة    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    "أنثى السنجاب".. أغنية أطفال مصرية تحصد مليار مشاهدة    بايدن يتحدى احتجاجات الطلبة.. "لن أغير سياستي"    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنان عبد الله الشاهد    وفاة الممثل عبد الله الشاهد‬    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    ''أسترازنيكا'' تعترف بأنّ لقاحها له آثار قاتلة: رياض دغفوس للتونسيين ''ماتخافوش''    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقاه عبد الجليل المسعودي وخالد الحداد : الدولة الدينيّة تُخالف الضرورة التاريخيّة والمنطق العقلاني
نشر في الشروق يوم 16 - 07 - 2012

المنتدى : «المنتدى» فضاء جديد للتواصل مع قرائها بصيغة جديدة ترتكز على معرفة وجهات نظر الجامعيين والأكاديميين والمثقفين حيال مختلف القضايا والملفات ووفق معالجات نظريّة فكريّة وفلسفيّة وعلميّة تبتعد عن الالتصاق بجزئيات الحياة اليوميّة وتفاصيل الراهن كثيرة التبدّل والتغيّر، تبتعد عن ذلك الى ما هو أبعد وأعمق حيث التصورات والبدائل العميقة اثراء للمسار الجديد الّذي دخلته بلادنا منذ 14 جانفي 2011.

اليوم يستضيف «المنتدى» الأستاذ لطفي بن عيسى الّّذي أجاب عن أسئلة تهمّ طبيعة ما جرى في تونس يوم 14 جانفي وجدل ثورات الربيع العربي والعلاقة بين الاسلام والديمقراطيّة والدوافع الّتي تشدّ التجاذب الايديولوجي والعودة الى السلف (الماضي).

وقد سبق للمنتدى أن استضاف كلا من السادة حمادي بن جاب الله وحمادي صمّود والمنصف بن عبد الجليل ورضوان المصمودي والعجمي الوريمي الّذين قدموا قراءات فكريّة وفلسفيّة وسياسيّة معمّقة للأوضاع في بلادنا والمنطقة وما تشهده العلاقات الدولية والمجتمعات من تغيّرات وتحوّلات .

وبإمكان السادة القراء العودة الى هذه الحوارات عبر الموقع الالكتروني لصحيفتنا www.alchourouk.com والتفاعل مع مختلف المضامين والأفكار الواردة بها.
انّ «المنتدى» هو فضاء للجدل وطرح القضايا والأفكار في شموليتها واستنادا الى رؤى متطوّرة وأكثر عمقا ممّا دأبت على تقديمه مختلف الوسائط الاعلاميّة اليوم، انّها «مبادرة» تستهدف الاستفادة من «تدافع الأفكار» و»صراع النخب» و»جدل المفكرين» و»تباين قراءات الجامعيين والأكاديميين من مختلف الاختصاصات- ومقارباتهم للتحوّلات والمستجدّات التي تعيشها تونس وشعبها والانسانيّة عموما اليوم واستشرافهم لآفاق المستقبل.

وسيتداول على هذا الفضاء عدد من كبار المثقفين والجامعيين من تونس وخارجها، كما أنّ المجال سيكون مفتوحا أيضا لتفاعلات القراء حول ما سيتمّ طرحه من مسائل فكريّة في مختلف الأحاديث (على أن تكون المساهمات دقيقة وموجزة – في حدود 400 كلمة ) وبامكان السادة القراء موافاتنا بنصوصهم التفاعليّة مع ما يُنشر في المنتدى من حوارات على البريد الالكتروني التالي:[email protected].

تعددت القراءات لحدث 14 جانفي 2011، البعض يعتبره ثورة وآخرون يذهبون الى انه انتفاضة وثالث يُنظر لمقولة الانقلاب على رأس نظام الحكم.. انتم كيف ترون ذلك ؟

الثورة ظاهرة اجتماعية وسياسية تتكشف من خلال مسارين متلازمين : مسار احتجاجي وتمردي ينخرط فيه السواد الأعظم من الشعب ومسار تأسيسي تخطط له وتقوده نخب هذا الشعب وغايتهما احداث القطيعة مع النظام القائم وارساء مقومات نظام جديد و في غياب أحد المسارين ينتفي معنى الثورة.

في غياب المسار التأسيسي لا تعدو أن تكون الظاهرة سوى حالة هيجان وغضب واحتجاج تسكن بمجرد الاستجابة للمطالب التي قامت من اجلها وازالة الأسباب التي ولدتها ولنا في ذلك مثال صارخ في تاريخ تونس القريب : انتفاضة جانفي 1984 حيث أنه وقع امتصاص غضب الشارع بمجرد تراجع السلطة عن الترفيع في سعر الخبز أو بالمحاصرة كما حصل ذلك في الحوض المنجمي سنة 2008 والى حد ما الأزمات النقابية المتتالية وخاصة القمع الذي طال قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل اثر الاعلان عن الاضراب العام في 26 جانفي 1978. وفي كلتا الحالتين نحن بصدد حركة احتجاجية مطلبية (الأسعار والشغل والحرية النقابية) لا أفق سياسي لها اذا ما سلمنا بأن المسألة المركزية والحاسمة في الثورة تكمن في بعدها السياسي.

كذلك في غياب المسار التمردي الشعبي تختزل الظاهرة في عملية انقلاب فوقي الغاية منه تغيير القيادة السياسية واعادة ترتيب البيت كما حصل ذلك في 7 نوفمبر 1987.

واذا التقى المساران والتحما ببعضهما البعض مادة (التمرد) وشكلا (التأسيس) توفرت شروط التغيير الجوهري ليشمل كل أركان النظام القائم أي منظومته السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومنظومة القيم. عندئذ يجوز لنا الحديث عن قيام ثورة. هذا ما حصل في رأيي مع الحركة الوطنية والنقابية التونسية وتأسيس الدولة الحديثة وعموما ما تحقق مع المشروع الحداثي التونسي الذي ترك فيه اليسار التونسي بمختلف نزعاته بصمات واضحة في المستوى القيمي والثقافي.

في 17 ديسمبر 2010 انطلقت الشرارة الأولى مع البوعزيزي وكانت بداية المسار التمردي على نظام الاستبداد انطلاقا من الجهات المهمشة في الوسط الغربي للبلاد بجرأة واصرار الشباب في الشوارع و من خلال الشبكات الاجتماعية.

وفي 14 جانفي 2011 كانت ذروة التمرد على النظام : اعتصام عشرات الآلاف ذكورا وإناثا من كل الأجيال أمام مقر وزارة الداخلية حيث رفعوا سقف المطالب وهتفوا بصوت واحد Dégage وكان لهم ذلك مساء ذلك اليوم المشهود حيث فر المستبد وبهذا الحدث الحاسم ارتقى الوضع من لحظة الاحتجاج والانتفاض الى لحظة الثورة، ثورة بمسارين :
مسار تمردي متواصل الى اليوم من خلال الحركات الاحتجاجية والاعتصامات التي تشهد فترات مد وجزر.
ينوبه مسار مؤسساتي بمرحلتين انتقاليتين اثنتين تتناوب فيهما حالات الارتباك و التعثر والتعطل والانفراج انتهت الأولى بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي وتركيز حكومة ائتلافية ونعيش الآن مرحلتها الثانية التي من المفروض أن تتوج بصياغة دستور توافقي يستجيب لمطالب الثورة في الحرية والكرامة والعدل والتقدم للجميع ويؤسس لدولة مدنية ديمقراطية حديثة.

وتشكل مؤسسات المجتمع المدني (النقابات والجمعيات المدنية والمهنية) حلقة وسيطة واطارا معدلا داخل المشهد الاجتماعي والسياسي فهي تقوم بدور ترشيدي تجاه المسار التمردي باحتضان تحركاته وتأطيرها من جهة أولى وتجتهد في عرض البدائل في علاقة بالمسار التأسيسي بصفتها قوة اقتراح من جهة أخرى. وأبرز مثال على ذلك هو الدور الحاسم الذي لعبه الاتحاد العام التونسي للشغل عشية الثورة وأثناء المرحلة الانتقالية من خلال مبادراته الجدية المتعددة.

ولئن تقترن اللحظة السياسية في الثورة بالتحول المفاجئ في شكل بلبلة واضطرابات تنتهي بقلب النظام السياسي في وقت وجيز نسبيا (بعض الأسابيع في الحالة التونسية والمصرية) فان القطيعة في المجالات الأخرى الاجتماعية و الاقتصادية و خاصة القيمية والسلوكية تخضع لأزمنة مختلفة وأطول تقاس بالسنين الطوال بل بالعقود ويشمل أجيالا متلاحقة كما كان الحال ولا يزال بالنسبة الى المشروع الحداثي التونسي المهدد اليوم (زمن الثورة) بالردة والانتكاس من منطلق رؤية ايديولوجية ثأرية ومشروع ماضوي طوباوي وليس استجابة لضرورة تاريخية وواقعية. لذا وجب تناول مسار الثورة من مختلف زواياه ومحاولة استشراف آفاق تطوره في علاقة بمختلف أبعاده ووضعه في سياقه التاريخي التراكمي فذلك شرط معقوليته.

فالثورة بالمعنى الفلكي وكذلك الهندسي وحتى البيولوجي والفيزيولوجي هي حركة دائرية ودورية وهي بصفتها تلك محددة زمنيا ومعرفتها مسبقة وماقبلية. ونجد امتدادا لهذا المفهوم في مجال العلوم الانسانية والاجتماعية لا سيما في فلسفة التاريخ في ما يعرف بنظرية العود الأبدي المتجذرة في الثقافة الاغريقية والتي تواصل تنظيرها في العصر الحديث.فيما يحيلنا الدرس الخلدوني في هذا المجال ونحن بصدد الثورة التونسية الى معقولية تاريخية مؤسسة على نظرية دورية مفادها أن العصبيات والدول والأنظمة زائلة لا محالة فهي تنشأ وتنمو ثم تهرم وتموت لتحل محلها عصبيات ودول ونظم أخرى. لكن الدورة التاريخية لدى ابن خلدون هي أقرب للشكل اللولبي من الشكل الدائري باعتبار أن الدورة تفتح دائما على مسار تراكمي تصاعدي. وفي اعتقادي تتنزل ثورة 14 جانفي ضمن هذا المسار التقدمي الذي لا يحتمل التراجع الى الوراء مهما كانت محاولات قوى الردة.
ولو وسعنا النظرة قليلا كيف تقرؤون مجمل الأحداث الجارية في كامل المنطقة العربية هل هي طور سياسي وثقافي وحضاري جديد ؟

ان ما يصطلح عليه بالربيع العربي هو في المقام الأول ثورة ضد الاستبداد تستهدف في ما تستهدف بنيته الثقافية ومنظومته القيمية. فالقاسم المشترك للأنظمة العربية التي تم الاطاحة بها يتمثل في توليها الحكم بطرق انقلابية والتمسك به لعقود طويلة مع محاولات توريثه في اطار جمهوريات ملكية والتنكر لحقوق الانسان فضلا عن تفشي الفساد وتدهور الظروف المعيشية لأوسع الفئات الاجتماعية وانتشارالبطالة لدى الشباب المتعلم.

انطلق الربيع من تونس ليشمل المنطقة العربية برمتها شرقا وغربا حيث انتفضت الجماهير الشعبية مسلحة بشعار رهيب لا يقبل المساومة «الشعب يريد اسقاط النظام». نجحت الثورات في الاطاحة بأربعة أنظمة في كل من مصر وليبيا واليمن بعد تونس وتتواصل الحركات الاحتجاجية سلميا في السودان وفي عدة بلدان أخرى فيما تحولت الى صراع مسلح في سوريا. ولم تفلت الأنظمة الملكية من موجة الاحتجاجات المطالبة بارساء أنظمة دستورية برلمانية ومزيد من الحريات والاصلاحات الاجتماعية.

لكن مهما اختلفت البنى الاجتماعية والانتماءات العرقية والمذهبية وتباينت الأوضاع الاجتماعية في مختلف البلدان العربية فنحن نعيش الآن لحظة فريدة، لحظة احتمال دخولنا التاريخ مجددا من بابه الكبير بعدما خرجنا من سياقه منذ خمسة قرون. لحظة تملي علينا أكثر من أي وقت مضى القيام بعملية جرد نقدي ومساءلة جريئة لكل موروثنا الحضاري لا سيما منظومة الاستبداد، كل أوجه الاستبداد في ربوعنا : الاستبداد السياسي بوجهيه المدني والعسكري والاستبداد الديني. ذلك أن حركات التحرر الوطني لئن خلصتنا من الاستعمار الغربي لم تخلصنا من عقلية الاستبداد المتجذرة في أذهاننا. فلا نفوت على أنفسنا فرصة التخلص منه واجتثاثه نهائيا من ثقافتنا.

هناك من يتحدث عن تنفيذ لمشروع الشرق الاوسط الجديد الذي نظرت له ادارة بوش منذ أزيد من عقد من الزمن؟

ينطلق مشروع الشرق الأوسط الجديد من تشخيص للواقع العربي مفاده أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية متدهورة في البلدان العربية الى درجة تستوجب اصلاحات جوهرية وأنها تشكل على حالها تلك أرضية خصبة للتشدد الديني والارهاب الدولي وعلى هذا الأساس وضعت المبادرة الأمريكية لعملية الاصلاح ثلاثة أهداف رئيسية : الديمقراطية وحقوق الانسان والمعرفة وحرية المرأة زد على ذلك التنظيرات المتعلقة بالفوضى الخلاقة المكملة للمشروع المذكور.غير أن الخلفية الاستراتيجية التي تقود هذا المشروع لا تخفى على أحد وهي السيطرة على امدادات النفط العربي أما مبدأ الفوضى الخلاقة فهو يندرج ضمن مخطط الفك والتركيب الذي عاينا ترجماته الأولى في السودان والعراق.

وتعتبر الادارة الأمريكية أن التغيير في الشرق الأوسط (اشارة الى الثورتين التونسية والمصرية) قد تم بارادة شعوبه وليس وفقا لمشيئة واشنطن وأن هذه الثورات تخدم في الأخير مصالح الولايات المتحدة الأمريكية باعتبار أنها تمثل خير واق لها من شر المنظمات الارهابية بعد تخلصها من عبء الأنظمة الفاسدة وحل محلها أنظمة الاسلام المعتدل المتعايش في سلام مع الغرب عامة ومع اسرائيل باقرار حقها في الوجود.

مسألة صراع الحضارات والأديان هل ما تزال قائمة اليوم وهل توافقون نظرية صدام الحضارات ؟

صراع الحضارات نظرية طورها الباحث الأمريكي صامويل هنتينغتون ومفادها أن العالم ما بعد الحرب الباردة أضحى متعدد الأقطاب ويقصد بالأقطاب الحضارات التي يتكون منها العالم اليوم وهي «الصينية واليابانية والهندية والاسلامية والغربية والافريقية والأمريكية اللاتينية» وأن ما يحكم العلاقة بين تلك الحضارات هو «الصدام» الذي أساسه الهوية الثقافية (بدلا من الدولة) التي تشكل أنماط التماسك والتي تحكم كل حضارة.

وفي تناوله ما يعتبره حقائق عن الحضارة الاسلامية المعاصرة يعتبر هنتينتون أن النمو السكاني المرتفع في البلدان الاسلامية يوفر أنصارا جددا للأصولية والارهاب والتمرد والهجرة وأن الثقافة الاسلامية الاستبدادية تفسر الى حد كبير فشل قيام الديمقراطية في أماكن عديدة من العالم الاسلامي وأن المشكلة المهمة بالنسبة الى الغرب ليست الأصولية الاسلامية بل الاسلام في حد ذاته، وأن الشعوب المعتنقة لدين الاسلام مقتنعة بتفوق ثقافتها رغم وعيها بتخلفها عن ركب الحضارة الانسانية وأن غايتها الأولى ليست تحديث الاسلام بل أسلمة الحداثة بحيث تحل القومية الدينية محل القومية العلمانية. فللولاء للدين الاسلامي والانتماء للأمة الاسلامية الأولوية على باقي الولاءات والانتماءات. هذا ما جعل العلاقات بين المسلمين والشعوب المنتمية الى الحضارات الأخرى تكون عدائية على الدوام حسب هنتينتون وما صراع القرن العشرين بين الايديولوجية الليبرالية الغربية الراسمالية والعقيدة الماركسية الشرقية الاشتراكية سوى ظاهرة سطحية وزائلة اذا ما قورن بعلاقة الصراع التاريخي العميق بين الاسلام والمسيحية.

خلاصة هذه الرؤية الأحادية الجانب والمتحاملة هي أن الاسلام رغم أنه لا يشكل بديلا للحداثة الغربية فانه يعتبر الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك. فمنذ دخول العرب اسبانيا وحتى الحصار التركي لفينا، كانت أوروبا تحت تهديد مستمر من الحضارة الاسلامية.

وباختزال شديد قد يجد منظرو صراع الحضارات ودعاته ما يبرر وجهة نظرهم في ما تشهده بعض المجتمعات الشرقية والاسلامية تحديدا من تنام لثقافة العنف وكراهية الآخر بل التفنن في صناعة الموت تقابلها خروقات خطيرة في الغرب لقيم التسامح والتعايش والتضامن التي تأسست عليها الديمقراطيات في المجتمعات الغربية لكن ذلك لا يجب أن يحجب عنا جسور التواصل القائمة والتفاعل والتعاون والتآزر بين الشعوب أخذا وعطاء وتوقها الفطري للعيش في سلام مع التخلص من عقدة التعالي عند الغرب وعقدة النقص لدى الشرق. فهذا جانب آخر من حقيقة العلاقات بين شعوب الشمال والجنوب أمكن معينته في مناسبات عدة لعل أبرزها التعبئة الجماهيرية الهائلة في المدن الغربية ضد الحرب في العراق.

بحسب اطلاعكم ومتابعتكم، كيف يقيم الغرب ما يحدث في عالمنا العربي والاسلامي ؟

ما من شك أن الربيع العربي قد فاجأ الغرب بقدر ما فاجأ صانعيه وضحاياه. فالتعاطف الذي أبداه الغربيون مع شق «الطيبين» هؤلاء الشباب المتعلمين والعاطلين عن العمل في مواجهتهم السلمية بصدور عارية عصابة «الأشرار»هؤلاء الحكام الطغاة الفاسدين والذي يبرره الى حد كبير شعور دفين لديهم بانتصار القيم الغربية واثبات بعدها الكوني وذلك في عالم خاله الغرب مجمدا سياسيا وثقافيا للأبد، هذا التعاطف حل محله تدريجيا تخوف من أن يتحول الربيع المشرق الى خريف مظلم بصعود الاسلاميين الى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع.

وقد ساهم في تنمية هذا الشعور ما شاهدوه من تحركات عدوانية للجماعات السلفية في تونس الساعية الى تغيير نمط حياة التونسيين بالعنف والاكراه وكذلك ما عاينوه من فوضى عارمة في ليبيا بعد سقوط «الجماهيرية» وسيطرة الجماعات المسلحة على قطاعات كاملة داخل المدن فضلا عن دخولها في حملات تصفية جسدية لخصومها.

وأيضا ما بلغهم على ألسنة القادة السلفيين في مصر من تهديدات للأقليات لا سيما الأقباط. وما يتوقعون من الاسلاميين المتشددين في سوريا من عمليات انتقامية تجاه الأقلية العلوية والأقلية المسيحية في صورة سقوط نظام الأسد وأخيرا ما ينتظرونه من الهاب لضواحي أكبر المدن الأوروبية حيث تعيش أجيال من أعقاب المهاجرين المسلمين الأوائل.

هل علاقة الشرق بالغرب هي اليوم طور مراجعة؟ وفي اي اتجاه تسير تلك العلاقة ؟

الربيع العربي بصدد خلط الأوراق من جديد على مستوى العلاقات الدولية والأوضاع في الشرق الأوسط مرشحة الى تحولات عميقة من الصعب التكهن بها. غير أن الشيء الثابت بالنسبة الى الغرب هو أنه دخل مرحلة تراجع تاريخي ليس فقط بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية التي يشهدها حاليا والتي لم يعرف مثيلها منذ سبعين سنة بل وأيضا في علاقة بتنامي الوزن الاقتصادي لقوى عظمى صاعدة شرقية وجنوبية كمجموعة البريكس وهو مختصر للحروف اللاتينية الأولى لأسماء البلدان التالية : البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب افريقيا. وهي الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي بالعالم وتشكل مساحتها ربع مساحة اليابسة وعدد سكانها يقارب 40 بالمائة من سكان الأرض. ومن المتوقع بحلول سنة 2015 أن تحقق 61 بالمائة من النمو العالمي.

وحسب الترتيب الدولي لاقتصاديات العالم تحتل الصين المرتبة الثانية والهند المرتبة الرابعة وروسيا المرتبة السادسة والبرازيل المرتبة التاسعة وجنوب افريقيا المرتبة الخامسة والعشرين.

أما ثقلها في الاقتصاد العالمي فهو في تزايد مطرد حيث تطور من 16 بالمائة من الناتج الداخلي الخام العالمي سنة 2001 الى 27 بالمائة سنة 2011 ومن المتوقع أن يبلغ 40 بالمائة بحلول سنة 2025 وأن تنافس اقتصاديات هذه الدول اقتصاد أغنى الدول في العالم حاليا بحلول سنة 2050.

وهي العنصر الدافع لنمو الاقتصاد العالمي منذ عقدين و تساهم في الحد من تداعيات الأزمات المالية المنطلقة من الغرب : من الولايات المتحدة الأمريكية سنتي 2008-2009 ومن بلدان منطقة الأورو السنة الفارطة، بل تدخلت بقوة (الصين) لانقاذ الاقتصاد الأوروبي من الانهيار بسبب افلاس دولة اليونان.

وسيكون لهذه التغيرات في الموازين الاقتصادية والمالية تداعيات في المستوى السياسة الدولية وأثر أعمق في المجال الثقافي وعلى الصعيد القيمي على غرار ما يشهده الدور المتعاظم لدولة قطر على المستوى الاقليمي والدولي ماليا وسياسيا واعلاميا وثقافيا.

مراحل الانتقال الديمقراطي بحسب العديدين غير آمنة، حسب تقديركم اين تكمن المخاطر والمخاوف وهل هناك امكانية النكوص والعودة الى الوراء ؟

نحن اليوم في حاجة ملحة لخارطة طريق وفاقية تضبط بدقة تاريخ الانتهاء من صياغة الدستور وعرضه للمناقشة في الجلسات العامة والمصادقة عليه. وهي المهمة الأساسية المنوطة بعهدة المجلس الوطني التأسيسي وطالما أنه لم يتم الشروع في اعداد الاطار القانوني والتنظيمي للعملية الانتخابية المقبلة لا سيما الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والقانون الانتخابي وطالما أنه لم يقع الحسم الجدي أي بصفة وفاقية في الملفات العالقة وخاصة ملف العدالة الانتقالية وملف الفساد وملف جرحى الثورة وعائلات الشهداء وكذلك ملف القضاء وملف الاعلام الذي أصبح في حالة تعطل تام بعد تخلي الهيئة المشرفة على اصلاح القطاع عن مهامها لما عرفته من تهميش ولا مبالاة. اذن طالما أنه لم تسو هذه الملفات بصفة مرضية وتوافقية فان المرحلة الثانية للانتقال الديمقراطي تبقى محفوفة بالمخاطر.

ولعل مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل الداعية الى احداث مجلس وطني للحوار لادارة الخلافات والتوصل الى توافقات حول كل الملفات العالقة تشارك فيه قوى سياسية من داخل المجلس الوطني التأسيسي ومن خارجه وكذلك جميع مكونات المجتمع المدني من شأنها أن تؤمن المسار الانتقالي وتقوده الى بر الأمان خاصة وأن أداء الائتلاف الحكومي المرتبك الى درجة احراج الترويكا بمشروع لائحة لوم ومنطق الأغلبية الميكانيكية الذي يسود طريقة الحسم في قضايا مصيرية يعد مؤشرات سلبية لا تبعث على الاطمئنان كل ذلك في ظل أوضاع اجتماعية واقتصادية هشة جدا وتحتاج أكثر من أي وقت مضى للاستقرار السياسي وهذا لا يمكن الفوز به الا بسلوك حواري مستند الى عقلية وفاقية.

المسالة الدينية والسلفية طرحت بكثافة خلال أحداث ما يسمى بالربيع العربي، لماذا حدث ذلك حسب رأيكم ؟

لم تنتفض جماهير الشعب في تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها من البلدان العربية من أجل الدفاع عن هويتها العربية والاسلامية المهددة والذود على دينها الحنيف المستهدف بل انتفضت من أجل مطالب اجتماعية وسياسية محضة ولم نسمع التكبير أثناء التحركات الاحتجاجية للجماهير الشعبية الا خلال جنازات شهداء الثورة من الشباب الذين سقطوا منادين بحق الشغل والحرية والكرامة الوطنية. فالثورات العربية قامت ضد التهميش الاجتماعي والجهوي والاستبداد السياسي ولم تقم نصرة لعقيدة في خطر أو دفاعا عن شعائر دينية قد صودر حق ممارستها.

أما الإمعان في طرح المسائل العقائدية والميتافيزيقية والشرعية من قبل الحركات السياسية ذات المرجعية الدينية واعطائها الأولوية على القضايا الاجتماعية والسياسية المطروحة في مواجهة خصومها العلمانيين خاصة أثناء الحملات الانتخابية مرده الخلط المتعمد لديها بين الوظيفة السياسية والوظيفة الدعوية مما يجعل منافسيها يتهمونها بالمتاجرة السياسية بالدين وممارسة ازدواجية الخطاب وهم محقين في ذلك باعتبار أن الدين لله والدولة للجميع وهي مسألة محل جدال اليوم داخل الأحزاب الاسلامية التي ارتقت الى دفة الحكم وبدأت تشعر بأثرها على أدائها ومصداقيتها داخليا وخارجيا.

العودة الى السلف هل فيها من المنظور الفلسفي خطر على المجتمعات ومسارات الانتقال الديمقراطي ؟

الانسان كائن تاريخي بمعنى أن معارفه وتصوراته وقيمه وظروف عيشه تتغير من عصر الى عصر ومن جيل الى جيل مما يجعل أن حقيقة الأمس التي استهلكها الزمن كانت و لم تعد والحقيقة القائمة اليوم لن تكون كذلك غدا. ذلك أن الواقع المتجدد أغني من أي تعريف. والدرس الخلدوني ينبهنا من «أن الوقائع المتجددة لا توفي بها النصوص الشرعية». فاعتبار أن السلف قد حسم نهائيا أمهات القضايا ولم يعد بوسع الخلف الا التقيد بتعاليمها وهو اعلان عن نهاية التاريخ وبالتالي عن الاعدام الرمزي للذات البشرية التاريخية بامتياز.

أما خطر هذه الرؤى على مسارات الانتقال الديمقراطي فيجب تنسيبه لاعتبارين. الاعتبار الأول هو حدود الخطاب السلفي فهو دعوي وتعبوي بالأساس يوظف بنجاعة أساسا لغايات انتخابية ويقع اهماله بمجرد الوصول الى السلطة حيث تسترجع الواقعية والتاريخية كامل حقوقها. أما الاعتبار الثاني فهو يتعلق بحيوية المجتمع المدني الغيور على نمط حياته وقيم عصره والذي أثبت قدرته على التعبئة و التأثير على الأحداث في الاتجاه الذي يريد مهما كان لون السلطة الحاكمة.


بحسب رأيكم ما الذي يحتاجه عالمنا العربي والاسلامي اليوم ؟

الربيع العربي فرصة متاحة لشعوبنا لولوج التاريخ من بابه الكبير بل لتأسيس مرحلة تاريخية جديدة. اليوم الذاكرة العربية الاسلامية في حاجة الى أن تسترجع مفاتيح العصر الذهبي الذي عرفته في الماضي البعيد مفاتيح الحرية والتسامح والتي صادرتها العقول السلفية المعطلة التي أغلقت نهائيا باب الاجتهاد والتأويل والابتكار والابداع وانتهت بنا الى عصور المذلة والانحطاط هذه القيم المفاتيح التي مكنت العرب والمسلمين من استيعاب واثراء ما راكمته الحضارات الانسانية من قبلها من علوم ومعارف في كل الميادين.

ان ما نحتاجه اليوم هو تحرير العقول بالكامل في كل أرجاء الوطن العربي باطلاق الحريات الفردية وخاصة حرية التفكير والنقد والتعبير لانجاز ما كان علينا انجازه منذ خمسة قرون ألا وهو تأسيس الفرد - المواطن الراشد المتحرر من أية وصاية .

فبالنسبة الى الحقوق والحريات نحتاج الى تكريس المساواة في القانون بين المواطنين والحد من التفاوت الاجتماعي بين الأفراد والفئات والطبقات و منع أي تمييز على أساس الجنس أو الأصل العرقي أو اللغة أو الفكر أو العقيدة أو لون البشرة. وتشمل الحريات الفردية الحق في الحياة وحرية الفكر والتعبير والابداع وممارسة الشعائر الدينية والمعتقد. وكذلك حرية اختيار الزوج أو الزوجة ومكان الاقامة وحرية الجولان داخل البلاد وخارجها وحق كل مواطن في الأمن له ولممتلكاته وأيضا الحق في الاعلام الحر مع نبذ كل أشكال الرقابة والمراقبة.

وفي باب الحريات العامة نحتاج الى تجسيم حرية النشاط السياسي والعمل النقابي وحرية الصحافة والنشر والابداع الثقافي وحرية الاعلام وتكوين الجمعيات والاجتماع والتظاهر والى ضمان الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين عبر حق الاقتراع والترشح لكل المؤسسات التمثيلية .

وكذلك تأمين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين كالحق في الشغل القار والتعليم والثقافة والسكن اللائق والصحة والتغطية الاجتماعية وضمان سلامة المواطنين المادية والمعنوية ونبذ كل أشكال التعذيب وكذلك التحرش الجنسي والعنف تجاه النساء.

وعلى مستوى مؤسساتي نحتاج الى دساتير تنص على الفصل بين السلط والتوازن بينها وضمان استقلالية القضاء والاعلام والمؤسسات الساهرة على اعداد الانتخابات وحياد الادارة والأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية وحماية المساجد والجوامع من أي توظيف سياسي حزبي وكذلك الفصل القطعي بين أجهزة الدولة والأحزاب وتكريس الشفافية في ادارة الأموال العمومية.

أخيرا نحتاج الى مراجعة عميقة لمنظومتنا الدينية والى قراءة عقلانية ونقدية لتراثنا الديني والثقافي والحضاري وهذه مهمة ملحة ملقاة على عاتق شيوخ الاسلام المستنيرين والباحثين والفلاسفة والمؤرخين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس وغيرهم من المثقفين.

على المستوى الاستراتيجي البعيد كيف يمكن ان تكون العلاقة بين هذه السلفيات وأنصار الحداثة ؟

يتعلق الأمر بمواجهة بين مشروعين للمجتمع متباينين تمام التباين : مشروع حداثي قائم منذ نصف قرن تأسس على المزج بين التراث الاصلاحي التونسي والقيم الكونية تبين في الأخير أنه استفادت من مزاياه شرائح اجتماعية دون غيرها ومناطق جهوية دون سواها ويتعين اليوم تجسيما لمبدا العدل والانصاف مراجعة منوال التنمية بما يضمن للفئات الاجتماعية والجهات المحرومة نصيبها المشروع من ثمرة النمو. ومشروع ماضوي ثأري يسعى الى محو ما تحقق من مكاسب في اطار المشروع الحداثي التونسي .
المهم أن لا يخرج الصراع من دائرة المناظرة الفكرية والتعبئة المدنية السلمية وأن لا يتحول الى مواجهة عنيفة وهي مسؤولية الحزب الحاكم المؤتمن على أمن كل المواطنين من جهة والمحافظ على روابط وثيقة مع الأطراف السلفية من جهة أخرى.

لكن الاستقطاب على اساس الحداثة والسلفية ما يزال متصاعدا أساسا بين القوى السياسية والحزبية ؟

المستهدف المباشر من الاستقطاب الايديولوجي اليوم هي المؤسسة التربوية في كل مستويات التعليم بدءا بالمدارس القرآنية ورياض الأطفال التي لم تعد تحترم كراسات الشروط المتعلقة بها ولا تحترم الطرق البيداغوجية المعتمدة ثم المدارس الاعدادية والمعاهد الثانوية حيث تحولت الأقسام أحيانا الى فضاءات للجدال السياسي والديني الغاية منه تعبئة الأنصار ليصل الأمر الى تعطيل الدروس بالجامعة ومتابعة العمداء من أجل مجموعة صغيرة من المنقبات فضلا على محاولة السطو على التعليم الزيتوني.
لا بد أن تحافظ المؤسسة التعليمية على طبيعتها كفضاء تربوي عمومي مستقل عما هو عقائدي وسياسي تتعلم فيه الناشئة كيف تعرف وكيف تعمل وكيف تحيا بعيدا عن كل استقطاب ايديولوجي.

هل يمكن للعلمانية ان تنجح كممارسة سياسية ومجتمعية في فضائنا العربي والاسلامي ؟

نحن مارسنا العلمانية دون تحمل مشقة تنظيرها وها هي تفرض نفسها في النقاش منذ البند الأول من الدستور الجديد.
والجدير بالتذكير أنه لئن كان الانسان مدنيا بطبعه فان الدولة الدينية ليست من طبع الانسان فضلا عن أن أنها لا تستجيب لمقتضيات الضرورة التاريخية والمنطق العقلاني. (في هذا الباب كم هو ثمين الدرس الخلدوني).

ذلك أن المجتمع البشري لا يمكن له أن يستقيم الا بوازع أي بسلطة رادعة وضامنة لتعايش الانسان مع أخيه الانسان. وهذا الوازع بالنسبة الى المسلمين سيشهد تغيرا نوعيا وفق الأطوار التاريخية التي ستمر بها دولة الاسلام التي عاشت لحظتين متمايزتين تمام التمايز :
اللحظة الأولى هي لحظة الوحي والنبوة والصحابة والخلفاء الراشدين وهي لحظة ميتاتاريخية أي ما وراء التاريخ ( هناك من يحصرها في الوحي والنبوة فقط كما ذهب الى ذلك علي عبدالرازق في كتابة الشهير الاسلام وأصول الحكم) فهي لحظة الحكم الديني من حيث أن الدين الجديد وهو وازع ذاتي شكل الوازع الوحيد بحكم قوة ايمان المنخرطين فيه وكان كافيا لكي تقوم عليه السلطة في الصدر الأول للاسلام.

اللحظة الثانية هي لحظة الانخراط في المسار التاريخي العلماني والمتزامن مع الابتعاد عن جيل النبي وبداية ضعف سلطان الدين عن النفوس بحيث أصبحت كل سلطة لا بد أن تقوم على قوة موضوعية وحيث أصبح سن التشاريع لا يستند الى الوحي كما كان الحال في الحكم الديني بل للعقل وللعقل وحده. انها لحظة الملك بدل الخلافة، لحظة الحكم السياسي العقلاني بدل الحكم الديني.
أختم بالقول وفق الدرس الخلدوني دائما أن مؤسسة الخلافة توافق سلطة الرئاسة في المجتمع البدوي أي السلطة القبلية المعنوية غير القهرية المؤسسة على الولاء التلقائي والتي لا بد أن تتطور الى ملك أي الى سلطة قهرية عقلية، فكما تتطور الرئاسة الى ملك في المجتمع الحضري فلا بد أن تتطور الخلافة الى ملك تلك هي حتمية تاريخية لا مفر منها.

من هو لطفي بن عيسى؟
الأستاذ لطفي بن عيسى مختص في تاريخ الفلسفة الى جانب تخصّصات أخرى قانونيّة واجتماعيّة.
من مواليد 13 جوان 1953، متزوّج وأب لولدين.
هو خريج المدرسة الوطنية للادارة وحاصل على شهادة الأستاذيّة في الفلسفة من جامعة Reims بفرنسا سنة 1997 وعلى شهادة جامعية عليا في الفلسفة من كلية العلوم الانسانية والاجتماعيّة بتونس سنة 1999 وكذلك الأستاذيّة في اللغة والحضارة والأدب الايطالي.
وهو المدير المؤسّس لمجلة أطروحات منذ سنة 1983 وعضو في وحدة البحث «الأنوار والحداثة» بالمعهد العالي للعلوم الانسانيّة بتونس ونائب رئيس الشبكة التونسيّة للاقتصاد الاجتماعي وهو أيضا مستشار لدى منظمات أمميّة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.