بقلم: الهادي السنوسي «الثوريون» اللاحقون منشغلون بالبزنس السياسي... آفة الثقافة.. الأدعياء! يبدو ان تاء التأنيث ألحقت الثقافة بصف المغتصبات اللاتي تراق كرامتهن في وضح النهار ولا من مجيب لاستغاثتهن..ولعل اغتصاب الثقافة يفوق تأثيرات ومخلفات الاغتصاب المادي الذي يتعرض له الأفراد وذلك لأن الأمر يمس بوجود الأجيال بتاريخها ومقوماتها الحضارية والإنسانية. وقبل مواصلة الخوض في هذا الشأن الحارق لا بد من الإجابة عن سؤال يفرض نفسه: ما المقصود بالاغتصاب في باب الثقافة؟.. السؤال وجيه وتتطلب الاجابة عنه شرحا مطولا، ولكن حرصا على تجنب اغتصاب المساحة والوقت أقول إن الاغتصاب المقصود يتمثل في اخراج الثقافة من بيتها وفرض الفطام على أهلها.. وأهلها هم طبعا المبدعون!.. كيف يتم الاغتصاب؟ وماهي الأساليب المتوخاة للإيقاع بالضحية؟ وماهي العلامات المميزة لمرتكبيه؟ كل هذه التساؤلات تدفع الى رفع القناع عن واقع الثقافة عندنا وتحدد ملامح أبطال التدنيس الثقافي والتدليس الابداعي.. انتهاكات الوزارة.. لقد سبق أن أشرت في تحاليل سابقة الى الدور الرئيسي الذي تضطلع به وزارة الثقافة في تجميد الفعل الثقافي من خلال إصرارها على احتكاره باعتبارها راعية ومنتجة ومروجة في الآن. ولتحقيق ذلك وضعت آليات ووفرت السيولة اللازمة للمسك بمقود التوجيه، وتتمثل أهم الوسائل المستعملة في أمرين أساسيين: المركزية المجحفة في تسيير الشأن الثقافي على المستويين البشري والمالي.. فجلّ القرارات تخضع للسلطة المركزية التي لا تترك الا بعض الجزئيات البسيطة بين أيادي ممثليها في الجهات (المندوبيات الجهوية للثقافة). ويكفي ان يؤدي المرء زيارة خاطفة الى بعض دور الثقافة ليدرك ان الثقافة غائبة بكل المعاني وأن المبدعين بمختلف اختصاصاتهم مغيّبون.. إنك تجد في تلك الدور كل شيء باستثناء رائحة الثقافة، وإذا ما حصل العكس ففي ظرف مناسباتي، اما في بقية ايام السنة فلا أثر للثقافة ولا هم يتثقفون!. واللوم في هذه النقطة.. كل اللوم على السلطة المركزية التي تمسك بقبضة حديدية على وسائل التنشيط الضرورية للم شمل المبدعين وأهل الثقافة عامة وتحفيزهم على الخلق والإبداع وإغراء المدونة الجمعية بأعمال راقية تسهم في نماء المخزون الحضاري لهذا البلد الولود. أما العنصر الثاني فيخص قنوات الدفع التي تمسك الوزارة بمفتاح حنفياتها..والحديث عن القنوات يطول أيضا ولكن سأقتصر على ذكر اثنتين منهما: الأولى موجهة الى اهل الموسيقى الذين تدعمهم الوزارة بسخاء كبير على خلفية التشجيع على الانتاج والحال اننا نعرف مصير الأعمال المدعمة التي لم تكن ترى النور الا لتقبر بين رفوف حوانيت القرصنة أو في دهاليز الوزارة. أما الثانية فتشمل المهرجانات.. عقدة كل الوزارات المتلاحقة التي ترى فيها (أي المهرجانات) حبل النجاة باعتبارها تقرب الى الجمهور وتجعل صورة الوزارة حاضرة لدى الأفراد ووسائل الإعلام.. وهي لعمري فرصة اشهار واستشعار لا تفوت او تفلت.. وبإمساك الوزارة بهاتين الحنفيتين بأساليب أثارت ومازالت العديد من الاحترازات تمكنت من ممارسة انتهاكاتها لأهل الثقافة صناع الرأي والفكر والكلمة والصورة.. وهي بذلك تمارس الاغتصاب الرسمي في حق الثقافة. «الثّقفوت» وثقافة الابتزاز وإلى جانب الاغتصاب الرسمي، عرفت الساحة الثقافية «سلطة» اخرى ولدت من رحم حالة التهميش التي تعيشها الثقافة برجالاتها ومبدعيها.. فالمتابع لبعض ما يجري في الكواليس «الثقفوتية» والزوايا الخلفية لمدعي الثقافة يسجل خلال السنوات على وجه الخصوص تنامي مجموعات الأدعياء في شكل «لوبيات» تعمل على احتكار الساحة عبر التهريج الاعلامي والبهرج الفوضوي. وقد تكمنوا بما يتوفرون عليه من جعجعة كلامية و «صحة رقعة» دعائية من فرض وجودهم والتأثير في أوساط بعض الأميين وانصاف المثقفين الذين فتحوا لهم المنابر الإعلامية باختلاف اصنافها من صحافة مكتوبة إلى قنوات اذاعية وتلفزية. وقد أفلحوا نسبيا في الترويج لصورهم كمبدعين فاعلين والحال اننا لم نقرأ سطرا واحدا ولم نر صورة او متابع حركة لبعضهم عدا ما يأتونه في مجالسهم الخاصة. كما أوقعوا جهات عديدة في فخاخهم باختلاق المعارك «الابداعية» الهاشمية وافتعال الصراعات مع هذا وذاك بغاية الابتزاز المادي والمعنوي. وقد ساهمت وسائل الاعلام المرئية والمسموعة بصفة خاصة في الترويج لثقافة القشور التي تنتجها تلك اللوبيات القائمة على السفسطة والدجل «الثقفوتي». واني لأعجب كيف تقع وسائل الاعلام في حبائل هؤلاء الذين لا ينتسبون للثقافة ولو بحرف واحد..وبذلك تساهم تلك الوسائل في أشنع عمليات الاغتصاب التي تتعرض لها الثقافة الوطنية. لقد أصبح حضور هؤلاء في عديد البرامج يثير حقا التساؤل عن مصير الأجيال التي تتربى على مثل تلك الصور البشعة التي تروج الجهل والشعوذة الفكرية واستبلاه المتابعين. وإن أخطر ما في الأمر ان البعض ممن تميزوا في ميدانه كمشعوذين من الطراز.. الوضيع اقتحموا وسائل الاعلام واصبحوا يحتلون مواقع ذات اهمية ويقدمون موادهم السامة لجيل سيذهب ضحية عدم المبالاة من اهل الذكر النائمين في عسل النقاشات والتجاذبات!.. «الترسكية» الثورية.. والحديث عن الشعوذة ومظاهرها يطول ويذهب بعيدا ليصل بنا الى احد اشقائها في الابتزاز وأعني «البزنس».. وحتى لا يذهب بكم الظن بشتى الاتجاهات أوضح أنني أعني «بزنس» من نوع خاص من حيث الأساليب والأهداف. دون إطالة «البزنس» المقصود هو «البزنس» السياسي الذي لم يعد حكرا على أهل السياسة بل انتقل كما «حمى غرب النيل» عافاكم الله ودون سابق اعلام الى الجسد الثقافي المثقل بالأمراض فزاد في آلامه وعمّق جراحه. لقد كنا ننتظر ان تشهد الساحة الثقافية بعد الثورة حراكا واسعا وأن يجد المثقفون على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم ما يفتح شهيتهم الإبداعية، ولم تتصور يوما ان يأتي المد الثوري بعكس التيار. فقد جاءت الثورة بموجة جديدة من الانتهازيين وهم «الثوريون» اللاحقون اي أولئك الذين لم نكن نسمع لهم حسا ولا نفسا، وفجأة أطلوا على الناس بعباءة الثوريين الذين لا يشق لهم غبار ولا يخفت لهم أوار. تشكلوا في «لوبيات» من نوع آخر ..يتكلمون باسم الثورة وكأنهم أبناؤها الشرعيون!.. أين كانوا وكيف جاؤوا؟...يقولون انهم كانوا دائما موجودين ولكنهم كانوا مقموعين.. ولم تكن لديهم وسائل التبليغ والتعبير والتحرير. وأصبحوا يستعرضون عضلاتهم الكلامية والحبرية بغطرسة مفضوحة ويتهمون كل من يخالفهم الرأي او يحاول كشف اوراقهم بعدائه للثورة .. وما أسهل اتهام الاخرين هذه الأيام بمناصرة الثورة المضادة.. فحتى النكرات منهم لبسوا «كاسكيت» الثورة ودخلوا اللعبة الكبرى من باب «البزنس» السياسي. وقد تحولت عديد المنابر والصفحات إلى خطب مفتوحة تغازل هذا التيار او ذاك وتخدم ركاب حزب على حساب آخر.. بغاية واحدة وحيدة وهي الابتزاز السياسي الذي يفوق في سواده كل أنواع الابتزاز الأخرى.. والمؤسف في هذا الامر ان بعض الدوريات المختصة اصبحت فضاءات لسجالات سياسوية مفضوحة بل تعدت ذلك الى ممارسة الجلد السياسي المتبادل!.. وفي زحمة الشعوذة والابتزاز و «البزنس» يقف المثقفون في الصفوف الخلفية.. مجبرين طبعا غير متطوعين.. لذلك، فلا غرابة ان تسقط الثقافة صريعة هذه الأهواء المتضاربة وتذهب ضحية مغتصبيها في كل المستويات. إن الثورة مهما كانت منطلقاتها لا يمكنها ان تنمو طبيعيا ما لم تتغذّ من نسغ الثقافة لأن الثقافة هي الحياة بألوانها وأهوائها المختلفة .. ومن يغتصب الثقافة لأمر ما انما يسلب المجتمع الحياة.. فمتى تحرر الثورة مثقفي هذا البلد من مكبلات السلطة من جهة والمشعوذين والانتهازيين من جهة ثانية؟.. لقد حان الوقت لنعلن الثورة الثقافية ونشارك في اعادة التوازن المفقود الى بلد الثقافة وبمساهمة اهل الثقافة قبل سواهم!.. ولا ننسى أن آفة الثقافة.. الأدعياء!