لا أعتقد أن حكومة السيد الباجي قائد السبسي كانت شرا مطلقا على تونس. ولا أعتقد كذلك أنها كانت خيرا صافيا للبلاد.. كان لها مساوئها ومحاسنها. كذلك الشأن بالنسبة لحكومة السيد حمادي الجبالي القائمة. فهي أيضا لها محاسنها ولها نقاط ضعفها.. وفي كل الأحوال لا أستطيع أن أصدق للحظة واحدة أن حكومة السيد الباجي قائد السبسي، قد نصبت فخاخا للحكومة الحالية لتعجيزها أو لتوريطها، قبل أن تمضي في حالي سبيلها بعد انتخابات أكتوبر. كما أنني لا أتصور، تحت أي ظرف كان، أن تعمد الحكومة الحالية إلى أي شيء من هذا القبيل. ومن أهم دروس انتخابات أكتوبر 2011 أن أحد الأسباب التي جعلت حركة النهضة تكسب هذه الانتخابات بتلك النسبة المرتفعة، هو أنها كانت خلال الحملة الانتخابية هدفا لسهام ولنيران خصومها الذين أمضوا أغلب وقتهم في التهجم عليها، وبذلوا الجزء الأكبر من جهدهم في شتمها، عوض الحديث عن أنفسهم وعن برامجهم، حتى أن البعض قال إن النقطة الوحيدة في برنامج خصوم النهضة وقتها كان الهجوم المستمر عليها. في حين ترفعت الحركة عن مهاجمة خصومها. وفي أحسن الأحوال دافعت عن نفسها من التهم التي وجهت إليها، دون مهاجمتهم، مما ولد موجة من التعاطف معها من غير أنصارها التقليديين. ما يجري اليوم ليس مختلفا جدا عما جرى قبل 23 أكتوبر، رغم بعض الاختلاف في الأدوار، وذلك بعد أن انساق بعض قياديي النهضة وخاصة بعض وزرائها في الحكومة الحالية، مدعومين ببعض حلفائهم في الترويكا، وراء موجة الشتائم والتشهير والتنقيص من شأن خصوم السياسيين، محملين إياهم كل الشرور، وكل ما تعاني منه البلاد اليوم من مشاكل ومصاعب.. لينسوا الحديث عما فعلوه أو ينوون إنجازه. وهو ما يفسر ولو جزئيا درجة الاحتقان السياسي الذي نعاني منه اليوم، والسخونة غير العادية في البلاتوهات التلفزية التي تحولت إلى ما يشبه ساحة الحرب التي تستباح فيها كل الأسلحة، والتي لا تكاد تسمع منها سوى عبارات الذم والاتهامات والاتهامات المضادة. ليس عيبا أن يعمد حزب معارض إلى انتقاد أداء الحكومة وإبراز نقاط ضعف الحزب أو الائتلاف الحاكم وخطأ توجهاته.. وليس عيبا أيضا أن تدافع الحكومة على نفسها، وأن يبين الحزب الحاكم الذي يكونها عيوب خصومه وعدم وجاهة مقترحاتهم. فهذا ما نشاهده في أعرق الديمقراطيات، وبشيء من التجني والتحامل أحيانا. ولكن الجزء الأكبر من خطابات الخصوم السياسيين، ومناظراتهم التلفزية والإعلامية في هذه الديمقراطيات يخصص لعرض الأفكار والبرامج والمقترحات والتصورات لا لشتم الطرف المقابل .. ولا شيء غير ذلك.. وللأسف فإن هذا هو تحديدا ما يحصل عندنا اليوم. وهذا هو الذي سيجعل المواطن العادي يكره السياسية ويهرب من البرامج السياسية ويفقد الثقة مع السياسيين. وأخطر من ذلك سيؤثر على الانتخابات المقبلة، ليس من حيث النتائج بل بالأساس من حيث نسبة المشاركة. وهو ما يجب أن ينتبه السياسيون إليه ويقرؤوا له حسابا من الآن، وذلك بمراجعة استراتيجياتهم، التي لا يجب، بأي حال من الأحوال، أن تبنى على شيء واحد هو التحامل على الخصم والتشهير به وإظهاره على أنه شر مطلق. فالسياسة ليست خيرا مطلقا ولا هي شرا مطلقا. هي في جانب منها أخلاقيات على الجميع أن يلتزم بها. رغم أن العديد من ساستنا ردد أكثر من مرة أن لا أخلاق في السياسة.