كلما تجولت بأنهج وشوارع العاصمة الا وانتابتني موجة عارمة من الاسى والاسف حيال الحالة المزرية التي امست عليها القاعات السينمائية التي اخذت تتساقط مثل اوراق الخريف. ومما زاد الطين بلة ان هذه الوضعية المتدنية لا تختص بها قاعات العاصمة وانما عمت ايضا عدة جهات من مناطق البلاد لعل ابرزها مدينة صفاقس عاصمة الجنوب والكاف عاصمة الشمال فضلا عن المدن السياحية مثل سوسة والمنستير وبنزرت والمهدية. وهذا التصحر الثقافي حملني على رثاء القاعات السينمائية بقلب ملتاع وفكر مرتاع خاصة انه لا أحد حرك ساكنا لانقاذها من الاضمحلال حتى امست نسيا منسيا. فلا احد من المستثمرين الخواص بادر باعادة ترميم تلك الفضاءات الثقافية ولا احد من وزارة الثقافة والمحافظة على التراث سارع بصيانة تلك المعالم الحضارية أما المستثمرين من الخواص فقد فضلوا بعث قنوات تلفزية في تهافت التهافت على حد قول ابن رشد الامر الذي جعل الجميع يتحدث عن التعددية التلفزية لعل ابرزها قناة «القلم» بمدينة صفاقس وهي احدث انجاز بعد قنوات «حنبعل» لباعثها العربي نصرة و «نسمة» لباعثها طارق بن عمار الذي اقتنى مؤخرا قناة «النيل» المصرية. اما وزارة الثقافة فقد انكبت عنايتها على جمع الاثار التي نهبها افراد عائلة الرئيس الاسبق وما فيا اصهاره من الطرابلسية وحتى الوزارة السابقة في عهد الدكتور عزالدين باش شاوش فقد كان مجال اهتمامه مماثلا حيث قيل فيه انه اعتنى بالحجر واهمل البشر!، اما خلفه الدكتور المهدي المبروك وهو عالم الاجتماع فقد وجد نفسه مجبرا على ترميم التكايا والزوايا التي اتلفتها الحرائق الاجرامية مثل ضريح سيدي ابي السعيد الباجي ومقام السيدة المنوبية فضلا عن أضرحة أولياء الله الصالحين التي تم تدنيسها في عدة مناطق من الجمهورية. لذلك بقيت قاعات السينما امام مصيرها المشؤوم المحفوف باللامبالاة من طرف الوزارة والخواص المستثمرين التونسيين. فمن منا من الجيل الشبابي الجديد يذكر قاعة البلماريوم التي تحولت الى مركب تجاري في حين كانت في الماضي وما بالعهد من قدم ملء السمع والبصر واحتضنت في مطلع السبعينات من القرن الماضي احدى دورات ايام قرطاج السينمائية بحضور أبطال عدة افلام للمخرج الراحل يوسف شاهين مثل شريط «الأرض» وابطاله المجندين مثل عزت العلايلي والنجمة الراحلة المأسوف على شبابها سعاد حسني وخالد النبوي والعملاق محمود المليجي؟ وعلى مرمى حجر تم هدم قاعة سينمائية عظيمة ورد ذكرها في كتاب المخرج والمؤرخ عمار الخليفي والتي كانت مقرا للشركة التونسية للنشر والتوزيع باشراف مديرها الاول المرحوم عزوز الرباعي والمرحوم الناصر بن عمر فضلا عن شركة النغم لصناعة الاسطوانات التي كان يديرها المرحوم الاذاعي الهادي السفاري، فقد احتضنت تلك القاعة الافلام الاولى الصامتة التي اخرجها الأخوان (لوميار)Lumièreالفرنسيان اللذان يعود اليهما الفضل في اكتشاف عالم الاضواء من خلال بعث سابع الفنون سنة 1896. كما ان بلادنا كانت سباقة لاحتضان الافلام السينمائية منذ سنة 1897 في قاعة نهج هانون (HANOUN) التي تحولت الى دكان لبيع الاطفال، وغير بعيد عن قاعة البلماريوم اضمحلت قاعة سينمائية اسمها نصف النهار ونصف الليل MIDI MINUIT التي تحولت الى دار لاكساء وتعرف باسم الدار المثالية MAISON MODELE وآلت بعد ذلك الى البنك العربي الدولي BIAT الذي بعثه الوزير السابق منصور معلّى. ولم تبق في مواجهتها صامدة متينة البنيان وصلبة الاركان سوى قاعة البرناص LE PARNASSE كذلك الشأن بالنسبة الى قاعة البيارتز BIARTEZ التي كانت على ملك الشاعر الجزائري الكبير مفدي زكرياء مؤلف النشيد الوطني الجزائري «قسما» ألحان الفنان المصري المرحوم محمد فوزي، ولم يبق بنهج ابن خلدون وعلى مرمى حجر من دار الثقافة المغربية الا قاعة (الملكية Royal) او الريو (RIO) التي يعود اليها شرف احتضان اول فيلم غنائي تونسي يلحن موسيقاه التصويرية الموسيقار العميد محمد التريكي وهو من بطولة محيي الدين مراد صاحب برنامج «عصفور سطح» الاذاعي وفليفلا الشامية خالة المطربة اليهودية التونسية هناء راشد التي يعود اكتشافها الى العميد محمد التريكي استاذ الاجيال وهي ايضا اول ملحنة تونسية. وكنت اشرت في العدد الصادر بتاريخ 27 جانفي لجريدتنا «التونسية» الغراء الى محمد الجموسي الذي غنى في ذلك الشريط فكان اول مطرب سينمائي . ومازالت هذه الجولة متواصلة لرثاء بقية القاعات السينمائية التي هدمها معول العبث والجحود مثل قاعة سيني سوار CINE SOIR قبالة السفارة البريطانية التي تحولت هي الاخرى الى دكان للأكلات السريعة FAST FOOD وبقية القاعات السينمائية التي تقع بالمدينة العتيقة والتي ستكون محور المقال الاتي في قادم الايام ان شاء الله.