- محاولة فرض "الديني" على "السياسي" تهدّد البلاد بحرب أهلية - الجبالي تعرّض الى ضغوطات وتهديدات من طرف حزبه ولا أستبعد طرده - "النهضة" تحكم البلاد بمنطق "معيز ولو طارو" - البلاد ستغرق اذا واصل الساسة تجاهل المبادئ الدستورية العالمية - الوزراء الجدد يعملون تحت امرة رئيس حكومة ولاؤه لحزبه اكثر من ولائه للدولة
تعيش تونس مخاضا سياسيا عسيرا بدأ باستقالة حكومة حمادي الجبالي لينتهي إلى المصادقة على حكومة علي العريض .كل هذا والبلاد ترزح تحت أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة تنتظر حلولا عملية تنقذ ما يمكن إنقاذه. وفي خضم كل هذه الأحداث تشابكت الآراء والتحاليل حتى تداخلت ولم يعد المواطن يميز منها ما يقنع . في محاولة لاستقراء محاذير الوضع بالبلاد من كلّ جوانبه ومدى تأثيراته على مستقبلها كان ل «التونسية» هذا الحوار مع السيد الصادق بلعيد استاذ القانون الدستوري الذي خاض في الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد إضافة الى رأيه في صياغة الدستور والحكومة الجديدة. كيف تقرؤون المشهد السياسي بعد أن أعطى المجلس التأسيسي ثقته لحكومة العريض؟ أخيرا منح المجلس التأسيسي الثقة للحكومة التي قدمها السيد علي العريض بعد نقاش مطول حول مشروع «برنامج الحكومة» أن صح نعته بذلك .وبهذا التصويت يمكن القول إن المسلسل الذي دام 9 أشهر قد انتهى .وهذا يعطينا مجالا للنظر في نتائج هذا المسلسل ونتائجه والتوقعات الممكنة التي سنواجهها في الأشهر القادمة .فمن الناحية التاريخية نحن نعلم أن الحكومة السابقة كانت في حالة تأزم عميق منذ أكثر من 9 أشهر وهذه نقطة تسترعي الإهتمام باعتبار أن ما حصل يعتبر ضررا عميقا ومتعدد الأوجه لأنه ضرر سياسي واقتصادي واجتماعي وأمني. فالحكومة لم تكن لها السلطة الكافية والكفاءة المنشودة لمعالجة الملفات الكبيرة العالقة والتي كان عليها حلها. على غرار الكفاءة في بعض الوزارات والتي تعددت الفرص لإثبات ذلك .نحن نعلم اليوم أن أصدقاءنا من الدول التي كانت تهتم بالثورة يئسوا من خروج البلاد من هذه الأزمة بسبب عدم كفاءة الهيئة الحكومية التي تسير البلاد .ولقد أكدت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هذا الكلام حين قالت إن الطاقم الحكومي والحزبي الذي يسيّر البلاد غير كفء للقيام بهذه المسؤولية . هذا من الناحية السياسية ,أما من الناحية الاجتماعية فنحن نعلم أن حالة البلاد مرت من السيئ إلى الأسوأ ولم تحدث أية انتعاشة حديثة بل لاحظنا أنه كلما صرح المسؤولون في الحكومة بتحسن الحالة الاقتصادية للبلاد إلا وقامت وكالات الترقيم بتخفيض الترقيم السيادي لتونس ورغم الإحصائيات المغلوطة التي روّجت لها الحكومة الماضية فإننا نعلم أن الإقتصاد في حالة انهيار عميق ويصعب إصلاحه أوالرجوع إلى مستوى 2009. المأساة أن هذه الحكومة لم تستفق وتضع حدا لهذا التيار الانحداري بل تسببت سياساتها غير الملائمة في تعميق الأزمة التي تعيشها البلاد واكبر دليل انزلاق الحالة الأمنية إلى الحضيض وأصبحت عديد الأصوات تتحدث الآن عن إمكانية الانفلات الأمني الخطير وربما تتعرض البلاد إلى أزمة أمنية متعددة المظاهر كانتشار الأسلحة وعمليات تخويف وترهيب من رابطات حماية الثورة ,هذا بالإضافة إلى الانعكاس السلبي للتطورات السياسية والعسكرية الاقليمية حول البلاد. ماذا تقصد بالتطورات السياسية والعسكرية الاقليمية حول البلاد؟ هناك مظهر جيوإستراتيجي لا يمكن أن ننساه ف «القاعدة» أصبحت من القوى الدخيلة في البلاد حيث استقرت ورسمت وجودها من خلال لجان حماية الثورة التي تمثل يدا من أيادي القاعدة في البلاد وقد اعترف بهم شيخهم.وهويتباهى بأنهم أولاده وأنهم شبان عاشوا نفس الظروف التي عاشها في شبابه واعتبرهم ركيزة الثورة وأنّهم تونسيون ولم يأتوا من المريخ.. ورغم خطورة هذه الهيئات فإن رئيس الوزراء الحالي والذي كان وزيرا للداخلية مع الجبالي والمسؤول الأول عن الأمن والاستقرار لم يكن في مستوى المسؤولية .فما الذي فعله لمواجهة هذا الخطر الذي ولد ونما في عهده ويكتفي اليوم بتحذير البلاد من عواقب اندلاع مأساة أمنية في البلاد؟ المفارقة هو أن وزير الداخلية السابق مثله مثل الوزراء الآخرين تناسوا مسؤولياتهم تجاه الوضع المتأزم للبلاد واكتفوا بالتحذير وهذا تناقض غير مقبول وضرب من الاستهزاء بمشاعر التونسيين واستبلاه لهم. ماذا عن الجانب الاجتماعي من الأزمة ؟ الأزمة الاجتماعية بدأت مع حكومة حمادي الجبالي ولم تنفرج وأحسن دليل على ذلك ما جرى مطلع الأسبوع المنقضي في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة حيث أقدم شاب على حرق نفسه لنفس الأسباب التي حرق من اجلها البوعزيزي نفسه. إذن فاليأس مازال على حاله في الجهات وهو الأمر الذي جرها للاحتجاج في 2011 وأقول إن إمكانية اندلاع ثورة جديدة واردة جدا وتونس لن تفلت من 14 جانفي جديد وهو مشهد مأساوي بالحجة والدليل. لقد وصلت البلاد إلى آخر المأزق والاعتراف بهذا الأمر جاء على لسان السيد حمادي الجبالي. هل كان اعتراف الجبالي بالفشل اعتراف بفشل فردي أم فشل جماعي «النهضة» طرف فيه؟ «النهضة» قالت إن حمادي الجبالي هو من فشل وليس هي. ولم تعترف به وضحت به .فالرجل قام بمبادرة وجدت على إثرها «النهضة» نفسها خارج اللعبة .وأنا أعرف انه وقع شبه تخويف وضغوطات وتهديدات للجبالي من طرف حزبه وهذه معلومات جاءتني من مصدر أثق به قريب من «النهضة» حيث أكد لي أن كل الوسائل كانت متاحة للعقاب.ولا أستبعد أن يتم طرد الجبالي قريبا من «النهضة». أرى لك موقفا خاصا من حمادي الجبالي؟ أعتبر أن الجبالي صادق والحزب الذي ينتمي إليه وضحى من اجله خذله .وأقول أن هناك عقليتين في «النهضة», الأولى تخص أغلب أعضائها الذين لم يغادروا البلاد وهم الذين يحرصون على مصلحة البلاد وإبعادها عن التجاذبات السياسية والثانية هي عقلية الأطراف التي هاجرت. وبكل الأحوال الأمثلة موجودة ومن غير تحامل. الجبالي طلب «السماح» من الشعب في حين أن مجلس الشورى وكبار «النهضة» خذلوه وقالوا انه أخطأ لكنهم قالوا أيضا أنهم أهل الحل والربط ورغم فشل الجبالي يبقون دائما على صواب . ماهو رأيك في تعيين السيد علي العريض على رأس الحكومة الجديدة؟ قامت «النهضة» بتعيين رجل من صلب «النهضة» لخلافة الجبالي وكأن الأزمة التي مرت لم تكن وتصر «النهضة» على أنها دائما على صواب «معيز ولوطارو» .لقد جاؤوا بشخصية تحمل كل تشدد «النهضة» وكان من الأجدر لها ان تخرج من الحكم وتعطيه إلى طرف آخر. الآن وقع ترسيم العريض خلفا للجبالي على نفس الأساس وهو هيمنة «النهضة» والمحاصصة الحزبية وكأن شيئا لم يكن. الحكومة الجديدة نسخة من الحكومة السابقة والسؤال المطروح اليوم كيف سيكون مصير السياسة مستقبلا؟ هل نفهم من كلامك أن تعيين مستقلين في وزارات السيادة لن يغير شيئا؟ في هذا الباب أقول إن هذه الحكومة أدخلت عناصر «مستقلة» لتثبت أنها قبلت بمبدأ المشاركة وهذه أسطورة غير واقعية لأن الاستقلالية في الحقيقة مسألة نسبية جدا.ولا يكفي الإدعاء بالاستقلالية إذ لا بد من إثباتها في الواقع والأقرب للظن أن الحكومة الجديدة ستنهار بداية من الأيام الأولى أو الأشهر الأولى لأن الوزراء يعملون تحت إمرة رئيس وزراء متحزب . هل أصبح الانتماء الحزبي أقوى من الانتماء للدولة؟ لمدة قصيرة يمكن المصادقة على هذا القول والمآل لن يكون أحسن مما كان عليه. فرئيس الحكومة الجديد لن يدافع عن الدولة بقدر دفاعه عن الحزب. إذن كيف سيكون سيناريو عمل الحكومة الجديدة؟ أتصور أن هؤلاء الوزراء يعلمون أن لديهم مدة قصيرة للعمل وفي كل الحالات لن يكون لهم الوقت للإصلاح وفهم الملفات .وفي أحسن الحالات إما أن ينصاعوا للإملاءات الحزبية أوسيتوخون مبدأ عدم الانحياز والتلاعب السياسي .وهذه الحكومة لن تأتي بالجديد. أنا أتعجب من تصريحات الوزراء الباقين من حكومة الجبالي حيث يعدون بإنجاز المعجزات حاليا . أنت تحكم بالفشل المسبق على الحكومة الجديدة؟ هي حكومة محكوم عليها بالفشل ومن بين أسباب فشلها أنها حددت لنفسها أجلا وهذا استبلاه للشعب لأنه سواء كانت حددت موعدا أم لا فإنها سيدة القرار في كل الأحوال ولن تنتهي صلاحياتها بنهاية الفترة المحددة. إن التخوف مشروع لأن هذه البلاد يمكن لها أن تنزلق في الأشهر القادمة إلى مأساة أعمق من التي هي عليها الآن. هل هذا يعني أن الشرعية لن تسقط عن الحكومة بانتهاء المدة المحددة على غرار المجلس التأسيسي؟ الشرعية موجودة الآن لكن المشروعية انتهت فهي كالحب لا تأتي «بالسيف». هل ترون حلولا ممكنة للخروج من منطقة الخطر؟ لا بد من الاعتراف بأن الأزمة التي تعاني منها البلاد بلغت حدا من العمق والتضخم إلى حد لا يمكن لأي حزب سياسي أوتحالف سياسي أن يأتي بحل ولو جزئي لها فالخطورة تتجاوز الإطار الحزبي والحكومي وتتجاوز حتى الإطار التشريعي والدستوري بما في ذلك المجلس التأسيسي لان هذا الأخير ماهو الا صورة للصلة التي مكنت الحكومة السابقة والحالية من السيطرة على البلاد.لا بد من الارتقاء بملف أزمة البلاد من المستوى الحزبي إلى مستوى أعمّ يجمع كل القوى في البلاد . ما أخاف منه أن تدفع هيمنة طرف واحد على الحكم القوى الأخرى في البلاد إلى الدفاع عن مصالحها الضيقة عوضا عن المصالح العامة. إن خدمة الوطن ليس بالضرورة الجلوس على كرسي . تحدثت عن فشل المجلس التأسيسي فهل هذا يعني أن مسودة الدستور تشكو من نقائص؟ إذا نظرنا إلى النص الموجود اليوم نرى أن العملية الدستورية في البلدان الديمقراطية بصفة عامة تتطلب إدراج مبادئ وقواعد قانونية وأسسا في الدستور تمثل 95 بالمائة مما هو متفق عليه عالميا بمعنى انه إذا أردت ولوج الديمقراطية لا بد من ارتداء لباسها .الأمر الثاني الذي يحدد المحتوى والمضمون هو أن تونس انصهرت منذ الإستقلال في منظومة الديمقراطية وقبلت شروط اللعبة وعلى هذا الأساس استقلت . إن البلاد ستغرق إذا واصل الساسة الحاليون إدارة الظهر للمبادئ الدستورية العالمية .لكن بصورة أوبأخرى لا بد أن يقع نوع من التقارب لان السياسة تقارب في وجهات النظر ولا مجال لربطها بالدين . وقد نشرت سابقا مسودة دستور استطيع أن أقول إن 80 بالمائة من مسودة الدستور المقدمة في المجلس التأسيسي أخذت منه. ماهو الخطر المتوقع من تداخل الدين بالسياسة؟ للأسف الحركة الداخلية ل«الدويقة» الدينية تكونت من ورائها تفاعلات وصلت إلى مستوى من الخطورة متقدم جدا وهو أن البعض من الأطراف المتدينة اقتنعت بأنه لا مجال للتعامل السياسي مع الأطراف الأخرى على حساب الدين. وفي وقت آخر سيأخذ العنف مكان السياسة ولا عجب أن تشاهد أطرافا متطرفة تخزن الأسلحة وتكوّن الخلايا وتجمع الأموال وتسخر كل ذلك استعدادا لخوض معركة يرون انه لا مناص منها . اليوم هناك أطراف من القوى السياسية اقتنعت بأنها ستصل إلى العنف ولا تتعجبي فان لم يتفوق العقل السياسي على الديني فإن الحالة ستتأزم على غرار الكثير من البلدان كمصر والسودان والصومال ومالي ...وسنصل إلى مرحلة الحرب الأهلية أوالتدخل الأجنبي. صور :شرف الدين