التونسية (سليانة) «يا بني... أكلت الحنظل وذقت الصبر فلم أر شيئا أمرّ من الفقر... لعلّ حكمة لقمان هذه وحدها القادرة على تصوير ما وقفنا عليه ونحن نخطو باتجاه هذه المنطقة التي ينتظر أهلها نهاية ليل الصبر ولا يعلمون متى سيحطون الرحال من رحلة الحياة المليئة بالأتعاب والحرمان... فلا دليل على الحياة في هذه الربوع الا من خلال الأنفاس والحركات الشاقة التي دأب سكانها عليها فلا يسمع الا أنين التعب وزفرات المرضى والمحتاجين الذين لم يقنطوا بعد من رحمة السماء لأن رحمة أهالي الأرض ماتت ولن تأتي لمنطقة أولاد عرفة التابعة لمعتمدية بوعرادة ولاية سليانة التي يظهر أنها ضحية زهايمر سياسي لا علاج له... ولا نبالغ ان قلنا أن أهالي هذه المنطقة التي جادت بالفلاقة وفطاحلة المجاهدين من الهمامة والفراشيش واولاد عيار وظلت بيوتها وفيافيها حصنا منيعا لهم لا زالت تقاوم وتحافظ على شموخها في تحد صارخ للظروف القاهرة لتظل أبية رغم الآلام المنقوشة على تجاعيد النساء اللاتي قوضت ظهورهن أكوام الحطب في أيام البرد القارس... ويصعب علينا سرد متاعب هذه المنطقة لكثرتها حيث تكاثرت همومها... فمن غياب البنية التحتية إلى الفقر إلى الشباب الضائع إلى الطفولة التي قهرتها عواصف الحرمان... المشاكل عديدة وكل مشكلة تنسينا الأخرى ودموع العاجزين تحيلنا إلى سجل المظالم التي أتت على أجيال من هذه المنطقة مظالم تتلخص في كلمة: النسيان... صور من السواد الأعظم فلا أثر للقرن 21 في هذا المكان حيث توقفت عقارب الساعة في زمن الأكواخ والبيوت القصديرية أيام القرون الوسطى فلا تعصفي يارياح ولا تهطلي يا مطر حتى لا يسقط سقف المنزل المتصدع على راس هذه العجوز التي مازالت تغالب حكم السنين وتعمل «خماسة» في احدى الأراضي الفلاحية حتى توفر ثمن رغيفها... كانت خطواتها بطيئة متثاقلة وثوبها باليا وفي دمعتها التي تغالبها من حين إلى آخر حكايات وحكايات... فكم من ليلة نامت وهي خاوية البطن ,وكم من ليلة ارتعدت بردا لأنها لا تمتلك اغطية صوفية فالغطاء الوحيد الذي كانت تمتلكه -عبارة عن خرقة بالية- كانت تدثر بها أبناءها... لتستفيق على مشهد بكائهم صباحا وهم يطالبونها بلقمة عجزت أن تشتريها... واليوم وهي على مشارف عقدها السابع وكما قالت تستعد للرحيل عن هذه الدنيا بعد أن نخرت هشاشة العظام والبرد والسكري وارتفاع الضغط جسدها النحيف وتضطر لتحافظ على ما تبقى من صحتها وهي تقطع من اجل ذلك مسافة طويلة لتذهب إلى مدينة سليانة لتلقي العلاج والظفر ببعض الأقراص التي تتوهم عبرها الشفاء... وغير بعيد عن كوخ هذه العجوز تختبئ مأساة أخرى وعنوان آخر للحرمان في بيت هو عبارة عن غرفة لا توجد بها ابسط المرافق الضرورية تجمع اكثر من خمسة أفراد في ظروف صعبة للغاية لا يوجد داخلها سوى بعض الحشايا التي أكل عليها الدهر وشرب وبعض الأواني... هي اقرب في شكلها إلى «سيلون» السجون وهي الصورة الحقيقية الوفية للواقع... حدثتنا السيدة نجوى عن معاناتها داخل هذا «القبر» وعن معاناتها مع المسؤولين الذين ما زالت أبوابهم موصدة قائلة إن عدد الشكاوى التي تقدمت بها للسلط المحلية بقدر سنوات انتظارها وأنها لم تطلب منحة بل طلبت مساعدة زوجها العاطل عن العمل لبعث مشروع فلاحي يقيهم الخصاصة وينهض بمستواهم الاجتماعي المتدني لكن دون جدوى... نفس هذه الصورة القاتمة أعادها على مسامعنا العديد من شباب المنطقة فعبد اللطيف وبريك وإسماعيل وقيس وحمادي، كانوا في السابق يعملون ضمن تعاضدية فلاحية ويؤمنون قوتهم الشهري منها زيادة على بعثهم لنشاط فلاحي في تربية الماشية واليوم هم عاطلون عن العمل يجوبون الشوارع بلا غذاء ومن يتحصل منهم على شغل فإنه يعمل لشهر كامل ويقع خلاصه لمدة عشرين يوما فقط بل الأدهى من ذلك أن هناك من يعمل صحبة زوجته في ضيعة فلاحية كامل ساعات اليوم والأجر 100 دينار للاثنين... البعض الآخر من الشباب الذي صادفنا في طريقنا قال بالحرف الواحد كتعبير منهم عن سخطهم على الوضع الخانق «يجي موسى نرحمو على عيسى». جل الشباب يقبع في المقهى ملاذ العاطلين في انتظار أن ينزح للعاصمة او للساحل عله يظفر ب«خبزتو» فلا تنمية ولا مشاريع ولا شيء وكأنها ارض الأموات, أراضي أجدادهم سلبت منهم كذلك حيث انتزعت وسلمت للغير من غير أصيلي الجهة الذين حولوها إلى أراض مكتراة وحرمتهم من موارد رزق قارّة... مسالك بدائية البنية التحتية بدورها تحتاج إلى الكثير. فمدخل المدينة يفتقر إلى كل مقومات الحياة العصرية وخاصة المدخل المؤدي إلى السوق... طريق به الكثير من الحفر وبرك المياه... السيارات والشاحنات تسلكه بصعوبة كبيرة فكيف الحال بالنسبة للمترجل؟ وماذا عن التلاميذ الصغار وهم يضطرون إلى قطع 8 كلم للتوجه للمدرسة وقد علمنا أن اغلبهم دون أحذية ودون معطف في الشتاء ,بطونهم خاوية ورغم ذلك لا يتبرمون وينحتون الصخر من اجل مستقبل يضمن لهم مورد رزق وفي تلك الظروف التي نعجز عن وصف قساوتها سمعنا أماني كبيرة فمنهم من يحلم بممارسة مهنة الطب ومنهم من يحلم بالمحاماة ومنهم من لم يَقْوَ على التحدث معنا لفرط جوعه... وقد افادنا احد الأطفال انهم يضطرون للانقطاع عن الدراسة أياما طويلة... بسبب الفيضانات في فصل الشتاء... أحلام في مهب الارياح... لم يبق مجال للأمل والأحلام في هذا المكان... لم يبق سوى نعيق الغراب بعد أن حل الخراب فالشباب هنا يستيقظ لينام... يعيش سنن الموت قبل حلوله.. خاصة وأنهم لم يعد يصدقون وعود الساسة... قالوا انهم لم يتخلفوا عن القصبة 1و2 قالوا انهم قدموا دماءهم في ثورة الكرامة والحرية 14 جانفي لكنهم لم ينالوا الا المقاعد الخلفية ويؤكد جميعهم انهم حاملو شهائد عليا وشهائد في العمل الفلاحي... لكن المسؤولين خذلوهم وهو ما يبرر حسب رأيهم انتفاضة أبناء سليانة... فأولاد عرفة من بوعرادة أو كما عرفت عبر التاريخ «مطمورة روما» هي جزء من سليانة الجريحة التي اختطف الرش من أبنائها البصر فهل من لفتة إليهم؟