أتيحت لي فرصة حضور حفل مارسال خليفة وابنيْه في المسرح البلدي، ما لاحظته هو أنّ تفاعل الجمهور مع المادة الموسيقية المقدَّمة كان كبيرا وهو ما يتناقض مع التعاليق التي قرأناها عن خيبة أمل «فنيّة» في حفلاته السابقة. يتراءى لي أنّ المسألة مغلوطة في طرحها، فلكل واحد منا «مارسالَهُ» الذي يحب ولا يرغب إلا في تكرار تلك الصورة النمطية التي اختزلتْها الذاكرة وسكنتْ فيها: فهذا يعشق مارسال 1981 ب«رتّا» و«جفراء» و«أحنّ إلى خبز أمي» و«جواز السفر» بعود وحيد وآلة إيقاع، وذاك لا يعترف إلا بأغانيه الملتزمة «سياسيا»، وآخر يطلب منه الانتصار لتيار سياسي معيّن. حنيننا وهروبنا إلى البدايات إنما يتعارض في الحقيقة مع حقّ الفنان في البحث عمّا وراء السائد في رغبة للانعتاق منه والوصول بعد تيه وتجريب إلى أنماط جديدة على الذائقة التقليدية. ومارسال لمن لا يعرف أو يتجاهل هو باحث في الموسيقى وليس سياسيا من الصف الأول وتجربته تمتد على أكثر من 30 سنة لا نتصوّر لحظة أنه بقي فيها حبيسا للبدايات وإلا لاكتفينا بتسجيلاته القديمة نستمع إليها كلما هزنا الحنين إلى جهة ما في القلب والذاكرة. ألبوماته ذات القطع الموسيقية الصامتة تجد رواجا كبيرا في الضفة الأخرى من العالم لأنهم هناك يطلبون الموسيقى الجديدة التي تكسّر أسوار الاستكانة إلى ما مضى ولأنهم يحبون الحياة، يرغبون في تعبيرات فنية تلامس حبّ الانطلاق الدائم إلى المستقبل لا إلى الوراء. نجح مارسال أم فشل، تلك مسألة نسبية، لكنه على الأقل مازال «منتصب القامة يمشي» في رحلة التيه التي بدأها عاريا إلا من المثابرة والتحدي.