أن تجعل الجمهور ينصت بصمت ويتمعّن الشعر ويصفّق تفاعلا وإكبارا للمقاطع المشحونة بالصور المجازيّة المعبّرة عن المبادئ والقيم التي تعيش في وجدانه، صعب في هذا الزمن، زمن الرداءة والتهميش والانهزامية والتقهقر. ولكن إدارة مهرجان جربة أوليس الدولي تجرّأت هذه السنة وأقدمت على تنظيم سهرة رائقة بمناسبة مرور خمسة عشر عاما على رحيل رائد الأغنية العربية الملتزمة بقضايا الحرية والعدالة والانعتاق وجمعت فيها عدّة عناصر. ❊ الحبيب بلعيد قبل انطلاق الحفل كانت أغاني الشيخ إمام تملأ الجوّ بصوته الشجيّ القويّ المدوّي، تذكر الجمهور الذي ملأ المدارج بأشهر ما غنّاه وما عرف عنه طيلة حياته ومسيرته النضاليّة الفنّية .و لحظة البداية تقدّمت فتاة صغيرة لتعلن محتوى السهرة ثم تقدّم الحبيب بلعيد، قيدوم الإذاعيين الحاليين بالإذاعة التونسيّة، المعروف جدّا في الأوساط الشبابية خاصّة في فترة السبعينات والثمانينات ليضع المناسبة في إطارها بكلماته الخفيفة الرقيقة المختارة المختزلة قائلا: "إن الشيخ إمام لم يمت" "إن الشيخ إمام حي بيننا ","إنها سهرة الوفاء له" "إنها سهرة جزيرة جربة الوفية لهرمين : "الشيخ إمام الكفيف المبصر" وحامل لواء الأغنية العربية الجديدة الملتزمة بقضايا الشعوب: مارسال خليفة. ❊ الشعر في الصدارة أول الشعراء كان خالد الوغلاني، ابن جزيرة جربة المعروف في الأوساط الأدبية المحلية الوطنية و العالمية، وقدم "أربعة حمامات : الأولى لجربة والثانية للبنان الكرامة والثالثة لغزة الصمود والأخيرة لجرح الأمة الذي يتواصل نزيفه عراق الحرية استمع لها الحاضرون بانتباه كبير، وقاطعوه بالتصفيق المعبر عن الإعجاب مرات عدّة، كانت إحدى تلك القصائد باللهجة العاميّة التونسية، ثمّ جاء دور الثنائي الذي جمع بين الكلمة والغناء اللبنانيين زاهي وهبة الوجه التلفزي الأليف منذ 1985 بقناة "المستقبل" اللبنانية صاحب الإستضافات واللّقاءات التلفزية الشهيرة لعديد الوجوه والاسماء اللامعة على الساحة الفنية والفكرية العربية، صاحب برنامج "خلّيك بالبيت" وهو أوّل عربي منح الجنسية الفلسطينية تقديرا لما قدّمه للقضيّة المركزية : فلسطين المحتلّة، وصاحبته على آلة العود، الفنانة نسرين حميدان، وتراوح المشهد ما بين الالقاء والغناء من طرف وآخر، وتمّ الاستماع لعدد من النصوص الشعرية النثرية هي تقريبا على التوالي قصيدة لا تنسى لفلسطين/بكاء الأمهات/ضاعت وردتك القديمة/أحبك أكثر/نجمة الضغينة و تضيق بك الحياة مهداة لروح محمود درويش. أما الأغاني الخاصة بالشيخ إمام المرددة مع الجمهور فكانت إذا الشمس غرقت في بحر الغمام/الورد جميل وله أوراق/ياست الحبايب/مرّ الكلام /عصفور والبحر. ❊ صاحب الحق إثر ذلك صعد السيدان هشام الباسي، رئيس الهيئة المديرة في لباسه الأبيض، والسيد طارق ترجت ليرتجلا معا فقرة تكريم الحبيب بلعيد الذي كان أول من أدخل في البيت الإذاعي في قناة تونس الدولية الناطقة بالفرنسية، وبكلّ جرأة في زمن عمله آنذاك أغاني الشيخ إمام على أمواج الأثير، واشتهر بها لدى أوساط المتعلمين وخاصة الطلبة والنقابيين والجامعيين واليساريين. وقدّمت له هديتان تذكاريتان، وبعد انسحاب المسؤولين واصل المحتفي به تقديم فقرات السهرة. وهكذا قال لتقديم مارسال خليفة إنه المبدع الموسيقي صاحب مشروع مقاومة الرداءة والبذاءة وتطوير الأغنية العربية صاحب أشهر الأغاني على الإطلاق، صديق التونسيين منذ الثمانينات، في طول القطر وعرضه، وهو الذي تكوّنت بينه وبينهم ألفة ومحبّة، ومجيئه مباشرة الى جربة من لبنان ولذمّة حفل وحيد إلا دليل على ذلك وهو ضيف شرف في حفل التكريم لشيخ إمام الذي تعرّف عليه وتعارفا واشتركا معا في تكريس ونحت الأغنية العربية الملتزمة. وجاء مصحوبا وفقط بإبنيه بشار على الإيقاع ورامي على آلة البيانو. ولكن قبل لحظة اللقاء أعلن المتحدّث عن تقديم فقرة صغيرة خفيفة من تسجيلات قديمة للقاء الجمهور التونسي مع الشيخ إمام أيضا، في حفلات عامّة سجلها هو شخصيا. ❊ نشوة كبيرة عمّ الظلام المكان، وتوجّهت الأضواء عبر بوابة مدخل الركح وتقدم مارسال خليفة بلباسه الأبيض ووشاحة الأزرق وشعره ولحيته الرماديتين يحيط به ابناه وقف الحاضرون لتحيّتهم برهة ليست بالقصيرة. ثم انطلق الغناء والترديد الجميع يغني والجميع ينشد ويعبّر، و تسللت المعزوفات والمقطوعات والنغمات »المارسالية« وكانت ريتا و منتصب القامة أمشي و يطير الحمام وموسيقى الحبّ و إلى روح الشيخ إمام قطعة خاصّة وأخيرا وبإلحاح كبير من الجمهور وختاما أحن إلى خبز أمي ولئن لم يقدّم مارسال خليفة باقي ما عرف به و عنه من الأغاني وباعتبار موقعه من المناسبة فقد كانت اللذة الموسيقية وما انتقاه هو وابناه من فقرات ولمسات على آلاتهم بأناملهم تدغدغ الأحاسيس الرقيقة المرهفة تطرب وتحرّك النشوة الموسيقيّة العذبة السكرية ذات الرحيق والعمق المتجه لمداخل الشعور والنفس، لتجعل المستمع يتحرّك د،نما إرادة منه، ولتقفز من وجداته كل المشاعر الملتهبة ...