بقلم: مصطفى قوبعة مثيرا جدّا كان مقال الدكتور محمد نجيب القروي، ومثير للتساؤل كذلك نشر الدكتور لمقاله في نفس الوقت في صحيفتين يوميتين، صحيفة «التونسية» التي نشرته كاملا في عددها الصادر يوم الثلاثاء الماضي وصحيفة «الصباح» التي نشرته على جزءين في عدديها ليومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، على خلاف ما تقتضيه بعض أخلاقيات التعامل الصحفي، ولكن يفهم على الأقل أن الدكتور محمد نجيب القروي سعى إلى تأمين تسويق واسع لمقاله قبل أيام معدودة من اجتماع مجلس شورى حركة «النهضة»، وقد يكون هذا التزامن بين نشر المقال وبين الاجتماع المرتقب لمجلس الشورى مجرّد صدفة، وقد يكون مقصودا والله أعلم.. السيد محمد نجيب القروي هو اليوم دكتور، والدكتور قبل أن يعالج بالشكل الحسن يتعين عليه التو فيق في التشخيص الحسن لأصل الداء، والأكيد أن الدكتور القروي في ممارسته لمهنته الطبيّة ناجح في التشخيص، ولكنه لم يكن موفقا في تشخيصه السياسي لمسار حركة «النهضة» ولعلاقتها مع الغير، وليعذرني الدكتور في هذا. استعرض الدكتور محمد نجيب القروي مسار حركة «النهضة» ماضيا وحاضرا، ويقتضي التشخيص هنا البدء من نشأة الحركة وهي المرحلة التي تحاشى الدكتور الحديث عنها أو إثارتها من نهاية الستينات إلى نهاية السبعينات، ولعل أصل الداء في الإخلالات والارتباكات التي رافقت مسار حركة «النهضة» منذ نشأتها إلى اليوم يعود إلي جذور نشأة الحركة وظروف ولادتها وملابساتها. وأغلب الظن هنا أن الدكتور يرى في قرارة نفسه أن نشأة الحركة لم تكن عفوية وفي سياق تطور طبيعي وموضوعي للحياة السياسية في تونس، وأن نشأة الحركة كانت في جانب كبير منها بإرادة سياسية من حزب الدستور لضرب خصومه السياسيين من اليساريين ومن القوميين ومن البعثيين في تلك المرحلة لينقلب السحر على الساحر فما بعد، واللبيب دون إشارة يفهم. تحدّث الدكتور عرضا عن المشروع الإسلامي لحركة «النهضة» الذي حصره في رفض سياسة التغريب والانسلاخ عن الهوية المتبعة منذ الاستقلال دون مزيد من التفاصيل والإيضاحات عن مضمون هذا المشروع وعن آفاقه وعن أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا أعتقد هنا أن الإسلام السياسي ظهر في موريتانيا أو المغرب أو ليبيا أو مصر أو الأردن أو اليمن إلخ... كمشروع بديل لسياسات تغريب وانسلاخ عن الهوية لم تعشها هذه المجتمعات على الإطلاق. في الحالة التونسية نستنتج أن المشروع الإسلامي لحركة «النهضة» هو اللامشروع طالما ثمة إجماع وطني على الهوية العربية الإسلامية وباعتبار الدين الإسلامي قاسما مشتركا بين جميع التونسيين ومحل إجماعهم فعدا هذا لم تقدم حركة «النهضة» أيّة إضافة سوى تطويع المسألة الدينية للوصول إلى السلطة ثم للبقاء فيها. وإلى أن يأتي ما يخالف ذلك، فإن المشروع الوحيد لحركة «النهضة» هو امتداد للمشروع الأمريكي في المنطقة لدعم المحسوبين على الإسلام الخفيف / المعتدل في مواجهة الجماعات الدينية المتشدّدة، فالإدارة الأمريكية لما عجزت عن السيطرة على هذه المجموعات التي رعتها وعشعشتها أوكلت مهمة محاربتها إلى الغير. هذا خطأ ثان سقطت فيه حركة «النهضة» ينضاف إلى الخطأ الأول الذي طبع نشأة الحركة، ومما زاد في تأزم وضعها الداخلي أنها عجزت عن التمايز عن غيرها من حركات الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي بتجربة وطنية للإسلام السياسي منسجمة بالكامل مع طبيعة وخصوصيات المجتمع التونسي المختلفة تماما عن غيرها من المجتمعات العربية والإسلامية. والخطأ الثالث الذي تحاشى الدكتور محمد نجيب القروي الحديث عنه كسابقيه من الخطأين، أن حركة «النهضة» ارتبطت عضويا بالتنظيم العلمي للإخوان المسلمين ممّا قلص بدرجة كبيرة من هامش مبادرتها على الصعيد الوطني، ولعل ما أساء إلى الحركة أيضا في أوساط الرأي العام هو تبعات مواقف وتصريحات بعض رموز هذا التنظيم وبعض أعوانه وفتاويهم من مصر ومن بعض أقطار الخليج العربي ومن غيرها، وهي في مجملها مثيرة للسخرية ومسيئة للإسلام ولا تتلاءم مع مزاج المواطن التونسي العاديّ. يتفاخر الدكتور محمد نجيب القروي وهذا من حقه بفوز حركة «النهضة» وبكل جدارة بانتخابات 23 أكتوبر 2011، وهُنَا لا يتعلق الأمر مرّة أخرى بالتشكيك في نزاهة هذه الانتخابات ولكن لابدّ من الوقوف على معطى هام يحاول الكثير منّا تغييبه في الحديث عن انتخابات 23 أكتوبر، فالانتخابات تقضي في منطلقها ضمان مبدإ تساوي الحظوظ أمام جميع المترشحين، الشيء الذي لم يتم: فحركة «النهضة» دخلت الحملة الانتخابية بإمكانيات مالية ضخمة لم تتوفر لدى غيرها. وحركة «النهضة» وهذا الأخطر، وظّفت المساجد في حملتها الانتخابية كأفضل ما يكون، واستغلت دون حق الوازع الديني لاستمالة قلب الناخب قبل عقله. ويكفي أن نتوقف عند هذين الخرقين لمبدأ تساوي الحظوظ لنقيم نتائج هذه الانتخابات بشكل مغاير لما ذهب إليه الدكتور القروي، هذا فضلا عن عزوف أكثر من 3 ملايين ناخب عن التصويت ودخول المعارضة مشتتة على عشرات القائمات. «الدين أفيون الشعوب» هي مقولة لكارل ماركس، استشهد بها الدكتور القروي في سياق تهجمه على اليسار، طبعا لست ناطقا رسميّا باسم اليسار، لكن أعتقد أن الدكتور لو عاش ممارسات الكنيسة الروسية كما عاشها صاحب المقولة في الزمان والمكان لوصل إلى نفس الاستنتاج، وطالما أن الدين يبقى أداة لدى البعض لتبرير التجهيل والظلم والاستبداد والتلاعب بإرادة الشعوب تبقى مقولة كارل ماركس صالحة، وتسقط هذه المقولة كلما يكون الدين أداة لنشر العدل والتسامح والحرية وقيم العقل والعلم والمعرفة، لا أكثر ولا أقل. لكن الدكتور محمد نجيب القروي في سياق تفاخره بمشروع حركة «النهضة» تغافل عن الإجابة عن عديد التساؤلات هي على غاية من الأهمية وأهمّها: أيّ دور لعبته حركة «النهضة» في مسار الثورة منذ اندلاع شرارتها يوم 17 ديسمبر 2010؟ ما هو الرابط بين «المشروع الإسلامي» لحركة النهضة وبين الاستحقاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي رفعتها الثورة، هذا إذا كان ثمة رابط. قد يصعب على الدكتور محمد نجيب القروي الإجابة بكل وضوح وبكل صراحة عن هذين التساؤلين، ولكنه على يقين أن هذه الثورة أنقذت حركة «النهضة» من مخاطر تورّط جديد مع نظام بن علي وقد بلغت تفاهمات التسوية مع السلطة آنذاك درجة متقدمة سواء عبر قنوات مباشرة أو قنوات غير مباشرة هو يعلم الكثير عنها بالتأكيد. ويقدم الدكتور في موقف شجاع منه قراءة نقدية لحركته وللأخطاء التي ارتكبتها قبل وبعد وصولها للسلطة ويكاد يقول أن حركته في مراحل مختلفة من مسارها لم تكن ديمقراطية، ويكاد يقر بفشلها في إدارة الحكم، لكنه ومن المفارقات، لم يستنتج أن هذا الفشل غير المعلن مردّه أساسا: أن حركة «النهضة» كانت على هامش الثورة وعلى هامش استحقاقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعروفة. أن البناء غير الديمقراطي للحركة يجعلها بالضرورة غير قادرة وهي في السلطة على إنجاح إدارة الانتقال الديمقراطي. طبعا ثمة مجالات كثيرة أخرى لم يتوفق الدكتور محمد نجيب القروي في قراءتها، كمسألة الإعلام، ومسألة الاتحاد العام التونسي للشغل، ومسألة دور المعارضة في ظل ارتباك أداء السلطة وكأنه مطلوب من المعارضة أن تحيّي السلطة على أخطائها وأن تصفق لها أو كأحداث سليانة حيث كان عليه الاستئناس بقراءة نائب حركة «النهضة» عن جهة سليانة لفهم الأحداث بأكثر موضوعية. ولكن المهم في هذه القراءة النقدية لحركة «النهضة» أنّ الدكتور محمد نجيب القروي: يشيد بشكل أو بآخر بدور السيد حمادي الجبالي، وكأنه يقول لمناضلي الحركة أنه لولا السيد حمادي الجبالي الذي بادر حال مغادرته السجن بإعادة بناء الحركة، لما كانت حركة «النهضة» تنظيميا على ما هي عليه اليوم. يوجه رسالة لا أحد يستطيع فكّ رموزها سواه إلى الشيخ راشد الغنوشي قبل أيام معدودة من انعقاد اجتماع مجلس شورى الحركة قد يحدّد المصير السياسي للسيد حمادي الجبالي. ولو من منطلقات مختلفة يلتقي الدكتور محمد نجيب القروي في رسالته مع الشيخ عبد الفتاح مورو في خصوص إعادة بناء قيادة الحركة ومع «الشيخ» الحبيب اللوز الذي يقترح بناء أشبه بتنظيم الإخوان المسلمين في مصر يكون فيه الشيخ راشد الغنوشي أشبه بالمرشد العام للحركة مقابل تنحيه عن منصب رئيس الحركة سياسيا.