رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستُحدد لاحقًا وفق العرض والطلب    بالفيديو: رئيس الجمهورية يزور مطحنة أبة قصور بالدهماني ويتعهد بإصلاحها    قيس سعيد يزور مطحنة أبة قصور بالدهماني ويتعهد بإصلاحها (صور + فيديو)    "نحن نغرق".. سفينة مساعدات متجهة إلى غزة تتعرض لهجوم جوي (فيديو)    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    كيف سيكون طقس الجمعة 2 ماي؟    طقس الجمعة: خلايا رعدية مصحوبة أمطار بهذه المناطق    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    الرابطة الأولى (الجولة 28): صافرتان أجنبيتان لمواجهتي باردو وقابس    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. " محمد نجيب القروي" يكتب ل "التونسية": «النهضة» في مفترق الطرق: أي واقع.. أي إصلاح.. وأي مستقبل؟
نشر في التونسية يوم 16 - 04 - 2013


قيادات «النهضة» عزلت نفسها عن المجتمع
نشوة الإنتصار فتحت شهية الإسلاميين على الحكم...
الثورة أعادت الغنوشي إلى مركز القوة وهمشت معارضيه
لماذا تتعرض «النهضة» الى قصف ممنهج من اعدائها الايديولوجيين وحلفائهم؟
ل «النهضة» اليوم باعتبارها حركة اسلامية معتدلة دور رئيسي في المحافظة على توازن هش بين علمانيين متطرّفين يرون في الدين أفيونا للشعوب وسلفيين جهاديين نصّبوا انفسهم حراسا للعقيدة ولا مكان في رأيهم ل «الكفار» في أرض الاسلام
««التجمع»» غيّر إسمه ليصبح «نداء تونس»
«النهضة» تواجه صعوبات التحول من السرية إلى الجماهيرية
«النهضة» بين الإصلاح من الداخل والإنقسام
إستقلالية الإعلام أصبحت ذريعة لأعداء الثورة
«طفا إسم نجيب القروي على سطح الأحداث السياسية في بلادنا بعد نشره لتقرير عن الحالة الصحية لحمادي الجبالي حين كان رئيسا للحكومة. وتناقلت وسائل الإعلام خبر حضور «الجبالي» حفلا خيريا نظمته جمعية خيرية إسلامية الهوى يرأسها «صديقه»القديم الدكتور نجيب القروي إبن الوزير الأول والنائب الأول الأسبق لرئيس «التجمع» الدكتور حامد القروي.
وتركزت الأضواء على نجيب القروي حين أصدع بخلافه مع وزير الصحة، وقبل هذا كله، فقد كان «الدكتور « مناضلا في صلب حركة الإتجاه الإسلامي منذ كان طالبا، وإعتقل في الجزائر نهاية الثمانينات قبل أن ينتقل لفرنسا لمواصلة دراسته ويبتعد عن كل نشاط سياسي سنة 1991 تاريخ إطلاق بن علي لحملة تجفيف المنابع ضد حركة «النهضة» .
وحين أكمل دراسته، عاد إلى تونس في 2نوفمبر 1993 فإنشغل بتكوين مركز للطب الإستعجالي في مسقط رأسه سوسة وإنخرط في العمل الجمعياتي.
في هذا المقال يقدم الدكتور نجيب القروي –المناضل النهضوي السابق- قراءته لواقع حركة «النهضة» والتحديات التي تواجهها والخيارات الصعبة المطروحة على قياداتها بشكل خاص»

تنبيه «استباقي وقائي» :
هذا المقال لا يلزم إلاّ صاحبه ولا يدّعي التعبير عن آراء آخرين بعينهم «والفاهم يفهم»
« إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب» (هود 88)
مقدمة وتساؤلات
احتلّت حركة «النهضة» بعد 14 جانفي 2011 مكانة مركزية في الحياة السياسية التونسية وأصبحت رقما لا غنى عنه في المعادلات الداخلية والخارجية نظرا لقدم حضورها الجماهيري في مجتمعنا وعمقه وطبيعة مشروعها الاسلامي الذي يلبي طموح شريحة واسعة من المجتمع التونسي التي ترفض سياسة التغريب والانسلاخ عن الهوية المتبعة منذ الاستقلال, وكذلك طول ووحشية القمع والتغييب والإقصاء الذي تعرضت له عبر سجن وتشريد وتعذيب حتى القتل لعشرات الآلاف من مناضليها. وبعد أن تم انتخابها ديمقراطيا بالأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي وشكّلت حكومة ائتلافية هي فيها الطرف الأقوى , أصبحت بالنسبة إلى معظم الأطراف الأخرى «العدو» الذي ينبغي إسقاطه ولوكان على حساب إسقاط الدولة والاقتصاد والأمن , بأية طريقة ولوبالإجهاز على تجربة التحول الديمقراطي والقضاء على قواعده.
ولمحاولة تحليل هذه الظاهرة وردود الفعل عليها وجب في البدء نفض الغبار السميك الذي تراكم منذ أكثر من سنتين (إضافة إلى عشرات السنين للحكمين السابقين) بفعل الحملات الاعلامية المبرّرة وغير المبررة والدّعاية والدّعاية المضادة والكم الهائل من الإشاعات الكاذبة والتضليل على الشبكات الاجتماعية والكذب والخلط المتعمد في الأحداث والانتماءات وتضافر «جهود» أطراف عديدة التقت مصالحها في هذه المعركة حتى تعطي انطباعا بأن «الجميع متفق على هذه العداوة» دون أن ننسى مساهمة عدد من قيادات هذه الحركة وقواعدها في تغذية هذا «الغبار». والأسئلة التي نود البحث في الإجابة عنها هنا هي :
كيف وصلت «النهضة» إلى الحكم عبر الانتخابات ؟
لماذا تألّبت عليها أطراف عديدة متباينة إيديولوجيا مع بعضها ؟
ما مصير المسار الديمقراطي مع وبلا «النهضة» ؟
ما مصير «النهضة» داخل الحكم وخارجه ؟
ما مصير مشروع الهوية مع «النهضة» ودونها ؟
«النهضة» قبل 14 جانفي
في الداخل : إعادة التنظيم السري تدريجيا على يد السيد حمادي الجبالي بعد خروجه من السجن حتى تكوين مكتب تنفيذي تحت إشرافه ومجلس شورى يرأسه السيد الصحبي عتيق ومكاتب جهوية, مع ظهور علني لبعض الرموز (ديلو, البحيري..) في إطار جبهة 18 أكتوبر مثلا .
في الخارج: المئات من العناصر القيادية والقاعدية موزعة على عديد الأقطار في أوروبا خاصة والولايات المتحدة وكندا وبعض الدول الخليجية . وقد كانت الأجواء في المهجر تتميّز بالاختلافات المتمحورة حول تقييم أداء القيادة في سنوات الجمر وما آلت إليه الأوضاع بعد الصدام مع النظام وطريقة التعاطي مع الأوضاع . واحتدّت الاختلافات خاصة بعد أول مجلس شورى الذي تلى مؤتمر 1995 في ألمانيا والذي تبنّى «الدعوة لمصالحة شاملة لا تستثني أحدا من الأطراف السياسيين والاجتماعيين والثقافيين واعتماد خطاب بعيد عن التشخيص والتجريح والقطيعة» . ولكن لم تكن القيادة برئاسة الشيخ راشد الغنوشي تلتزم كليا بهذا القرار , مما كان يولّد ردود أفعال ويزيد في حالة الاحتقان حدّة. خاصّة أن المؤتمر أوصى كذلك بالبحث عن سبل لحل مشكل المساجين السياسيين, بينما كانت تصريحات ومواقف القيادة تبعد أفق الحلول الممكنة .
فقد كان إذا الشيخ راشد الغنوشي طرفا في وسط العاصفة له أنصاره وله معارضوه وقد ضعف موقفه في السنوات الأخيرة , بل يبدو أنه كان من المنتظر أن يخلفه غيره في رئاسة الحركة في المؤتمر الموالي (قبل أن تندلع الأحداث في تونس أواخر 2010).
هروب الطاغية وتسارع الأحداث
ما إن هرب بن علي حتّى شعرنا عند جزء من النخبة بخوف يختلط بفرحة استعادة الحرّية , بدأ يبرز شيئا فشيئا منذ الأيام الأولى. وهو خوف العارفين بموازين القوى في البلاد والذين كانوا مرتاحين لتعامل بن علي القمعي مع الاسلاميين بل كانوا في هذا المجال جزءا خفيا من المنظومة بالتنظير والرضا والتعتيم والمساهمة في إضفاء الشرعية على هذا التعامل في الداخل والخارج , إلاّ من رحم ربّي . فلنتذكّر التحاق العديد من اليساريين ب«التجمع» الدستوري الديمقراطي (الذي خلف الحزب الاشتراكي الدستوري في مؤتمر جويلية 1988) , ولعل الرمز الأبرز كان السيد المنصر الرويسي الذي أصبح لاحقا رقما أساسيا في سياسة الرئيس بن علي. ثم اتفاق الجميع على اغماض العينين عن القمع الواسع والعنيف الذي أقدم عليه بن علي في مواجهة الاسلاميين ابتداء من 1990 والذي برّره لاحقا بالعنف المضاد الذي مارسه اسلاميون وشكّل في الآن نفسه نقطة اختلاف في داخلهم أدّت إلى تجميد عضويات (مورو والبلدي والدمني والبحيري ...) واستمرّت تفاعلاتها الارتدادية إلى يومنا هذا .
وقد كان هؤلاء الذين تملّكهم الخوف , سواء من الموالين حزبيا للنظام القديم أومن اليساريين المتحالفين موضوعيا معه في تحقيق هدف تهميش الاسلاميين وقمعهم , كانوا متمركزين من قبل في كافة المستويات من المنظمات المدنية والأوساط الثقافية وفي أجهزة الدولة الرئيسية في منظومة الاستبداد والفساد مثل القضاء والأمن والاعلام العمومي بمختلف أشكاله (والخاص بطبيعة الحال) أوفي أوساط المال والأعمال وغيرها . وقد تم هذا التمركز على عقود بينما كان الاسلاميون يُصفّون منهجيا من هذه المواقع وغيرها بالطرد التعسّفي والمطاردة والسجن أوالاغتيال والتشريد .
في المقابل كانت شعبية الاسلاميين قد تصاعدت سرّا على مرور السنين في الأوساط الشعبية خاصة بفعل التعاطف الذي جلبه قمع البوليس لهم والظلم الذي تعرّضوا له , فلم تكد أسرة تونسية تخلومن قصة قمع وتنكيل من نظام الاستبداد.
في هذه الأجواء انطلق بعد 14 جانفي 2011 تشكّل عدد كبير من الأحزاب السياسية التي أودعت ملفّات طلب التأشيرة , وتأخرت «النهضة» شيئا ما نظرا للنقاشات التي دارت داخلها والاختلافات الموروثة حول دور قيادات المهجر والداخل ومكانتها والتي عادت إلى السطح بمناسبة تكوين الحزب . فقد جاء هروب بن علي «منقذا ومصدّقا» للموقف المتشدّد من السلطة والرافض لأي تعامل أو مصالحة , مقابل الموقف الذي كان ينادي بإيجاد حلول للخروج من المأزق والإفراج عن المساجين . وبينما كان هناك موقف مؤسّساتي بالتريّث وعدم رجوع الشيخ راشد الغنوشي حتّى تتّضح الرؤيا , قرّر هذا الأخير العودة رغم نصائح القيادة في الداخل.
تمركز قيادات وصدّ الأبواب
حصيلة تكوين قيادة الحزب كانت عودة الشيخ راشد الغنوشي بقوة مع مناصريه الأساسيين والذين شاهدنا صعودهم لاحقا في حكومة ما بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 وأبرزهم السادة محمد بن سالم ولطفي زيتون وعامر العريض وحسين الجزيري ورياض بالطيب ورفيق عبد السلام ومحسن الجندوبي... إلى جانب تكوين المكتب التنفيذي للحركة من المساندين وكذلك العشرات من رجال الصف الثاني الذين وقع انتدابهم في الوزارات .
مقابل ذلك فقد هُمّشت مجموعة من القيادات والطاقات المعتبرة للحركة (خاصّة في الخارج) وأوصدت أبواب التأثير في وجوهها بسبب معارضتها لخط القيادة الموجودة في المهجر في الوقت ذاته الذي رفع فيه الشيخ شعار «الثورة تجبّ ما قبلها» . وأتوقف لحظة هنا لأبيّن حول ما سبق وحول ما سيأتي أن ما يتضمنه هذا المقال ليس البتّة محاكمة للنوايا ولكنه قراءة ظاهرة لسلوك ظاهر والله أعلم وهو يتولّى السرائر .
وتكون هكذا قد تكوّنت بعد 14 جانفي قيادة لحركة ««النهضة»» والتي يصفها اليوم البعض من الذين همّشوا بأنها «حركة مختطفة» , حيث أنه وبالرغم من أن الشيخ راشد هومن المؤسّسين الأوائل للحركة , فإنّها لم تعد ملكا له حتّى يهمّش من عارضه في وقت ما , إذ أن عشرات الآلاف ساهموا مباشرة في تغذيتها ونموّها وانتشارها لاحقا, ويعتبرون أنه من حقّهم جميعا باختلاف آرائهم المساهمة في رسم خياراتها وتحديد مستقبلها .
«النهضة» وسكرة الحكم
بعد الفوز في انتخابات 23 أكتوبر , بدأت حالة «نشوة الانتصار» تفعل مفعولها السيئ بفتح شهية الحكم على مصراعيها . فبعد الواقعية التي كانت تسود في البداية بضرورة تجنّب الدخول بقوة في الحكم وتدريب الكوادر في المواقع الثانية وتشريك جميع الطاقات التونسية , فعلت النتائج بسرعة فعلها وغابت عن الأذهان ضرورة اللجوء إلى كوادر وكفاءات عالية لتسيير دواليب الدولة وظنت قيادات في «النهضة» أن الحكم شيء يسير وأنها قادرة عليه بتوزيع المناصب على مناضلين لم تكن لعدد منهم تجربة في الحياة المهنية فضلا عن قلّة معرفتهم بدواليب الإدارة التي أبعدوا عنها بصفة منهجية على مدى عقود. وتم توزيع الحقائب بصفة اعتباطية لم ترتكز على المواصفات الموضوعية لهذا النوع من «الانتداب». وأبعدت هكذا ومع الأسف الكثير من كفاءات البلاد العالية وحتى من أبناء الحركة والمتعاطفين معها .
وتلت نشوة «الانتصار» هذه «سكرة الحكم» حيث انعزلت الحركة أو بالأحرى قياداتها العليا عن المجتمع السياسي والمدني والناخبين والمحرومين وحتى عن قواعدها الصلبة. وكلما شعرت بصعوبة المهمة وعجزها على مجابهتها لجأت إلى مزيد الهروب إلى الأمام وأوصدت الأبواب وصمّت آذانها عن الناصحين . ويسّرت على أعدائها مهمة عزلها ومهاجمتها وإبراز سوءاتها , خاصة وأنّها عجزت منذ البداية عن إدراك الأهمية القصوى لوسائل الإعلام
وضرورة تحقيق اصلاح واستقلالية الاعلام العمومي عن الأطراف التي بقيت تتحكّم فيه منذ عهود الاستبداد والذي لم تمر منه رياح «الثورة» بعد إخماد نارها من حكومات الانتقال الأول . فبقي هذا الميدان ذو الأهمية القصوى والدور الفاصل في عهد بن علي على حاله وأصبح أداة في أيدي أطراف بعينها تتحكم فيه لضرب الحكومة وتدّعي الاستقلالية . والنتيجة أن استقلالية الإعلام أصبحت حصنا أو ذريعة يحتمي بها أعداء «التغيير الثوري» وخادمو الاستبداد السابقون لتجنّب المحاسبة وخسران هذا «السلاح» الخطير و«سقوطه» في أيدي الخصوم الذين وصلوا إلى السلطة السياسية , ولمواصلة توجيهه إلى ذات الهدف السابق.
وبدأ انحسار الحركة تحت الضربات المتصاعدة من خصومها والتي كان الاعلام يضخّمها خاصّه وعامّه في عمليات منظّمة ومنسّقة , ووقعت في ما سمّاه البعض «أسر السلطة» , وزادت القيادات في تعميق هذه الأزمة بطريقتها في الحكم بتدخّل المكتب التنفيذي للحركة في شؤون الحكم بصفة مبالغ فيها نزعت عن رئيس الحكومة إمكانية المبادرة السريعة وتسيير شؤون الحكم بما يخوّله دستور البلاد ونواميس الحكم , وعطّلت أيّما تعطيل آليات أخذ القرار وتنفيذه (إضافة إلى التعطيل المتعمّد من جزء من الإدارة نفسها) , زد على ذلك تشابك المصالح الشخصية وأحيانا العائلية , إضافة إلى «أهواء» شريكي «الترويكا» المتقلّبة ومشاكلهما الداخلية .
ما لم تعه «النهضة» : السلطة سلطات
في المعادلة الجديدة
يبدوأن قيادات «النهضة» لم تع أن الوضع بعد 14 جانفي تغيّر تماما في مفهوم السلطة كونها لم تعد واحدة مختزلة في السلطة السياسية بل إنها انفجرت وتفتّتت إلى «سلطات» , وليست السّلطة السياسية هي أقواها . فنجد اليوم على الساحة سلطة الإعلام وسلطة النقابة وسلطة القضاء وسلطة التعليم وسلطة التعليم العالي وسلطة أهل الثقافة وسلطة المجتمع المدني وسلطة الشارع وحتى سلطة البلاطجة («الباربوات» والمهرّبين والسلفيين الجهاديين...) في ظل ضعف الدولة. ونفتح قوسين هنا لنلاحظ أنه ولئن كان هذا هو الوضع الطبيعي في ديمقراطية عريقة (عديد «السلطات»), فإنّه لا ينبغي أن نغفل عن أن هذه «السلطات» قد تشكّلت في عهد الاستبداد وصنعت لخدمته ولتحقيق ديمومته, وليست إفرازا طبيعيا لصيرورة مسار ديمقراطي قديم في بلدنا بل هي حالة «اصطناعية» غير متطابقة مع توازنات المجتمع والقوى الموجودة على الساحة , (ونغلق القوسين). ولم تع قيادات «النهضة» أن جلّ هذه «السلطات» ليست تحت سيطرتها أو سيطرة الحكومة بل هي تحت سيطرة أعدائها اللّدودين, بل وحتى الشارع الذي من المفروض أن يكون «ملكا» لمن له العمق والحضور الشعبي الأقوى , لم تقدر «النهضة» على الامساك به واستعماله كما يستعمله خصومها , فأُحرقت مقرّاتها وهي الحزب الأقوى والماسك بالسلطة والأمن ولم تقدر حتى على تطبيق القوانين البسيطة والبديهية تجاه المخرّبين . وبدت باهتة مرتبكة متردّدة عاجزة أمام واقع تجاوزها , محبطة قواعدها التي لم تفهم الداء الذي اخترقها والعجز الذي وقعت فيه قياداتها. بل إن هذه القواعد نفسها أو الجزء البارز منها على الأقل في الشبكات الاجتماعية وغيرها , قد انزلقت من جراء انعدام التأطير في أخطاء أخلاقية متنافية مع تعاليم ديننا ومقتضيات أخلاق الإسلام الحميدة , مما زاد في نفور الناس الذين لم يروا فرقا بينهم وبين الآخرين وهو ما وقع استغلاله من طرف الخصوم وساهم في نزع «الهالة» الدينية التي كانت إحدى أهم عوامل الجذب لدى ناخبي حركة «النهضة» .
لم تع قيادات الحركة أنها كانت تجني ثمار الحنظل التي نبتت من زرع الإقصاءات في مختلف المراحل والانغلاق والأخطاء في تقدير صعوبة الحكم وضرورة تشريك الكفاءات والانفتاح على الغير وعدم الاستئثار «بالغنيمة» ووضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار وهي أمانة مفزعة وقع الاستخفاف بها ولم تقدّر حق قدرها . وقد أوصلها ضعف موقفها وسوء تقديرها وانعدام تأصيل مواقفها إلى التراجع تلو التراجع وإلى انهيار كبير للدّفاعات جعلت خصومها يستأثرون بزمام المبادرة ويسيّرون الأمور كما يحلو لهم وكأنهم هم السلطة الفعلية .
إعادة سيناريو 1988-89 : الائتلاف
ضد الاسلاميين
لقد ساهمت «النهضة» في تيسير إعادة إنتاج التحالف الذي كوّنه بن علي في 1988 وبعده حين «فتح» الحزب الاشتراكي الدستوري لدماء جديدة «مؤدلجة» بتحويله إلى «التجمّع الدستوري الديمقراطي» , وأنقذه بإعطائه نفسا جديدا بينما كان يحتضر في أواخر أيام بورقيبة . ثم ضمن موافقة بقية القوى تقريبا لضرب الحركة الإسلامية ومن بينها اتحاد الشغل وأحزاب «المعارضة» الموجودة آنذاك (القانونية وغيرها) والتي وافقت بن علي أن «يأكل الثور الأبيض» بينما هي «تنظر في اتّجاهات آخرى» . وإنّنا نرى اليوم تشكّل السيناريوذاته بفارق أن «النهضة» اليوم ماسكة بالسلطة السياسية (ولا غير) وأن «التجمّع» غيّر اسمه من جديد ليصبح «حركة نداء تونس» وهو في «المعارضة». والبقية لا تغيير يذكر من قوى سياسية ومجتمع مدني واتحاد الشغل وإعلام ....
الفرق هو أن الحرب لن تكون هذه المرّة بالبوليس والسجن والمحاكمات ولكن بالتشويه والبروباغندا وتقنية «تخويف الشعب لإخضاعه» والدعم الأجنبي المعلن والضمني والحرب النفسية وحتّى ضرب الاقتصاد وزعزعة أركان الدولة لإسقاط الخصم منها وأن «النهضة» لا يمكنها هذه المرّة كسب التعاطف الشعبي والدولي حيث أنّها في واجهة السلطة وليست في دور الضحية ممّا ييسّر ضربها اعتمادا على مفاهيم قديمة كانت لها استعمالات وقبول ليس بقديم العهد أخرجت بسرعة من الرفوف لاستعمالها بلا براءة مثل «الحزب الحاكم» أو«ديقاج» أو«القمع البوليسي» أو«الدكتاتورية» وحتّى هذه الأيام الإيحاء بأن «الانتخابات الأخيرة كانت مزيّفة», مقابل ازدراء والتقليل من أهمّية المفاهيم الأساسية الجديدة مثل «الشرعية الانتخابية» و«تمثيلية الشعب» و«هيبة الدولة» ومهاجمة «الرموز العدوة» لإسقاط إشعاعها وتأثيرها . وبمضخّمات الإعلام يصبح قطّاع الطرق «شباب غاضب» والدفاع عن الذين يهاجمون مسلّحين وبأعداد كبيرة مراكز الأمن والولايات شيء طبيعي ومشروع جدّا (إلاّ إذا كانوا سلفيين) ورجل الأمن الذي يدافع عن مركزه وأمنه متّهما واستعمال الرش (عوض الرصاص الحي) فضيحة كبرى يجب محاكمة رئيس الحكومة ووزير الداخلية والوالي من أجلها . أي المعنى هو أن القوة العامة لا يجب أن تستعمل مهما حصل وأن البلاد يجب أن تسلّم لكل من تحدّثه نفسه بالحرق والنهب وإيّاكم أن تعترضوهم وإلاّ حاكمناكم . أية مسؤولية ووطنية هذه التي تتسامح مع المجرم وتشجّعه بدعوى «الاحتجاج» وتريد معاقبة المدافع بدعوى استعمال القوة بينما هو«القوة العامة» بعينها والمسؤول عن المناعة ؟ (ثم نحاسبه ثانية لمّا تفقد هيبته ويفقد الأمن من البلاد , مفارقات عجيبة) . فقط لتصفية الحسابات مع طرف هواليوم في الحكم , متناسية أنّها سترث غدا الوضع والمفاهيم التي غرستها اليوم بقصر نظر رهيبة وروح وطنية نسبية جدّا .
ما بعد 6 فيفري 2013
بعد أن تأكد عجز الحكومة وإصابتها بالشلل الذي تجسّد خاصة في الإخفاق على مدى ستة أشهر في تغيير وزراء تبيّن للعموم فشلهم , وبعد محاصرة الحركة وقصفها من جميع الجهات والتصعيد الشديد من مختلف الأطراف وحتى من حلفائها في «الترويكا» , جاء حدث اغتيال شكري بلعيد وفي المساء نفسه تقديم موعد إعلان مبادرة رئيس الحكومة بتكوين حكومة كفاءات وطنية «ليهدوا» للحركة ما اعتبره البعض بمثابة طوق نجاة غير إرادي وغير منتظر . فبالرغم من تسرّع الخصوم في انتهاز حادث الاغتيال لاتّهام «النهضة» بلا أي دليل , وهي مناورة تندرج بوضوح ضمن الخصومة السياسية والدعاية ضد الحركة , فإن هذه الحادثة أحدثت صدمة كان من
الممكن أن تسمح ل «النهضة» بالنزول من على الركح واسترجاع الأنفاس واستخلاص الدروس من التجربة الصعبة والمراجعة والاستعداد إلى الانتخابات القادمة بعيدا عن أضواء السلطة ومساوئ نتائج العمل الحكومي التي لا يمكن إلاّ أن تكون ضعيفة في الظروف الراهنة وأمام حجم الإنتظارات , أضف إلى ذلك مشوّهة «بفضل» الاعلام والخصوم.
ولكن مرّة أخرى , وبعد تضييع فرصة مؤتمر جويلية 2012 للتقييم الجدي والصريح وتغيير الوجهة وإعطاء رسائل إيجابية ومن بينها تصحيح طريقة الحكم واتّخاذ القرار وتعديل في القيادة السياسية والفصل بين السياسي
والدعوي , مرّة أخرى حال التشبّث بالسلطة والمصالح الشخصية والحسابات القصيرة المدى دون اغتنام الفرصة وتدارك الخطأ الأصلي بعد أن «طارت سكرة الحكم» واشتد طوق الأسر بفعل القصف العنيف والمتواصل من طرف الخصوم وتعطيلهم للعمل الحكومي ومجازفتهم حتى باقتصاد البلاد وأمنها واستقرارها من أجل إسقاط «العدو» , إلى جانب المطلبية المشطة من كل جانب مقابل ظروف تشتد صعوبة محلّيا ودوليا .
والآن ؟
يمكن تشبيه المشهد الحالي بجيوش تحشد قواها من أطراف متعدّدة ومتناقضة أحيانا , داخلية وخارجية بأشكال مختلفة , يجمعها هدف مرحلي واحد وهو القضاء على الإسلاميين وإخراجهم من الحكم نهائيا. مقابل حزب عزل ولا يزال عن المجتمع (بفعله الذاتي أوّلا وبفعل خصومه ثانيا) عبر حملات إعلامية مستمرة تستعمل كل ما أوتي إليها من أحداث وأخطاء حقيقية ل «النهضة» وإشاعات لتسخيرها في المعركة في عملية بروباغندا وغسل أدمغة مثالية (وبمدد إضافي من «الأصدقاء» في الخارج) سيحتفظ بها التاريخ كحالة للدراسة . هذه العملية التي غذّتها «النهضة» في جزء كبير بمدّ خصومها بانتظام بهفوات وبمادة ثرية ما يفتأ المتربّصون بها يتلقّفونها عبر هياكل منظمة ومنسقة فيما بينها لاستغلالها عبر كل الوسائط وحتى النخاع .
لكن ما هي الرهانات هنا ؟ وماذا يعني ضعف أوقوة «النهضة» أوتهميشها عن الساحة السياسية في صورتها الحالية وتجاذبها بين مختلف «المتطرفات» ؟
«النهضة» ودورها في التوازن
مهما كانت أخطاء القيادة فادحة وانحراف جزء منها بالمشروع من مشروع حضاري مجتمعي إلى مشروع سلطة, فإنّ لحركة «النهضة» بتاريخها وامتدادها وتأصّلها في المجتمع كحركة إسلامية معتدلة , لهذه الحركة وفي هذا الظرف بالذات الذي تعيشه بلادنا دور اجتماعي رئيسي وهودور المحافظة على التوازن الهش بين أطراف تنتظر لحظة الحسم بينها . حيث أن الساحة في تونس اليوم أشبه بحلبة اجتمع فيها فريقان كل وراءه جمهوره ومحرّضوه وكل منهم يزمجر ويتوعّد ويصعّد ويستعرض عضلاته: فريق العلمانيين المتطرّفين و«الملحدين الإيديولوجيين» من جهة بذراعهم «الاجتماعية» اتّحاد الشغل ووراءهم الغلاة من أهل الثقافة والتعليم والإعلام والطبقة الفرنكوفونية والخارج الفرنسي خاصة والأموال , هذا الفريق المقتنع بأن «الدين أفيون الشعوب» وأنه عنصر التخلف والانحطاط في مجتمعاتنا وأن لا مكان له أبدا خارج جدران المساجد والبيوت ولا مكان لأتباعه إلاّ بين جدران السجون أوفي القبور. وفي الجهة المقابلة فريق ما يسمّى ب«السلفيين الجهاديين» وبحوزتهم كميات من السلاح ووراءهم شباب متحمّس وتمويلات وحركات جهادية منتشرة في دول الجوار , نصّبوا أنفسهم بأنفسهم كحرّاس العقيدة الوحيدين وفي داخلهم عقيدة راسخة بامتلاكهم دون غيرهم للحقيقة المطلقة وأن لا مكان ل«الكفّار» في أرض الإسلام , ولئن مكّن «لأهل الكفر» تحوّل تونس من «أرض دعوة» إلى «أرض جهاد» وشرّع لهم حمل السلاح , أمنيتهم الأسمى الاستشهاد في سبيل الله.
وفي هذه الحلبة تلعب اليوم «الحركة الإسلامية» دور « نظام المخزن المؤقت» الذي يستوعب الطاقة عن يمينه وعن يساره ويمنع الالتحام شديد التفجّر بين هذين المتناقضين والذي لا قدّر الله سيأتي على الأخضر واليابس ويعود بنا أشواطا إلى الوراء حيث لا قدرة لنا على تحمّل وتجاوز سنوات جمر مثل أشقّائنا الجزائريين الذين لهم من الثروات ما سمح باستيعاب الخسارة (عدا الخسائر البشرية و«هروب العقول» إلى الخارج).
ولكن بالرغم من هذا الدور الأساسي في هذا الظرف الدقيق , فأنّى للحركة الإسلامية أن تدّعي الحفاظ على مكانها على ركح السياسة إن لم تصلح حالها الذي آل بها وبالبلاد إلى ما هي عليه اليوم ؟ وهل أن هذا الدور يمكن أن يكون لوحده سببا كافيا لإبقاء هذا الحزب في السلطة , إن لم يتمكن في الحد الأدنى من إيجاد حلول لمشاكل البطالة ولم يتمكن من توفير الأمن وإنعاش الاقتصاد ؟
مستقبل «النهضة» : الإصلاح
من الدّاخل أوالانقسام
لحركة «النهضة» رصيد قاعدي وتاريخي ونضالي يخوّل لها التعويل على قاعدة انتخابية صلبة حيث أنها تستجيب لحاجة حقيقية لشريحة من الشعب التونسي . إذا السؤال هنا ليس بقاءها أو اندثارها , بل المطروح هوهل أنها ستتمكن من استعادة ديناميكية نموّها وعكس التيار الحالي , أو أنها ستتصلّب وتنحسر وتنقسم في نهاية المطاف ؟ وهنا تذهب الآراء في اتّجاهين : البعض يراهن على إمكانية إصلاح الحركة من الداخل والبعض الآخر يرى استحالة الإصلاح الذاتي وضرورة إحداث كيان جديد مختلف في التصوّرات وسبل العمل والأهداف المرحلية , مدافع عن هوية هذا الشعب والوطن وعن دينه وأصالته ولكن بطرق مختلفة .
خيار الإصلاح من الداخل الذي تؤمن به حتى بعض القيادات المهمّشة , لتمسّكها بالحركة وتاريخها النضالي باعتباره ملكا لجميع أبنائها ولا يجوز التفريط فيه وفي الحركة ككل وإن مرّت بفترات صعبة واستبد بها البعض. ولكن يبدوأن هذا الإصلاح , على فرضية إمكانه , لن يتم إلاّ بعد وقت طويل نسبيا مرورا بالمؤتمر الاستثنائي المقبل (2014) على أقل تقدير وعلى فرضية أن القيادة الحالية تعترف بالإخفاق وتنسحب لتسلّم المشعل لقيادة جديدة تقدّم مشروعا واضح المعالم وخارطة طريق معقولة وواقعية , بعد تقييم صريح وشامل لمسيرة الحركة منذ نشأتها . وهذا بطبيعة الحال سوف يفوّت على الحركة وقتا ومحطّات مصيرية في هذه الفترة بالذات . ولكن ما حظوظ حصول مثل هذه «الثورة» في صفوف هذه الحركة الكبيرة بما تعنيه من «قصور ذاتي» (بالمعنى الفيزيائي)؟ خاصة أنّنا شاهدنا في الأشهر الأخيرة مدى التشبّث بالمواقع والمناصب حتّى في أعتى الظروف؟
هناك من يعتبر أنّه في كل الحالات وبالنظر إلى التجارب المحلّية القريبة (بورقيبة وتجربته مع حزب الثعالبي, ثم تجربة المستيري وجماعته مع الحزب الاشتراكي الدستوري الذي ورثه «التجمع» الدستوري الديمقراطي وسار على نهجه) لا يمكن تصوّر هذا الإصلاح من الداخل بأية صورة من الصور. وخاصّة أننا نرى مقاومة شديدة حتى للإفصاح عن أخطاء الماضي ونقدها لتجاوزها . وكأن «النهضة» تواجه صعوبات للتحوّل من حركة شديدة السرية والتكتّم إلى حزب جماهيري يتقدّم للنّاخبين وعليه واجب الصراحة والشفافية ويملك ديناميكية التقييم والاعتراف بالأخطاء وإصلاحها وتجاوزها ككل هيكل بشري .
نظرية إحداث حزب سياسي جديد لا ينعت بالإسلامي ولكنّه يحوي طيفا واسعا من التونسيين يشتركون في برنامج ومن بين نقاطه الاعتزاز بالهوية العربية الاسلامية وتنمية شعور الانتماء إليها . ويعتقد هؤلاء أنه يوجد اليوم في تونس جمهور لا يستهان به لا يجد من بين الأحزاب الحالية من يمثله ويعبّر عن قناعاته . هي أو هو تونسي(ة) مسلم(ة) يمكن أن يكون ممارسا أوغير ممارس للشعائر الدينية , ولكنّه متمسّك بدينه وبهويته وسئم الكذب والمراوغة في السياسة ويرغب في دعم أناس صادقين غير طامعين , مخلصين لوطنهم ولا عقد لهم تجاه هويّتهم . هذا التونسي قد لا يرى في «النهضة» اليوم الحزب الذي يستجيب لرؤيته , ولكنه كذلك لا يؤيّد العلمانيين وموقفهم من هوية البلاد والعباد , ولا يرغب في الالتحاق ب «نداء تونس» لاقتناعه أن التغيير والتطوير لن يأتي على أيدي رجال الأمس (ولا يؤمن بالإصلاح من الداخل حتى في هذه الحالة التي يقع فيها إعادة تجميع قدماء «التجمّع» وماكينته تحت اسم «نداء تونس») .
ولكن هل أن بعث مثل هذا الحزب في هذا الوقت وما قد يمثّله من جهد جهيد لتكوين الشبكة ومن خطورة التصادم مع «النهضة» لتداخل جماهير ناخبيهم الافتراضيين والوقت القصير المتبقي للإنتخابات , هل له حظوظ لطرح برامجه وأخذ مكانه على الساحة السياسية واستقطاب جماهيره المفترضة وتأمين جهوزيته للإنتخابات المقبلة؟ وهل يوجد على الساحة , سوى الإسلامية (النهضوية وغير النهضوية) أوغيرها (وطنيين لا إيديولوجيين , قوميين...) من النساء والرجال ذو الكفاءة من هم مؤهّلون ومستعدّون لخوض هذه المغامرة مع ما تفترضه من «قضم» في القاعدة الإسلامية الواسعة وقياداتها وإحداث «الانقسام» الذي تخشاه «النهضة» أيّما خشية؟ وحتّى التحالف الانتخابي مع الأحزاب المحافظة الصغيرة الموجودة على الساحة ؟
في الأخير...
هل سيتمكن الشيخ راشد الغنّوشي والقيادة الحالية من إدراك حجم الضرر الذي لحق بالبلاد أوّلا وعلاقات المواطنين ببعضهم , ثم بالحركة و«بالمشروع الإسلامي» ثانيا ؟ ثم إذا أدركوا ذلك , هل سيعترفون بنسبة دورهم في هذا التدهور.
وأخيرا إذا اعترفوا به , فهل يتجاوزون ذواتهم بإحداث رجّة إيجابية ووضع ديناميكية تغيير على رأس الحركة لدفعها في مسار جديد يصالحها مع العديد من أنصارها ومع شركائها في الوطن ؟
ولكن ولو سلّمنا أن ذلك سيحدث , وهو مستبعد , هل سيتعقّل من صنّفوا أنفسهم «أعداء» للإسلاميين وليس خصوما فقط , وهل سيضعون مصلحة الوطن والمواطن (على الأقل مرحليا) فوق عداوتهم الإيديولوجية لإنقاذ الجميع وإنقاذ المسار الانتقالي والممارسة الديمقراطية , هذه الممارسة التي لا تحلو للجميع حيث يئس البعض من الوصول عبرها إلى السلطة .
الأسئلة مطروحة والوطن ينتظر ... ولكن الوقت يمر ... والأخطار تداهم فهل من مجيب ؟
هوامش
نظام المخزن المؤقت système tampon
قصور ذاتي Inertie


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.