تعرض الجزء الاول من المقال لما يمكن فهمه على أنه عوامل تمس الامن القومي المصري تبرر تحرك المؤسسة العسكرية المصرية في ما يمكن اعتباره انقلابا عسكريا بغطاء شعبيّ. ثانيا: في «الانقلاب الشعبي» بغطاء عسكريّ: كان يوم 30 جوان الماضي في مصر تتويجا لمسار بدأ منذ ثلاثة اشهر تقريبا، لما أسست مجموعة من شباب ثورة 25 يناير الاولى حركة غير عقائدية وغير ايديولوجية تحمل اسم «تمرّد» بهدف تعبئة الشارع المصري حول جملة من المطالب المشتركة في مقدمتها دعوة الرئيس مرسي الى اجراء انتخابات رئاسية مبكرة. تلقف المجتمع المدني المصري وكذلك الاحزاب المنتمية الى الجبهة الوطنية للانقاذ سريعا هذه المبادرة الجامعة وتبنتها ودعمتها لتصبح حركة «تمرد» جزءا من مكونات الجبهة التي عهد بتنسيق اعمالها الى الليبرالي المستقل الدكتور محمد البرادعي والي رئيس حزب الكرامة الناصري حمدين صباحي. وللتذكير فان الجبهة الوطنية للانقاذ ضمت احزابا محافظة على غرار حزبي «الوفد» و«الدستور» واخرى ليبرالية فضلا عن جميع الاحزاب والحركات ذات المرجعية القومية واليسارية، تعززت بالتحاق حركة «تمرد». قام شباب حركة تمرد بمسح كامل تراب جمهورية مصر العربية لتعبئة الشارع المصري حول مطالبهم الى ان تمكنوا من جمع اكثر من 22 مليون استمارة فردية وقّع عليها مواطنون مصريون مساندة لمطالب الحركة وفي مقدمتها الدعوة الى انتخابات رئاسية مبكرة. وكلما تقدم شباب الحركة في مسعاهم تزايد اهتمام وسائل الاعلام المصرية بمبادرتهم وخاصة وسائل الاعلام المرئية، ذلك ان جميع القنوات التلفزية الخاصة باستثناء قناتين محسوبتين على تنظيم «الاخوان» فتحت منابرها لمزيد التعريف بالمبادرة ولمناقشتها بحضور طيف من الاعلاميين ومن المثقفين ومن الفنانين ومن المثقفين ومن الفنانين ومن السياسيين من مختلف التيارات الموالية والمعارضة. والرائع في هذه المبادرة الشبابية الميدانية ان سلاحها الوحيد كان الورقة والقلم وان هذا السلاح ضرب عصفورين بحجر واحد: أولا بجر الاحزاب والحركات السياسية وراءها وثانيا بتأمين تجاوب واسع للشارع المصري معها بما فيه جزء من الاسلام السياسي ممثلا في التيار السلفي العلمي الذي التحق بركب حركة «تمرد» في خطواتها الاخيرة. هنا غاب عن اذهان بعض فطاحلة السياسة في تونس ان الدكتور مرسي مدين في نجاحه في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية ماي 2012 الى الاصوات التي منحتها له مكونات جبهة الانقاذ الوطنية لاسقاط منافسه احمد شفيق على خلفية شعار «لا لحكم العسكر». كان يمكن ان يكون الامر مختلفا يوم 30 جوان الماضي لو اعتلى الدكتور مرسي سدة الرئاسة فقط بفضل اصوات مؤيديه وانصار حزبه وجمهور بقية حركات الاسلام السياسي، لكن نجاح الدكتور مرسي يعود بالاساس الى الأحزاب والشخصيات التقدمية والديمقراطية والليبرالية التي حثت جمهورها على التصويت بكثافة الى المرشح مرسي. والى دعاة الشرعية، هكذا انبنت شرعية الدكتور مرسي نصفها بأصوات الاسلاميين ونصفها بأصوات المعارضة الوطنية والديمقراطية، واذا تأسست هذه الشرعية على هذا النحو فإنّ المنطق السياسي يفترض ان يمارس الدكتور مرسي الحكم على اساس شرعية الشراكة والتعاون والتشاور مع القوى التي منحته اصواتها، وكان يكفي الدكتور مرسي ان يخالف هذه القاعدة السياسية حتى يسقط من حوله نصف مصدر الشرعية التي اكتسبها بصندوق الاقتراع دون اعتبار 48٫5٪ من مجموع اصوات الناخبين التي ذهبت الى منافسه المرشح احمد شفيق. لكن ما إن تسلم مرسي مقاليد الحكم حتى دخل الدكتور مرسي في دوامة من الاخطاء شملت كل مجالات الحياة العامة، مستبعدا مقصيا كل من صوّت له من غير الاسلاميين. فعلى المستوى السياسي فاجأ الجميع باعلانه الدستوري وباحداث مجلس شورى معين على طريقته وبقرارات تضرب استقلالية القضاء وتدجنه وبوضع دستور على المقاس بطريقة مرتجلة ودون استشارة وطنية وعرضه على الاستفتاء الشعبي وسط مقاطعة بعض الاحزاب السياسية له.. هذه عينة من الاخطاء السياسية التي ارتكبها الدكتور مرسي حتى خال للكثير من المحللين انه لم يتصرف في الشأن السياسي كرئيس لجميع المصريين الذين صوتوا له بقدر ما تصرف كامتداد لمكتب المرشد العام للاخوان المسلمين. اما على المستوى الاقتصادي فيتفق الجميع على ان الدكتور مرسي ورث وضعا صعبا، لكن الاستنتاجات التي خرج بها المهتمون بالشأن الاقتصادي المصري ان حكم مرسي عجز عن طمأنة الشارع بمؤشرات توحي بتحسن تدريجي للاوضاع المعيشية في مصر مقابل تفاقم المديونية العمومية في ظرف وجيز بشكل خطير، حتى ان فقراء مصر وجزءا كبيرا منهم من أنصار الاسلام السياسي ازدادوا فقرا في حين تشير تقارير صحفية مصرية الى مزيد استثراء قيادات تنظيم الاخوان والمقربين منهم. اما على المستوى الاجتماعي فيشعر جزء كبير من الشارع المصري وكأن الدكتور مرسي اطلق العنان لمجموعات محسوبة على تنظيم الاخوان لارباك وترهيب الشارع فضلا ولأول مرة في تاريخ مصر عن ظهور الشرطة الدينية بممارساتها ردعا وقصاصا خارج سلطة الدولة واجهزتها الامنية والقضائية. كما ان العودة القوية للخطاب التكفيري وللاعتداء على المسيحيين وعلى الاقلية الشيعية الى حد القتل مثلت اهم سمات الشارع المصري على امتداد الاشهر الماضية. وبدوره، فان الاعلام لم يسلم من هذه الهجمة، فكانت البداية بإغلاق «قناة الفراعين» وبضغوط مسلطة على قناة «دريم» وصولا الى اعتقال الاعلامي الدكتور توفيق عكاشة. هذه الاجواء الخانقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا واعلاميا هيأت الارضية الملائمة لشباب حركة تمرد لتحقيق اوسع تعبئة شعبية توجتها التجمعات الحاشدة المناهضة للدكتور مرسي يوم 30 جوان في كل محافظات مصر. قبل اسبوعين تقريبا من موعد 30 جوان رفع شباب حركة «تمرد» إلى المؤسسة العسكرية توقيعات 22 مليون مصري طالبين منها التدخل علما ان مجموع المصوتين في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية كان في حدود 26 مليون ناخب حصد منها الدكتور مرسي 13 مليونا ونصف من الاصوات، لكن المؤسسة العسكرية لم تتعجل و فضلت قياس تعبئة يوم 30 جوان. وفي الاثناء دعت المؤسسة العسكرية الدكتور مرسي الى القيام في ظرف اسبوع بمبادرة وطنية من شأنها تجنيب البلاد مزيدا من الاحتقان لم يتجاوب معها هذا الاخير. وفي يوم 30 جوان ومع احتشاد معارضي الدكتور مرسي في ميادين وساحات القاهرة ومدن المحافظات كانت طوافات الجيش تحلق فوق هذه الميادين والساحات لتقدير مدى اقبال الشارع المصري على هذه التجمعات واستنتجت ان عدد الحشود شارف 30 مليون مصري اي ما يفوق عدد المشاركين في انتخابات ماي 2012 بأصواتهم الممنوحة الى الدكتور مرسي والى منافسه احمد شفيق على حد سواء، في حين بدت تجمعات مؤيدي الدكتور مرسي كالابر في اكوام القش. وفي المحصلة تأكدت المؤسسة العسكرية فمنحت الدكتور مرسي مهلة اضافية بيومين للتجاوب مع ارادة شعبية بينة لكن مرة اخرى لا حياة لمن تنادي فحصل ما حصل. ولكن في هذه المرة استخلصت المؤسسة الدرس من تجربة المجلس العسكري الاعلى الذي تسلم السلطة بعد سقوط مبارك، فسلم الامانة مباشرة الى سلطة مدنية في شخص رئيس المحكمة الدستورية. ان ما يحدث في مصر هذه الايام يتجاوز عملية اصلاح مسار ثورة 25 يناير 2011 ليرتقي الى مرتبة الثورة الثانية. والاكيد ان مصر مقبلة على مرحلة محليا واقليميا من ادق واصعب المراحل في تاريخها المعاصر، والاكيد كذلك ان مصر ستتجاوز على المدى المتوسط هذا الظرف الصعب ولكن بأية كلفة؟ هذا هو السؤال.