التونسية (تونس) انتشى جمهور فضاء الهواء الطلق بالمركب الثقافي «أسد بن الفرات» كثيا لقاء العرض المتميز لمسرحية «الرّهيب» الذي قدّمها «المسرح الوطني» وأخرجها «منير العرقي» وجسّم أهم الأدوار فيها كل من «صلاح مصدّق» و«حليمة داود» و«جمال مدّاني» و«بشير الغرياني». وما يحسب لهذا العمل الثقافي المركب في فلسفته وأبعاده الفكرية وتجلياته الرمزية أنه ارتحل من «الحمامات» الى «قابس» في رحلة التحدي «شمال جنوب» ثم حطّ بثقل أحداثه على أرض «القيروان» مدينة المجد والتاريخ الموغل في تشنّجات الحضارة العربية ليهب أهلها ماضيهم التليد ويعيدهم الى أيام «رقّادة» اأغالبة وهي في عزّ مجدها وقمّة فتوّتها عربيا واسلاميا... «منير العرقي» المسرحي الرهيب تفاعل مع المكان أثرا والزّمان حدثا فمزج في إبداع ورؤية متشبّعة بسابقية الاضمار والترصد والقصد بين سلطة «إبراهيم بن الأغلب» ودكتاتورية الحاكم العربي التي اسقطتها ثورة الشعوب في ربيعها المجيد وأهدى جمهور «صبرة» وقائع من تاريخ «رقّادة» كما استلهمها الكاتب «عبد القادر اللطيفي» من خلال القراءات التاريخية للحضارة الأغلبية... وحصريا ما كان يحدث في بلاط الحكم وقصر الامارة في خانة أن التاريخ يعيد نفسه عبر الأزمنة... مبرزا مدى هيمنة السلطة الواحدة في السياسات العربية منذ القديم... وربط الماضي والحاضر معا وما بينهما استقرأ الآتي في مواعظ وعبر احتوتها مشاهد العرض وأفرزتها أدوار الممثلين ومضامين تدخلاتهم حسب مكانتهم وتموقعهم في الحراك السياسي وخاصة دوافع تواجدهم قرب الأمير الأغلبي «ابراهيم الرّهيب» ومدى تأثيرهم على سير القرارات في صلب السلطة إزاء الرعيّة التي تجهل بالأساس ما يحصل داخل أسوار القصور الأغلبية في مدينة الأمراء «رقادة» رغم ما يسلط عليه من نفوذ وغطرسة وهيمنة وحرمان لأنه سيكون عرضة للذّبح لو تحدث أو لوّح أو تصوّر ما يحدث في بلاط الأمير... وها أن «المسرح الوطني يتفاعل ايجابا مع الواقع التونسي بكل ارهاصاته وآثاره وتقلباته من خلال مسرحية «الرهيب» ليكشف لهم بكل وضوح ما كان يحصل فعلا في صلب العائلات الحاكمة مثلما أراد مخرج العمل «منير العرقي» الذي قدم للجمهور كتابا مكشوفا، مقروءا، مفضوحا، مفهوما لا يتطلب عسر الفهم بعد أن ظلت الأخبار والفضائح تتسرب من بلاط الحكام العرب وهم صورة طبق الأصل للأمير «ابراهيم بن الأغلب» في اعتماد السلطة الواحدة مدعمة بغطرسة عائلته الموسعة وامتداد جشعها وطمعها ليشمل كلّ ما في البلاد من حي وجامد ولو كان تراب الأرض وصخور الجبال. وتمكن «منير العرقي» في مسرحية «الرهيب» بفضل ذكائه وحرفيته في اكساء عمله طابعا مسرحيا وتقنيا ليثير فيه البعد الابداعي والفني ويقطع بسلاسة وفطنة مع الملل والروتين حتى لا تسقط المسرحية في البعد الاستقرائي وتأخذ منحى الشريط الوثائقي على اعتبار أن الجمهور قد ملّ من الخطاب السياسي التقليدي المباشر وضجر من اللغو والثرثرة وصار في حاجة الى نمط جديد في تقديم وتصور الواقع السياسي لتونس اليوم وهو يتفاعل حتما مع الحراك الاجتماعي حيث بين الحاكم والمجتمع علاقة أخذ وعطاء... أرادها الحكام العرب أن تكون في شكل عمودي لا مكان فيه الا للدكتاتورية والسلطة الواحدة مبررين ذلك بتوقهم الي الديمقراطية والحرية والعدالة والكرامة رغم أن الفساد منتشر بكثرة في «طمبك» حراك القصر... والمسرحية في ايقاعها المتسارع والمتقلب والمتوثب وبأحداثها التي تتوالد من رحيق التراجيديا والقلق والتوتر والخوف وقد وشحتها عديد اللوحات الراقصة بما فيها من ايحاء ورمز وتعبير عن حياة الأمير الحاكم شدته اليها الجمهور ودفعته لأن يعيش الأحداث بكل جوارحه ويأتيه الزمان الى المكان رغم بعد المسافة الزمنية فيلتصق بواقعه الذي ظل حلما وخيالا لأن «منير العرقي» أتى معه بحضرة الأمير بلحمه ودمه الى ركح المسرح وأدمجه في ذاكرة المتفرج وفي ذهنه فتفاعل معه في ارتباك ودهشة واستغراب في جزء من واقعه... كان خفيا مخفيا عليه رغم أنه اللّولب الذي تدور حوله «ماكينة البلاد» ومسرح صنع القرارات الجائرة التي سلطت بعنف على الشعب... وهذا الشعب نفسه قدم ليشاهد حاكمه الذي كان يتشدق بالحرية ويقدم صورته علنا مزيفة عكس حقيقته الأصلية. مسرحية «الرهيب» فرضت نفسها فعلا وقد انبلجت من رحم ثورة 14 جانفي بعد أن ظل «منير العرقي» طويلا يخفي ما كتبه «عبد القادر اللطيفي» لأن الاطار وقتها كان يمنع على المبدعين التنفس فما بالك بعلم يكشف المستور ويعري عن جبروت حاكم رهيب ذي وجهين... وها قد حانت الفرصة ليقدم «المسرح الوطني» عملا ابداعيا في شكله ومضمونه تمتع به جمهور «القيروان» على نخب عروض أخرى ستأتي حتما في شرق البلاد وغربها لتفتح الأبواب في حبّ وهيبة ووقار لمسرحية «الرهيب» وهي تجسم حقيقة الحاكم العربي بعد ان اكتسب مخرجها الوعي واتجه الى الجمهور الواسع على حساب النخبة إذ أدرك أن العلة تخلق الحاجة وأن دوره في المجتمع كفنّان تغير اذ تفاعل مع مقاربة جديدة غازلته طويلا تجعله يفي حق الشعب ويدعوه الى مسرحه عن طواعية.