لست متأكدا تماما أن الطبقة السياسية في تونس بشقيها الحاكم والمعارض تدرك جيدا خطورة اللحظة التي تمر بها تونس منذ اغتيال المناضل الفقيد محمد البراهمي، وسقوط ثمانية عسكريين بأياد غادرة وجبانة في جبل الشعانبي... ويبدو أن هذه الطبقة السياسية بصدد إعادة صياغة نفس سيناريو ما جرى بعد اغتيال الفقيد شكري بلعيد، لينتجوا بذلك خيبة أمل جديدة للشعب التونسي، من المؤكد أنها ستكون أشد وأمر مما سبقتها. فتماما كما جرى بعد اغتيال شكري بلعيد، من «انتفاضة» للمعارضة، وغضب عارم في الشارع التونسي، وذهاب حكومة حمادي الجبالي، نعيش هذه الأيام سيناريو مماثلا في انتظار أن نرى كيف سيكون الإخراج . وقد عدنا هذه الأيام لنعيش «حرب» اللعب بالكلمات بين حكومة إنقاذ، وحكومة وحدة وطنية، وحكومة كفاءات وغيرها من المصطلحات..وهي في الحقيقة «حرب» مواقع بالأساس . لأن لكل كلمة من هذه الكلمات لها مدلول سياسي مختلف .. كذلك بدأنا نعيش «حرب» ربح الوقت، وفعل أي شيء من أجل امتصاص الغضب الجماهيري، إلى حين تهدأ العاصفة، ومن ثم إبقاء الأمور على حالها، تماما مثلما حصل بعد اغتيال شكري بلعيد. نحن اليوم على أبواب مسلسل تكوين الحكومة الجديدة الذي قد يستغرق أشهرا مثل التي سبقتها والحال أن عامل الوقت أصبح حاسما لتونس خاصة على الصعيد الاقتصادي الذي ينذر بالأسوأ حسب بعض المختصين المحايدين. الشعب التونسي ليس على استعداد لأن يعيش مسلسلا جديدا مثلما حصل مع تكوين حكومة علي العريض حين أعاد الممثلون الرئيسيون الانتشار، بل وحافظ بعضهم ممن ثبتت عدم كفاءتهم للجميع على أماكنهم بفضل سحر المحاصصة الحزبية. أما الداعون إلى إسقاط كل المؤسسات دفعة واحدة وحلها جميعا فهم أيضا يلعبون بالنار ويستثمرون غضب الشعب التونسي بطريقة غير مقبولة. والدعوات لاحتلال بعض المقرات الحكومية هي دعوات غير راشدة وتمثل خطرا كبيرا على البلاد. فالثابت اليوم أن هناك عدم رضا على أداء الحكومة الحالية، وأن أي حكومة سياسية لن تحل مشاكل تونس الراهنة هذا إن لم تزد في تعقيدها .. وتونس بحاجة اليوم أن تأخذ الكفاءات بزمام الأمور وتشتغل على مهام طارئة ومحددة، أولها معالجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب وتجنيب البلاد خطر الإفلاس والإعداد للانتخابات القادمة بكل نزاهة وحياد. أما المجلس الوطني التأسيسي فقد حول تونس بأسرها إلى رهينة لأهواء كتله ولمعارك بعض نوابه الصبيانية التي لا تنتهي.. ولحساباتهم الضيقة التي جعلتهم بالأساس «جنود» لأحزابهم قبل نيابة الشعب والدفاع حتى عن أبسط مصالحه. وهو أمر لا يمكن أن يتواصل بهذا الشكل. نعم التأسيسي هو المؤسسة الشرعية الأصلية في البلاد كما يقول خبراء القانون. ولكن شرعية هذا المجلس لا يمكن أن تكون أبدية،. والمطلوب هو أن يضبط المجلس نفسه موعدا لإنهاء مهامه وأن يحول الالتزام المعنوي الذي أمضته الأحزاب الرئيسية الممثلة فيه وغيرها قبل انتخابات أكتوبر 2011 والذي يقضي بألا يتجاوز عمل المجلس السنة الواحدة إلى قانون ملزم للجميع يرى النور من تحت قبة المجلس. لا ترى بعض الأطراف المراقبة والمحايدة حلا للأزمة السياسية القائمة في بلادنا خارج هذا الإطار: حكومة كفاءات .. ومجلس تأسيسي بمهام محددة وفترة عمل مضبوطة. رغم وجود اختلافات من طرف لآخر حول الآليات والتفاصيل والجزئيات. لذلك فإن كل من سيحاول اللعب على ربح الوقت من خلال التعويم والتسويف وطرح القضايا المغلوطة .. وكذلك كل من سيدفع باتجاه العدم وتحطيم كل شيء. هو يلعب بالنار ويتاجر بمصير الشعب التونسي ، ويدفع بالبلاد نحو المجهول. أتمنى أن يكون سياسيونا قد فهموا معاني دموع أمهات العسكريين الثمانية الذين سقطوا في الشعانبي. وأرجو أن يكونوا قد وقفوا على حجم أسى ولوعة آلاف التونسيات والتونسيين البسطاء العاديين الذين بكوا بدورهم هؤلاء الأبطال بكل حرقة، علهم يدركون مدى الحزن والألم الذي غرق فيه شعبنا بعد تكرر عمليات الاغتيال السياسي، وبعد ذبح جنود تونسيين في عز شبابهم غدرا، وبعد تدشيننا لمرحلة العبوات الناسفة..