بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وكالة الاستخبارات الأمريكية وحاضرة الفاتيكان
نشر في أوتار يوم 11 - 11 - 2017

صحيح أن حاضرة الفاتيكان دولة دينية، ولكنها دولة نشيطة على مستوى سياسي أيضا، وإن بدا هذا الدور مغمورا أحيانا، بدعوى الحرص على الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي. ولعلّ ذلك ما حدا بستالين سابقا ليقعَ في تقديرات خاطئة حين تساءل هازئا عن عدد الوحدات العسكرية التي بحوزة البابا، لارتباط الفعل السياسي لديه بالقوة الجارحة وغفلته عما يستند إليه من قوة ناعمة أيضا. وإدراكا لهذا الدور السياسي والثقل الروحي لحاضرة الفاتيكان، نجد الكثير من الصحف الغربية تضمّ في طواقمها ما يعرف ب"الفاتيكانيست"، أي المتخصص في الشأن الفاتيكاني، يتولى بالتحليل أنشطة الفاتيكان الدينية والسياسية. وفي كتاب إريك فراتيني المعنون ب"السي آي ايه في حاضرة الفاتيكان"، الذي هو عبارة عن بحث مطوّل، يرصد فيه صاحبه ويتابع أنشطة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لثلاثة بابوات: البابا الحالي خورخي ماريو برغوليو (فرانسيس)، والبابا المستقيل جوزيف راتسينغر (بندكتوس السادس عشر)، والبابا الراحل كارول ووجتيلا (يوحنا بولس الثاني). فالولايات المتحدة تعي جيّدا ما لهذه الدويلة من تأثير في السياسة الدولية، وإن كان اتساعها لا يزيد عن أربعة وأربعين هكتارا. ولكن جيش الكنيسة الحقيقي هو جيش فريد، يضمّ في صفوفه أكثر من 400 ألف كاهن، و 760 ألف راهبة. كما تربط الفاتيكان علاقات دبلوماسية ب177 دولة، وتشمل تحت إشرافها ثلاثة ملايين مدْرسة، وخمسة آلاف مشفى، ويضم "الكاريتاس" (دُور الإحسان)، 165 ألف عنصر بين متطوّع وعامل يقدمون خدمات ل24 مليون نفر؛ وبالتالي فمن الطبيعي أن تخصص وكالة الاستخبارات الأمريكية جانبا من انشغالاتها لهذه الدولة.
إريك فراتيني مؤلف الكتاب الذي نتولى عرضه هو من مواليد ليما في البيرو، وهو جامعي يدرّس في جامعة مدريد، وقد سبق له أن نشر أكثر من عشرين مؤلفا في القضايا الأمنية والاستخباراتية، منها "المافيا: مائة عام من كوزا نوسترا"، و"العراق البلد المتقلّب"، و"أسرار حاضرة الفاتيكان"، و"غِربان حاضرة الفاتيكان". في مستهل كتابه يستعرض الأجهزة الرئيسة في حاضرة الفاتيكان المهتمة بالشأن السياسي، حيث تبرُز سكرتارية الدولة كجهاز رئيس يتكفل بترويج الأيديولوجيا السياسية للحبر الأعظم. فضلا عن ذلك، نجد "الدوائر التكوينية" (I Colleggi)، وهو جهاز تتمحور مهامه في تكوين الممثلين البابويين في الخارج. والغرض الأساسي للدوائر التكوينية هو التدريب السياسي لرجال الدين في روما ثم ترحيلهم إلى بلدانهم وتصعيدهم في التراتبية الكنسية بقصد التأثير في سير النظام السياسي العام.
في تناول فراتيني لمسألة الفاتيكان والاستخبارات الأمريكية، يوزّع كتابه على ثلاثة أقسام، كل قسم مخصص إلى بابا من البابوات الثلاثة، ثم يقسم القسم الواحد إلى مجموعة من المعنونات بحسب القضايا التي تتركز عليها الاهتمامات الاستخباراتية. مشيرا إلى أن الخط العام للسياسة البابوية يتبدل تكتيكه من بابا إلى آخر مع محافظة على الجوهر. يقول فراتيني حوّلت وكالة الاستخبارات الأمريكية الكرسي الرسولي وحشدا من الكرادلة والأساقفة والموظفين السامين إلى أهداف لعملها، لما يحظى به الفاتيكان من سلطة رمزية في العالم.
في القسم الأول المخصّص للبابا الحالي يُبرِز فراتيني أن تتبّع الشأن المتعلق بفرانسيس، من قِبل "وكالة الأمن القومي"، قد انطلق منذ انعقاد الكونْكلاف (مجلس الكرادلة الخاص بانتخاب البابا) وذلك عَقب الاستقالة المفاجئة لراتسينغر، حيث باتت كافة المكالمات الهاتفية الصادرة والواردة على الفاتيكان عرضة للتنصّت، وامتدت المراقبة لتشمل المعنيين ب"الإيور" الذراع المالية للفاتيكان، بوصفه قطب الرحى الاقتصادي والمالي للكنيسة. وفي جمع المعلومات وتحليلها تعتمد "وكالة الأمن القومي"، وفق فراتيني، على أعوان نشطين في روما بحوزتهم تكنولوجيا متطورة، يعملون في مكاتب حصينة تابعة للبعثة الدبلوماسية، وبمقدورهم تخزين المعلومات عبر نظام الإشارات. ويورد فراتيني أن أعوان المخابرات في سفارة الولايات المتحدة لدى الكرسي في وسعهم التنصت على كافة الاتصالات في حاضرة الفاتيكان، سواء تلك الواردة عبر الهواتف النقالة أو "الوايرلاس" أو المارة عبر الأقمار الاصطناعية. مضيفا أن بمقدور الأعوان تحديد من يخاطب ومن يتلقى المكالمة وذلك بوساطة نظام "بريسم" المخصص للتجسس الرقمي، ناهيك عن مراقبة الحواسيب بمجرد أن يلج المرء الشبكة العنكبوتية. موضحا أن شركات غوغل وياهو وفايسبوك وميكروسوفت وآيبل وسكايب ويوتوب وآأول وبالتالك ودروبوكس، يربط جميعها تعاون وثيق مع وكالة الأمن القومي.
فأثناء التحضير لاختيار البابا الجديد، عَقِب استقالة راتسينغر، تحوّل المائة وخمسة عشر كردينالا إلى "بيت القديسة مارتا" خلْفَ كاتدرائية القديس بطرس للتشاور بشأن المرشَّح الجديد، وقد عمل الحرس السويسري، جندرمة الفاتيكان، على تعطيل كافة أنواع التواصل من وإلى بيت مارتا تفاديا لأي عملية تنصت وحفاظا على سرّية مداولات المجمع، لكن الحرس السويسري ما كان يعلم أن كافة الاتصالات الصادرة والواردة إلى الفاتيكان قبل ذلك اليوم، كانت عرضة للتنصت أثناء التجمعات العامة التي سبقت انعقاد المجمع.
وقد تطرّق فراتيني من جملة ما تطرق إليه إلى مسألة تغاضي البابا الحالي عن الدكتاتورية في الأرجنتين حين شغل منصب أسقف بيونس أيرس، وهي مسألة لا تزال مثار جدل، آخرها صدور كتاب في إيطاليا للوريس زاناتا "الكنيسة والدكتاتورية في أرجنتين برغوليو" يبرز أن الكنيسة كانت في قلب التاريخ الأرجنتيني، وقد باركت عسكريين ورعت ثوريين، ودعت للمسيحي الثوري وناجت الرب المناهض للثورات. ووفق ما يورده إريك فراتيني، اعتمادا على ما تفحّصه من تقارير استخباراتية، أن برغوليو لم يسلم من مظنّة التورط في الأحداث التي شهدها الأرجنتين خلال "الحرب القذرة" (1976-1983) بوصفه المسؤول الأول عن الكنيسة. فإدانة رجل الدين كريستيان فون فرنيخ، القسيس السابق في شرطة بيونس أيريس، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، تحشر برغوليو ضمن سلسلة المتواطئين. حيث أُدين فون فرنيخ بانتهاك حقوق الإنسان والتورط في تصفية معارضين والمشاركة في حالات تعذيب واعتقال. وعلى ما يورده فراتيني أن تورط الكنيسة الكاثوليكية في تلك الانتهاكات يمكن أن يضع البابا فرانسيس موضع تهمة وأن يؤثر على سلطته المعنوية والروحية. ولعل حالة فرانسيس في خضمّ الوضع الذي ألمّ بالأرجنتين يتلخص في قول أدولفو بيريز إسكويفال، الحاصل على جائزة نوبل للسلام سنة 1980، أن برغوليو قد خانته الشجاعة لمعاضدة الكفاح من أجل حقوق الإنسان، ولكنه ما كان متواطئا مع الدكتاتورية. يبدو هذا القسم مشحونا بالمعلومات "الاستخباراتية"، على ما يذكر فراتيني، لكنها في الحقيقة تظهر أحيانا من الأمور المتداولة في أوساط المهتمين بالشأن السياسي.
وفي القسم الثاني من الكتاب المخصص إلى جوزيف راتسينغر تحضر قضايا العالم الإسلامي بشكل بارز ضمن سياسة الفاتيكان، خصوصا عَقِب محاضرته الشهيرة في راتيسبونا (2006) وما خلّفته من قلاقل لِما تضمنته من اتهام صريح للإسلام بالعنف. وقد عبّر تقريرٌ صادرٌ عن السفارة الأمريكية في حاضرة الفاتيكان عن الاستغراب من انزلاق البابا المثقف إلى تلك المشاحنة وعدم تقديره عواقب ذلك، خالصا إلى أن البابا لم يكن أنيقا في كلامه، الأمر الذي يدفع الاستخبارات الأمريكية لأخذ التهديدات الموجهة إلى قداسة البابا على محمل الجد. ففي برقية صادرة من السفارة الأمريكية لدى حاضرة الفاتيكان في ديسمبر 2008 إلى وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس شرحٌ مفصّل للتعاون الوثيق مع حرس الفاتيكان بقصد تطوير السبل الأمنية الناجعة للمراقبة والحيطة.
من جانب آخر أَوْلى القسم المخصص لراتسينغر اهتماما لانشغال المخابرات الأمريكية بموضوع الحوار بين الأديان. وقد أُعدَّت في الغرض ثلاثة تقارير صدرت سنتي 2007 و 2009. يورد التقرير الأول أن البابا عَقب يومين من اعتلائه سدة بطرس أقدم على تنحية رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان الكردينال مايكل فيتجيرالد، بما يفصح أن البابا الجديد ما كان راضيا على أداء شخص "شديد" القرب من العالم الإسلامي، ليستبدله بالكردينال جون لويس توران المعروف بمواقفه المتشددة من الإسلام. مشيرا التقرير إلى أن الإسلام لا يزال ينضوي تحت المجلس البابوي للحوار بين الأديان، الذي يضم الهندوسية والبوذية والديانات الإحيائية، في حين تنضوي اليهودية تحت المجلس البابوي لتطوير الوحدة بين المسيحيين، والأمر فيه دلالة على موقع الإسلام في التصور المسيحي الغربي.
ودائما في نطاق الإحاطة بمفهوم الحوار، يورد فراتيني الآثار المترتبة عن زيارة العاهل الراحل الملك عبدالله للفاتيكان سنة 2007، رغم أن العربية السعودية لا تربطها علاقات دبلوماسية بالفاتيكان. أوضح التقرير تحمّس الملك للحوار وإن أعرب عن خصوصية المملكة وسط العالم الإسلامي، لكن الفاتيكان ألحّ من جانبه على ضرورة تيسير شؤون العبادة لمليون وستمائة ألف مسيحي يعيشون على أرض المملكة، ليتناول التقرير شعور البابا بالخيبة من نسق تقدّم الحرية الدينية ليس في السعودية فحسب بل في العالم الإسلامي. والملاحظ في عرض الباحث فراتيني لعديد القضايا إيثاره إيراد الوقائع كما رشحت من التقارير الاستخباراتية دون تدخل بالتعليق من جانبه أو إبداء موقف نقدي، ما يسقط الكاتب أحيانا في أسلوب سردي للأحداث، يجعل عمله شبيها بالحوليات.
كما يعبّر أحد التقريرين الصادرين سنة 2009 عن غلبة التوظيف السياسي لمقولة الحوار، فعلى إثر إرساء علاقات دبلوماسية بين الفاتيكان والجامعة العربية خلال العام 2000،لم تخلّف مذكرة التفاهم الموقّعة بين الجانبين أي مبادرة فعلية. من جانب آخر يُفصح التقرير عن التوظيف البراغماتي للحوار الإسلامي المسيحي، فعلى إثر حادثة راتيسبونا سعى البابا لامتصاص الغضب المتصاعد من العالم الإسلامي من خلال القيام بزيارة إلى تركيا، أوحى عبرها أنه لا يعارض انضمام تركيا إلى المجموعة الأوروبية، لكنه يحضّ الطرف المعني على مزيد ترسيخ قيم الحرية الدينية واحترام حقوق الإنسان، ويعلق إريك فراتيني قائلا إن المصالح الاستراتيجية للفاتيكان وتركيا وأمريكا حاضرة بقوة، فالكل يناور سياسيا حتى حاضرة الفاتيكان.
ودائما في نطاق ما يتعلق بالحوار، يقول فراتيني بشأن الزيارة التي كان البابا المستقيل يزمع القيام بها إلى الأردن وفلسطين، في مايو 2009، أن الجانب الأردني هدف بالأساس إلى تحريك النشاط السياحي، لا سيما وأن الأمير غازي قد استثمر في المجال السياحي في أطراف الموضع الذي شهد تعميد السيد المسيح؛ في حين كان الإسرائيليون بوساطة سفيرهم لدى الكرسي الرسولي يلحّون على أن يُشِيد راتسينغر علنًا بالحرية الدينية التي ينعم بها المسيحيون في إسرائيل وبما ليس لها مثيل في الشرق الأوسط.
من جانب آخر يتعرض فراتيني في القسم نفسه إلى مسألة هامة لدى الجانب الأمريكي بشأن تصريح البابا أثناء التحضير لانعقاد مؤتمر أساقفة إفريقيا في 2011 حول مشكلة مرض فقدان المناعة المكتسبة، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة، معتبرا أن مرض فقدان المناعة في إفريقيا لا يمكن تخطيه باللافتات الدعائية وبتوزيع العازل الوقائي، فذلك مما قد يفاقم الأزمة. وفي الواقع تتلخص مقاربة راتسينغر لمسألة انتشار مرض فقدان المناعة في إفريقيا في الإحجام عن الممارسة الجنسية والامتناع عن الاختلاط والوفاء داخل الأسرة، وهي الرؤية العامة للاهوت الكاثوليكي بشأن التصدي لهذا المرض. وفي التحاليل التي دبجها محللو وكالة الاستخبارات الأمريكية، ضمن التقرير نفسه، قدروا مدى خطورة تصريحات البابا في حثّه أساقفة إفريقيا على "عدم الاستسلام لقوانين السوق والسياسة المالية العالمية" واعتبروا ذلك مناهضا للهيمنة الاقتصادية الأمريكية، ما يضع البابا على نقيض خيارات الليبرالية الاقتصادية التي تسعى أمريكا جاهدة إلى ترويجها في أرجاء العالم، وربط محللو الاستخبارات ذلك بالتغيرات الحاصلة داخل الكنيسة الكاثوليكية التي تشهد تراجعا ملحوظا في أوروبا وتطورا بارزا في إفريقيا.
كما لا تغيب المسائل الأمنية عن هذا القسم من الكتاب، ففي تقرير مفصّل بعنوان "الفاتيكان يؤيد الرأي القائل بأن إيران لا تتعاون مع الوكالة الذرية" صادر عن السفارة الأمريكية بحاضرة الفاتيكان في شهر أكتوبر من العام 2010، تضمّن مواقف باولو كونفيرسي الأستاذ في الجامعة الغريغورية وأحد مستشاري البابا في المجال العلمي وإبراز دعم الفاتيكان اللامشروط للسياسة الأمريكية في ما تنتهجه من ضغوطات على طهران.
أما في القسم الثالث والأخير المخصص للبابا يوحنا بولس الثاني، فيستعرض الباحث فراتيني من خلاله تقريرا صادرا عن السفارة الأمريكية في الثالث عشر من سبتمبر 2002، يبرز فيه السعي الجاد للولايات المتحدة لكسبِ البابا إلى صفها أثناء التحضير لإسقاط صدام، بعد أن أعلن ووجتيلا معارضته للحرب واشترط في حال اللجوء إليها أن تكون تحت غطاء دولي. حيث يبيّن التقرير الاختلافات الجوهرية في مفهوم الحرب العادلة بين الفاتيكان والولايات المتحدة. ويستعرض فراتيني اعتمادا على جملة من البرقيات والوثائق المساعي الحثيثة للسفير الأمريكي جيمس نيكلسون لدى الكرسي الرسولي لإقناع المسؤولين في الفاتيكان بضرورة التعجيل بهجوم على العراق. حيث يورد فراتيني في إحدى فقرات كتابه ردّ المونسنيور فرانكو كوبولا، القاصد الرسولي إلى منطقة الشرق الأوسط، قبل شهر من اندلاع الحرب في العشرين من مارس 2003، عن سؤال طرحه الطرف الأمريكي مستفسرا عن الوضع العام في العراق النفسي والاجتماعي على إثر عودة المبعوث من زيارة قابل فيها صدام، قائلا: "هم متقبّلون للحرب وهو قدريون على عادة العرب".
في جانب آخر من هذا القسم من الكتاب يتعرض فراتيني إلى ما شهدته العلاقات بين إسرائيل والفاتيكان من تحوّل عميق إبان ووجتيلا. فبعد أن أعلن البابا سنة 1986 في خطابه في بيعة روما أن اليهود هم إخوتنا الكبار، وأن الكنيسة تستمدّ جذورها من تلك الزّيتونة المباركة التي طعّمت أغصان الزّيتون البرّي للأغيار؛ بعد خمس سنوات وتحديدا مع انعقاد مؤتمر السلام في مدريد، تلقى البابا صفعة قوية من إسرائيل برفض حكومة إسحاق شامير مشاركة الفاتيكان في المؤتمر بدعوى أنها لا تربطها علاقات دبلوماسية بالطرفين المتنازعين. والملاحظ عموما في الكتاب غياب التوازن بين الأقسام الثلاثة التي وزعت حسب الباباوات، هذا إضافة إلى أن مضامين بعض المعنونات تأتي سطحية، لكن ذلك لا يخفي صرامة منهج الكاتب في التعاطي مع الأحداث من خلال الوثيقة المخابراتية التي تبقى منيعة على كثير من الدارسين والباحثين.
الكتاب: "السي آي ايه في حاضرة الفاتيكان".
المؤلف: إريك فراتيني.
الناشر: سبيرلينغ و كوبفر (برشلونة-ميلانو) ‘باللغة الإيطالية'.
سنة النشر: 2017.
عدد الصفحات: 570ص.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.