نبيل عمار يؤكد الحرص على مزيد الارتقاء بالتعاون بين تونس والكامرون    أبطال إفريقيا: موعد مواجهتي الترجي الرياضي والأهلي المصري في النهائي القاري    الكاف..جرحى في حادث مرور..    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف لطيران الاحتلال لمناطق وسط وجنوب غزة..#خبر_عاجل    حالة الطقس لهذه الليلة..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    طبيبة تونسية تفوز بجائزة أفضل بحث علمي في مسابقة أكاديمية الشّرق الأوسط للأطبّاء الشّبان    بعد دعوته الى تحويل جربة لهونغ كونغ.. مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد    التعادل يحسم مواجهة المنتخب الوطني ونظيره الليبي    عاجل/ ايقاف مباراة الترجي وصانداونز    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    تكوين 1780 إطارا تربويا في الطفولة في مجال الإسعافات الأولية منذ بداية العام الجاري    بنزرت: ضبط كافة الاستعدادات لإنطلاق اشغال إنجاز الجزء الثاني لجسر بنزرت الجديد مع بداية الصائفة    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    الرئيس المدير العام لمركز النهوض بالصادرات: واقع المبادلات التجارية بين تونس وكندا لا يزال ضعيفا وجاري العمل على تسهيل النفاذ إلى هذه السوق    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    سيدي بوزيد: ورشة تكوينية لفائدة المكلفين بالطاقة في عدد من الإدارات والمنشآت العمومية    منظمات وجمعيات: مضمون الكتيب الذي وقع سحبه من معرض تونس الدولي للكتاب ازدراء لقانون البلاد وضرب لقيم المجتمع    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    وقفة احتجاجية لعدد من أصحاب "تاكسي موتور" للمطالبة بوضع قانون ينظم المهنة ويساعد على القيام بمهامهم دون التعرض الى خطايا مالية    القضاء التركي يصدر حكمه في حق منفّذة تفجير اسطنبول عام 2022    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    منوبة: الاحتفاظ بصاحب مستودع عشوائي من أجل الاحتكار والمضاربة    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    وزارة التجارة تقرّر التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    رقم قياسي جديد ينتظر الترجي في صورة الفوز على صن داونز    معتز العزايزة ضمن قائمة '' 100 شخصية الأكثر تأثيراً لعام 2024''    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    "تيك توك" تفضل الإغلاق في أميركا إذا فشلت الخيارات القانونية    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما تَبقى من أسناني
نشر في أوتار يوم 29 - 11 - 2017

في أورشِليم دار طبق الحلوى من زقاقِ إلى زقاق , ومن شارعِ إلى شارع , ومن ناصيةِ إلى ناصية حتى استِقر كعادته في أحضانِ شجرةِ التين , ودَفنت أنا و أصدقائي أبصارنا فيه حتى لامست اللِذة أعماقنا , وصِرنا أشد التصاقاً من البارحة , ومن أول البارحة , ومن اليوم الذي سَبق كل بارحة قضيناها في جوارِ طبق الحلوى الطائر .
لو تَعلمون كيف كان سُكَره يَنغمس في الروح ! فقط عند رؤيته يستوي جالساً كجني مُزَركِش الألوان مُحَبب إلى العين رؤيته , كانت حلواه تُمسِك بتلابيب دواخلنا من دون أن نأكله ! آه لو تَعلمون كِم مرة أقسمتُ لأمي , ولأم حِنا , ولأم ابراهام أن الطبق يدور ولم تصدقنا أمهاتنا !
قالت أمي : مجنون ورِب الكعبة , ورِكضت خالتي مريم خلف حِنا بهراوة بلاستيكية , واكتِفت أم ابراهام بقرص أذنيه في عَتبِ ولَوم .
مساء الخميس كان القمر يتراقص فوق بيوتنا , وبين رَقصة والأخرى كان يقذف نوافذنا بخيوطِ ضوء فضية , هرعت إلى نافذة غرفتي ووجدت بصمات أصابع القمر على الزجاج , تلك اللعبة التي نتبادلها مع القمر كانت عادتنا , وال "نا " هنا تعود عليّ بصحبةِ حَنا وابراهام , تعاهد ثلاثتنا على خَربشة الزجاج بأظافرنا كلما صَفر مصباح قمرنا الساهِر مُعلناً بدء الشوط الأول من لعبة الغميضة مع الأعلى , كُنا نظن أن أظافر الصغار الشَقية التى تخربش الزجاج , حَتماً سَتُقَشره , وستقبض راحات أيدينا على النورِ , وسنصافح قمرنا هكذا يداَ بيَد , وإصبعاً بإصبَع , فهل كُنا ثلاثة مجانين ؟!
كان هذا وَصفاً أزلياً مُراً كُلما مشينا التصق بنا .
في صباح الجمعة , دَقت أمي عظامي بالعصا عندما شَهقت كما المجاذيب , وتَلَعثم لساني , وقلت لها وأنا لا أمِل من تكرار ما ألفظه في لَهفة مجنونة : طبق .. طبق حلوى .. يَطير .. يَطير !
لكزتني في ذراعي النَحيل , وصرخت في وجهي بعباراتِ كثيرة وغير مُنَظمة , لم تحتفظ أذناي سوى بتلك الكلمات العابرة : مجنون .. أخبَل .. أسوأ وَلد في العالم !
عندما نَعتتني أمي بأسوأ وَلد في العالم , لم أكن أعرف هل كان عليّ أن أغضب أم أن أذرف الدمعات ماسحاً وجهي المُبَلل بعباءتها كي تضعف أو تصدقني عندها وقبل أن أعود اليها وأُمَرِن لساني على تأدية القَسَم , نَما إلى أذني عويل حَنا , لم يمتص سمعي شيئاً , ولكن كل ما دخل حواسي كان بُكاءاً هستيرياً آخره عبارة " لن أخرج " والتي كُرِرَت عدة مرات في انفعالِ طفولي غاضب .
في ظهيرة الجمعة , هرولت إلى نافذة غرفتي , وأخذت أترقب العالم من خلف الزجاج , حينها كانت الشمس تَغمز بعينيها البُرتقالية , تضحك , وتضحك حتى كادت حماسة مزاجها الحار أن تشعل كل شىء , أو هكذا بدا ليّ ؛ لأنني كنت أسير غضبي , وجدتي تقول أن الولد الغاضب تَلسعه حرارة أفعاله .
رَميت ببصري إلى حيث بيت حنا , ووجدته قابعاً مُنكسراً أمام نافذته تماماً مثلي , ينظر إليّ بعينين حمراوين ليستا رائقتين كدرتهما دموع الصباح , لم نَنبس ببنت شفه لكن عيوننا تجاذبت أطراف الحديث , عندما أخذت تروح وتجىء بإتجاه بيت ابراهام المُلتصق ببيوتنا , حدقنا في نافذته في آن , ولم نَجده , فصديقنا مُعاقَب من الأمس , ولن نره اليوم , وغداً "سبت النور" , وسينشغل في طقوسه الدينية مع أسرتة , وبعدها سيعاقب تماماً كما قالت له أمه , وربما تصرخ أمه في وجهه كما أم حنا , وربما تَلكزه في كوعه , وتنعته بالأخبل كما فعلت أمي , ربما !
في ليلة الخميس , بينما كنت أُمَرر كعادتي كل ليلة الرمال البيضاء من بين أصابع قدمي , وعندما كان حنا يضع ليّ خُنفِسة سوداء في حِفنة الرمال التي أنوى تمريرها , وها أنا أراه من طرفِ عيني وهو يضعها , وأرسم ابتسامتي الصفراء , وكأني لا أعلم , ويَلمحني ابراهام فيخطفها من حنا دون أن يَشعر ليضعها في حِفنة الرمال خاصته , وهكذا نلعب ونضحك من الأعماق , حتى أن معدتنا تؤلمنا كل ليلة من شدة الضحك ,ونَجلب لتونا ضجة طفولية في الشارع , وتصل أصوات ضحكاتنا إلى تلك المرحلة التي تبدو فيها الضحكات كبَحة كلاب مولودة ومذعورة .
قبيل أن تسقط عباءة الليل على رؤوسنا , لَمحنا طبق يدور , لم نصدق أعيننا , ودعكنا جفوننا بأيدينا في عجلة و انفعال ثم جددنا الفعل وإذا بالنتيجة واحدة , كان الطبق يَدور من زقاقِ إلى زقاق , ومن شارعِ إلى شارع , أخذ يَهبط ويرتفع في مهارةِ رواد الفضاء , كان بمثابة حلم أو أسطورة إلا انه في نهاية الطيران استقر في قلب شجرة التين القديمة .
اهتزت أكتافنا , وارتجفنا , ولم يكن الجو بارداً , اقترب ابراهام من شجرة التين , وحاول هزها حتى يسقط طبق الحلوى , إلا انه لم يسقط , واقتربت أنا وحنا وجَبنا عن تكرار نفس الشىء , واتفق ثلاثتنا على العودة إلى الديار , وإخبار أهالينا بأمرِ الطبق الطائر , وأنتم تعلمون الباقي ..
بعد انقضاء سَبت النور , ركضت إلى حيث بيت ابراهام , وناديته سِراً , فأتاني وهو يَرتعد أن تلمحه أمه لأنه لا يزال مُعاقباً , سألته إذا كان سيأتي معي إلى شجرة التين القديمة حيث طبق الحلوى الطائر , فأجابتني دقات قلبه بالرغبة واللهفة , وأجابني بريق عينيه بالحماسة إلا انه بعد مضي عشرة دقائق , كانت خالتي أم ابراهام أمامنا , وطلبت مني العودة إلى أمي , وقرصت ابراهام في أذنيه ثانيةَ , احمر وجهه وبكى ثم صفقت الباب خلفها .
أخذتني خطواتي إلى حيث طبق الحلوى , وهناك وجدت حنا واقفاً ذاهلاً أمام شجرة التين ؛ مُحرِكاً يديه كمَن هو تحت تأثير التنويم المغناطيسي , وأخذ يتأرجح ذات اليمين , وذات الشمال , كان يدفن مُقلتيه في الطبق , وأخذ الطبق يدور أسفل الشجرة وفوقها , على الأغصان وفوق الثمار , هناك على الأرصفة , وفوق خيوط السماء الرمادية التي كشطتها أقدام الملائكة , كان يتأرجح بخفة قوة خارقة , وكانت أبداننا وأرواحنا تتأرجح معه في انسيابية مُحَببة إلينا .
قفزت إلى ذهنينا فكرة مُوَحدة , والتي قلناها لبعضنا بالأعين , وكان مفادها أن يحمل أحدنا الآخر , ليحصل هذا الآخر على طبق الحلوى المُسَتقِر في قلب الشجرة , ونقبض عليه بين أيدينا , وحينها سنثبت لأورشَليم وأهلها بأنا لسنا مجانين , وسأثبت أنا شخصياً لأمي بأنني لست أسوأ ولد في العالم .
حملني حنا , وصعدت فوق كتفيه وشعرت بأنه ثمة إبَر وأشواك أسفل قدميّ , وحينها طلبت منه أن يُكثِر من تناول الطعام , وتأفف هو حينها وصرخ من الأسفل قائلاً : لا وقت للنكات .
رفعت رأسي إلى أعلى , ورأيت الطبق الطائر , وحينما حاولت الإمساك به , صرخ حنا , نظرت إليه , فوجدته يتهاوى على الأرض , فهويت أرضاً أنا الآخر , والتَف حولنا الجيران لأن صرخاتنا كانت مدوية تُجَلجل في أرجاء الشارع , حملنا الناس إلى بيوتنا , وعوقب حنا بعدم الخروج أبداً , وعوقبت أنا بالخِصام و الصراخ في وجهي , عندها انتشرت الأقاويل في البلدة والتي قالت أن ابراهام و حنا كاذبان يَدعون أشياءاً لم يروها , لذا عاقبهم الله بأن كُسِرَت قَدم حَنا , وأن أحرقت احدى شمعات السَبت يَد ابراهام اليُمنى , وكنت أنا في منأى عن هذة الأقاويل والتُهَم لسببِ واحد وهو أنني لم أتأذى بشكلِ مَلموس كصديقي المُقَربين .
شعرت وكأن خنجر في قلبي , وبأن روحي مريضة , لاحظت أمي نحولي وشحوبي وعزوفي عن الطعام , وكلما نطقت حرفاً عن حَنا , وابراهام أو عن شجرة التين القديمة و طبقها الطائر , عنفتني أمي ونعتتني بالمخبول , وحذرتني من أن يقول الناس عنيّ كما يقولون عن صديقيّ , بل أخافتني من أن يغضب الله عليّ , وتنكسر ساقيّ أو يُقطَع لساني الذي يَتفوه بالكذباتِ الكبيرة .
ذات نهار, أفقت على أصوات كثيرة لأهل البلدة , يشتمون صديقيّ ويصفونهم بالكاذبين , أحسست ناراً بداخليّ , وفوراً قررت أن أفعل الآتي , للمرة الثانية أخذتني خطواتي إلى شجرة التين , حاولت أن أتسلقها وحديّ , سقطت عشرات المرات , وجُرِحَت ساقي اليُمنى , وأهدتني الأرض خدشاً في ذراعي أخذ يُقَطِر دماً , إلا انني لم أيأس , تسلقت شجرة التين , واقتربت كثيراً من طبق الحلوى , قبضت عليه , وأمسكته بين أصابعي , ونظرت إليه , فوجدت حَلواه عجيبة مُدهشة تبدو كأزرار ذهبية وجواهر ولآلىء إلا إنها حلوى ! , وعندما حاولت أخذ الطبق معي إلى المنزل , تختفى الحلوى كلها مرةَ واحدة !
ويستحيل الطبق بقدرةِ قادر طبقاً خاوياً , وكلما وضعته في قلب الشجرة , عادت إليه حلواه كما كانت بكامل غرائبيتها , أما إذا حاولت اصطحابه برفقتي اختفت الحلوى و كأنها لم تَكُن !
استمر الحال هكذا ساعات طويلة , لم أكن أعرف ماذا أفعل ؟ في تلك الحالة لن يُصدقني الناس , ولن أنجح في اثبات براءة رفيقيّ
شعرت بضيق في صدري , وحيرة في عقلي , تألمت وبَكيت , وأصبح لنَحيبي صوت كصوت أمي عند ولادتها لأخي الأصغر , وصلت لأقصى درجات اليأس , وعندما رفعت رأسي إلى الطبق , وجدت فيه ورقةَ صغيرة , بها رسالة تقول :
قبل أن تأكلني .. اعطيني أسنانك !
فتحت عيني في دهشة بالغة , لم أفهم ماذا تعني تلك الرسالة ؟
وكيف يعطي أحدهم أسنانه لطبق حتى وإن كان طبق طائر ؟!
بعد أن قرأت الرسالة , وطبقتها , ظهرت الحلوى وظهر معها ورقة صغيرة تقول :
عندما تأكلني .. تسقط أسنانك , وعندما تسقط أسنانك .. تراني !
فوراً سارعت إلى قضم أول قطعة من الحلوى , وعندها سقطت سنتي الأولى في الطبق من تلقاء نفسها , شعرت بالهلع والدهشة , لم أشعر بأي ألم , لكنها سَقطت ولا أعلم متى ستعود ؟
عندئذ فهمت اللعبة , تلك الشبيهة بغُميضة القمر إلا انها لعبة جدية , فإذا أردت أن تظهر ليّ الحلوى , ينبغي أن أخسر عدداً من أسناني , لأنه بعدد الأسنان المُتساقطة , ستكون عدد الحلوى الظاهرة في الطبق , والتي لن تصبح مخفية لأى أحد , وحينها فقط سأستطيع حمل الطبق الطائر المملوء بالحلوى العجائبية , والعودة به إلى أورشَليم كي يراه الناس وليتبرأ صديقيّ الحميمين
وبدأت اللعبة بسِنَة واحدة , وانتهت بالكثير والكثير من أسناني ,وعدت إلى شارعنا وأنا أقبض على طبق الحلوى الطائر , والتف حولي الناس ليشهدوا على براءة ابراهام و حنا ولأُتَرجم حُبي لهما بما تَبقى من أسناني .
في أورشِليم دار طبق الحلوى من زقاقِ إلى زقاق , ومن شارعِ إلى شارع , ومن ناصيةِ إلى ناصية حتى استِقر كعادته في أحضانِ شجرةِ التين , ودَفنت أنا و أصدقائي أبصارنا فيه حتى لامست اللِذة أعماقنا , وصِرنا أشد التصاقاً من البارحة , ومن أول البارحة , ومن اليوم الذي سَبق كل بارحة قضيناها في جوارِ طبق الحلوى الطائر .
لو تَعلمون كيف كان سُكَره يَنغمس في الروح ! فقط عند رؤيته يستوي جالساً كجني مُزَركِش الألوان مُحَبب إلى العين رؤيته , كانت حلواه تُمسِك بتلابيب دواخلنا من دون أن نأكله ! آه لو تَعلمون كِم مرة أقسمتُ لأمي , ولأم حِنا , ولأم ابراهام أن الطبق يدور ولم تصدقنا أمهاتنا !
قالت أمي : مجنون ورِب الكعبة , ورِكضت خالتي مريم خلف حِنا بهراوة بلاستيكية , واكتِفت أم ابراهام بقرص أذنيه في عَتبِ ولَوم .
مساء الخميس كان القمر يتراقص فوق بيوتنا , وبين رَقصة والأخرى كان يقذف نوافذنا بخيوطِ ضوء فضية , هرعت إلى نافذة غرفتي ووجدت بصمات أصابع القمر على الزجاج , تلك اللعبة التي نتبادلها مع القمر كانت عادتنا , وال "نا " هنا تعود عليّ بصحبةِ حَنا وابراهام , تعاهد ثلاثتنا على خَربشة الزجاج بأظافرنا كلما صَفر مصباح قمرنا الساهِر مُعلناً بدء الشوط الأول من لعبة الغميضة مع الأعلى , كُنا نظن أن أظافر الصغار الشَقية التى تخربش الزجاج , حَتماً سَتُقَشره , وستقبض راحات أيدينا على النورِ , وسنصافح قمرنا هكذا يداَ بيَد , وإصبعاً بإصبَع , فهل كُنا ثلاثة مجانين ؟!
كان هذا وَصفاً أزلياً مُراً كُلما مشينا التصق بنا .
في صباح الجمعة , دَقت أمي عظامي بالعصا عندما شَهقت كما المجاذيب , وتَلَعثم لساني , وقلت لها وأنا لا أمِل من تكرار ما ألفظه في لَهفة مجنونة : طبق .. طبق حلوى .. يَطير .. يَطير !
لكزتني في ذراعي النَحيل , وصرخت في وجهي بعباراتِ كثيرة وغير مُنَظمة , لم تحتفظ أذناي سوى بتلك الكلمات العابرة : مجنون .. أخبَل .. أسوأ وَلد في العالم !
عندما نَعتتني أمي بأسوأ وَلد في العالم , لم أكن أعرف هل كان عليّ أن أغضب أم أن أذرف الدمعات ماسحاً وجهي المُبَلل بعباءتها كي تضعف أو تصدقني عندها وقبل أن أعود اليها وأُمَرِن لساني على تأدية القَسَم , نَما إلى أذني عويل حَنا , لم يمتص سمعي شيئاً , ولكن كل ما دخل حواسي كان بُكاءاً هستيرياً آخره عبارة " لن أخرج " والتي كُرِرَت عدة مرات في انفعالِ طفولي غاضب .
في ظهيرة الجمعة , هرولت إلى نافذة غرفتي , وأخذت أترقب العالم من خلف الزجاج , حينها كانت الشمس تَغمز بعينيها البُرتقالية , تضحك , وتضحك حتى كادت حماسة مزاجها الحار أن تشعل كل شىء , أو هكذا بدا ليّ ؛ لأنني كنت أسير غضبي , وجدتي تقول أن الولد الغاضب تَلسعه حرارة أفعاله .
رَميت ببصري إلى حيث بيت حنا , ووجدته قابعاً مُنكسراً أمام نافذته تماماً مثلي , ينظر إليّ بعينين حمراوين ليستا رائقتين كدرتهما دموع الصباح , لم نَنبس ببنت شفه لكن عيوننا تجاذبت أطراف الحديث , عندما أخذت تروح وتجىء بإتجاه بيت ابراهام المُلتصق ببيوتنا , حدقنا في نافذته في آن , ولم نَجده , فصديقنا مُعاقَب من الأمس , ولن نره اليوم , وغداً "سبت النور" , وسينشغل في طقوسه الدينية مع أسرتة , وبعدها سيعاقب تماماً كما قالت له أمه , وربما تصرخ أمه في وجهه كما أم حنا , وربما تَلكزه في كوعه , وتنعته بالأخبل كما فعلت أمي , ربما !
في ليلة الخميس , بينما كنت أُمَرر كعادتي كل ليلة الرمال البيضاء من بين أصابع قدمي , وعندما كان حنا يضع ليّ خُنفِسة سوداء في حِفنة الرمال التي أنوى تمريرها , وها أنا أراه من طرفِ عيني وهو يضعها , وأرسم ابتسامتي الصفراء , وكأني لا أعلم , ويَلمحني ابراهام فيخطفها من حنا دون أن يَشعر ليضعها في حِفنة الرمال خاصته , وهكذا نلعب ونضحك من الأعماق , حتى أن معدتنا تؤلمنا كل ليلة من شدة الضحك ,ونَجلب لتونا ضجة طفولية في الشارع , وتصل أصوات ضحكاتنا إلى تلك المرحلة التي تبدو فيها الضحكات كبَحة كلاب مولودة ومذعورة .
قبيل أن تسقط عباءة الليل على رؤوسنا , لَمحنا طبق يدور , لم نصدق أعيننا , ودعكنا جفوننا بأيدينا في عجلة و انفعال ثم جددنا الفعل وإذا بالنتيجة واحدة , كان الطبق يَدور من زقاقِ إلى زقاق , ومن شارعِ إلى شارع , أخذ يَهبط ويرتفع في مهارةِ رواد الفضاء , كان بمثابة حلم أو أسطورة إلا انه في نهاية الطيران استقر في قلب شجرة التين القديمة .
اهتزت أكتافنا , وارتجفنا , ولم يكن الجو بارداً , اقترب ابراهام من شجرة التين , وحاول هزها حتى يسقط طبق الحلوى , إلا انه لم يسقط , واقتربت أنا وحنا وجَبنا عن تكرار نفس الشىء , واتفق ثلاثتنا على العودة إلى الديار , وإخبار أهالينا بأمرِ الطبق الطائر , وأنتم تعلمون الباقي ..
بعد انقضاء سَبت النور , ركضت إلى حيث بيت ابراهام , وناديته سِراً , فأتاني وهو يَرتعد أن تلمحه أمه لأنه لا يزال مُعاقباً , سألته إذا كان سيأتي معي إلى شجرة التين القديمة حيث طبق الحلوى الطائر , فأجابتني دقات قلبه بالرغبة واللهفة , وأجابني بريق عينيه بالحماسة إلا انه بعد مضي عشرة دقائق , كانت خالتي أم ابراهام أمامنا , وطلبت مني العودة إلى أمي , وقرصت ابراهام في أذنيه ثانيةَ , احمر وجهه وبكى ثم صفقت الباب خلفها .
أخذتني خطواتي إلى حيث طبق الحلوى , وهناك وجدت حنا واقفاً ذاهلاً أمام شجرة التين ؛ مُحرِكاً يديه كمَن هو تحت تأثير التنويم المغناطيسي , وأخذ يتأرجح ذات اليمين , وذات الشمال , كان يدفن مُقلتيه في الطبق , وأخذ الطبق يدور أسفل الشجرة وفوقها , على الأغصان وفوق الثمار , هناك على الأرصفة , وفوق خيوط السماء الرمادية التي كشطتها أقدام الملائكة , كان يتأرجح بخفة قوة خارقة , وكانت أبداننا وأرواحنا تتأرجح معه في انسيابية مُحَببة إلينا .
قفزت إلى ذهنينا فكرة مُوَحدة , والتي قلناها لبعضنا بالأعين , وكان مفادها أن يحمل أحدنا الآخر , ليحصل هذا الآخر على طبق الحلوى المُسَتقِر في قلب الشجرة , ونقبض عليه بين أيدينا , وحينها سنثبت لأورشَليم وأهلها بأنا لسنا مجانين , وسأثبت أنا شخصياً لأمي بأنني لست أسوأ ولد في العالم .
حملني حنا , وصعدت فوق كتفيه وشعرت بأنه ثمة إبَر وأشواك أسفل قدميّ , وحينها طلبت منه أن يُكثِر من تناول الطعام , وتأفف هو حينها وصرخ من الأسفل قائلاً : لا وقت للنكات .
رفعت رأسي إلى أعلى , ورأيت الطبق الطائر , وحينما حاولت الإمساك به , صرخ حنا , نظرت إليه , فوجدته يتهاوى على الأرض , فهويت أرضاً أنا الآخر , والتَف حولنا الجيران لأن صرخاتنا كانت مدوية تُجَلجل في أرجاء الشارع , حملنا الناس إلى بيوتنا , وعوقب حنا بعدم الخروج أبداً , وعوقبت أنا بالخِصام و الصراخ في وجهي , عندها انتشرت الأقاويل في البلدة والتي قالت أن ابراهام و حنا كاذبان يَدعون أشياءاً لم يروها , لذا عاقبهم الله بأن كُسِرَت قَدم حَنا , وأن أحرقت احدى شمعات السَبت يَد ابراهام اليُمنى , وكنت أنا في منأى عن هذة الأقاويل والتُهَم لسببِ واحد وهو أنني لم أتأذى بشكلِ مَلموس كصديقي المُقَربين .
شعرت وكأن خنجر في قلبي , وبأن روحي مريضة , لاحظت أمي نحولي وشحوبي وعزوفي عن الطعام , وكلما نطقت حرفاً عن حَنا , وابراهام أو عن شجرة التين القديمة و طبقها الطائر , عنفتني أمي ونعتتني بالمخبول , وحذرتني من أن يقول الناس عنيّ كما يقولون عن صديقيّ , بل أخافتني من أن يغضب الله عليّ , وتنكسر ساقيّ أو يُقطَع لساني الذي يَتفوه بالكذباتِ الكبيرة .
ذات نهار, أفقت على أصوات كثيرة لأهل البلدة , يشتمون صديقيّ ويصفونهم بالكاذبين , أحسست ناراً بداخليّ , وفوراً قررت أن أفعل الآتي , للمرة الثانية أخذتني خطواتي إلى شجرة التين , حاولت أن أتسلقها وحديّ , سقطت عشرات المرات , وجُرِحَت ساقي اليُمنى , وأهدتني الأرض خدشاً في ذراعي أخذ يُقَطِر دماً , إلا انني لم أيأس , تسلقت شجرة التين , واقتربت كثيراً من طبق الحلوى , قبضت عليه , وأمسكته بين أصابعي , ونظرت إليه , فوجدت حَلواه عجيبة مُدهشة تبدو كأزرار ذهبية وجواهر ولآلىء إلا إنها حلوى ! , وعندما حاولت أخذ الطبق معي إلى المنزل , تختفى الحلوى كلها مرةَ واحدة !
ويستحيل الطبق بقدرةِ قادر طبقاً خاوياً , وكلما وضعته في قلب الشجرة , عادت إليه حلواه كما كانت بكامل غرائبيتها , أما إذا حاولت اصطحابه برفقتي اختفت الحلوى و كأنها لم تَكُن !
استمر الحال هكذا ساعات طويلة , لم أكن أعرف ماذا أفعل ؟ في تلك الحالة لن يُصدقني الناس , ولن أنجح في اثبات براءة رفيقيّ
شعرت بضيق في صدري , وحيرة في عقلي , تألمت وبَكيت , وأصبح لنَحيبي صوت كصوت أمي عند ولادتها لأخي الأصغر , وصلت لأقصى درجات اليأس , وعندما رفعت رأسي إلى الطبق , وجدت فيه ورقةَ صغيرة , بها رسالة تقول :
قبل أن تأكلني .. اعطيني أسنانك !
فتحت عيني في دهشة بالغة , لم أفهم ماذا تعني تلك الرسالة ؟
وكيف يعطي أحدهم أسنانه لطبق حتى وإن كان طبق طائر ؟!
بعد أن قرأت الرسالة , وطبقتها , ظهرت الحلوى وظهر معها ورقة صغيرة تقول :
عندما تأكلني .. تسقط أسنانك , وعندما تسقط أسنانك .. تراني !
فوراً سارعت إلى قضم أول قطعة من الحلوى , وعندها سقطت سنتي الأولى في الطبق من تلقاء نفسها , شعرت بالهلع والدهشة , لم أشعر بأي ألم , لكنها سَقطت ولا أعلم متى ستعود ؟
عندئذ فهمت اللعبة , تلك الشبيهة بغُميضة القمر إلا انها لعبة جدية , فإذا أردت أن تظهر ليّ الحلوى , ينبغي أن أخسر عدداً من أسناني , لأنه بعدد الأسنان المُتساقطة , ستكون عدد الحلوى الظاهرة في الطبق , والتي لن تصبح مخفية لأى أحد , وحينها فقط سأستطيع حمل الطبق الطائر المملوء بالحلوى العجائبية , والعودة به إلى أورشَليم كي يراه الناس وليتبرأ صديقيّ الحميمين
وبدأت اللعبة بسِنَة واحدة , وانتهت بالكثير والكثير من أسناني ,وعدت إلى شارعنا وأنا أقبض على طبق الحلوى الطائر , والتف حولي الناس ليشهدوا على براءة ابراهام و حنا ولأُتَرجم حُبي لهما بما تَبقى من أسناني .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.