ها أنا أتهيأ كي أكتب الآن سفر الصباح البعيد بلا قهوة مُرّة فالفناجين في مطبخ الروح ملأى دما والعناقيد تقطر فوق البياض بقايا صديد من جناح الحمامة أختار ريشة حبري أغرزها في وريدي أين ضاع دمي؟! قلت: أغرزها في فمي! أين ريقي مرارته ولزوجته؟ كان ممتلئا برماد حريق حديد فأعدت الى الطير ريشته وارتجلت نشيدي... 1 غزة الآن، عنوانه ومطلعه دمها يشرق الآن في أفق من حديد قد انكسر النور في لحظة عبرتها الصقور الى وجبة من عيون جميلة وأصابع كف نحيله وثدي ينزّ دما وحليبا على شفة من بنفسج العمارات تهوي على ركب وتكبّر في غضب والدخان يعرج صوب السماء بأرواح سكانها... كان أطفالها يفتحون العيون على مخلب ويليه ركام والقذائف كانت تهدهد هذا السرير الأخير ليغفوا الصغار على وقعها ويطول المنام... 2 تلهث الكلمات وترتعش وتهر على الصفحات حروفا مكسرة وغبار صور : صور لبرارٍ مقطّعة بجنازيز دبابة إثر دبابة بمدافع قنصٍ تفتش بين المدارس أو غرف النوم عن صبية يطلقون الصواريخ منها... صور لشواطئ غزة، والبحر أمواجه شلها الذعر من بارجات يلاحقنها بشباك اللهب... صور الشوارع لندن، كاراكاس، طوكيو... وما لم أسمّ من أنين القصب أو طبول الغضب صور للعرب يشيحون عن جرحها وهمو بين مستعجل ذبحها ومرتجئ يتفرج! 3 غيم تكدّس والسماء كقبة بيضاء مُرْبَدَّه قطط تموء ونسوة يعبرن قرب توتّري شُهبا معطرة يحركن الرماد بداخلي والروح مسوده... وسماء غزة فرن غاز هائل أخذ المدينة كلها وتصاعدت في الكون رائحة الشواء وسال من كل النيوب لعابها وتسابق المتحمسون الى مزاد شرائها او بيعها... مطر هنا وانا وراء زجاج مقهاي الصغير ويدي على كتفي تونس أستجير بدفئها... مطر هنا وأنا أحاول أن أعيد الى رموشك كحلها... مطر وتغتسل الشوارع من دموع مدينة بكت المدينة أختها... 4 قمرٌ واقف في سماء المدينة يرشح فضته الذائبة أمامي في الكأس ماء وخلف الزجاج تلامَع ماء المطر على العربات، المظلات، شعر البنات الصغيرات، إسفلت شارعنا التونسي الحزين... كنت وحدي، في عمق مقهاي ثرثرة الياسمين تداعب غيتار صمتي حتى انقطاع الوتر... كنت وحدي وامرأتي ها تفتني من الغربه : هل أجيء؟ بيدر القمح إمرأتي وانا نورج حَرِن في شتاء الرصاص القصيّ قلت : لا، وانزرعت على مقعدي سحنة شاحبه... فجأة فاض صمتي بحر دماء شواطئه لهب والسماء محايدة والنسور تبعثر هذا الحياد الرمادي تعلو وتزعق ثم تحط وتحرق ثم أرى وردة النار ينشق عنها الثرى لحظة بعدها تشهق صار قلبي في أذنيّ طبولا تدق على وقعها سار جُند العدوّ ومن دمي اقتربوا ! كنت وحدي، لا لم يجئ مسلمون إليّ ولا عرب... كلهم من وعيد عمائمهم وصليل صوارمهم الى صمتهم هربوا ! 5 قمرُ كالحُ القسمات قادم من أساطير تلمودهم ينضح الآن فوسفوره الأبيض فوق لحم المدين غزة... غزة ليست كُتلاً من إسمنت غزة أطفال كبروا في مهد الجوع، نساء يعجنّ ترملهن يدمع الثكل، وشيوخ أخطأهم صخب القتل، عشب يعطب جنزير الدبابة وحصى يكسر أنف العلج غزة نبض وقرن العجل... وتفاصيل حياة زهد بها كهان الليل، تلويحة طفل لأبيه على باب المدرسة، وسوق تيلامع فيه السمك ويعلو صوت الباعة يمتدح خضار الصحراء وفاكهة الزمن البعل... غزة صرخة جيفارا الشعبي وكوفية عرفات على شرفات الدنيا وشوارعها المهتزة.. غزة حكمة أحمد ياسين الغائب كالصاعق عن قنبلة الدين... غزة شلال أغان أجلها الموت الطارئ قايضنها تجار الموت بحفنة رزّ... ولهات أسرة حب دام، ومدارس يصعد منها زغب الكلمات الى أجنحة الصقر الرمز... لكن عيون الاطفال المفتوحة موتا والمسمولة صمتا تسأل : هل غزة صخرة ملح في جرح أم وقفة عزّ ؟ 6 كنت أخرج مني أطير على ذكريات الحروب التي لفظتني عندما اعترضتني صرخة عارية لا حرير يغلفها أو رتوش: (برصاصة في صدغ بوش أنقذوا أرضا تموت وعقّموا أرحام أمريكا فقد قذف الوحوش منيّهم فيها وأنّى وجه الأعمى بصيرته تكاثرت النعوش) قلت أمضي الى قمر في سماء أليفه الى نوره المتهاطل في الصيف ثلجا خفيفا... فارتطمت به قمرا آخر طالعا من رفات سدومْ خنجرا أغبرَ في ضباب عروبتنا والغيوم ناشرا في الورى سُمّهُ الطائفي 7 عبر الزجاج كانت طيور البحر تعبر روحي المترنحه شمس الشتاء الحارقة قدحت مخيلتي وضجت في الهواء الرائحه هذا نهار واضح وانا بعيد في شمال غربها وعلى يديّ دم وفي قلبي حروق... أمضي بلا سمت تحيط بي البروق لا نجمة لا نجمتان ولا أهله لا منجل لا مطرقه هذا نفير المحرقه أمضي بلا زاد ولا عتاد لا امرأة عندي ولا بلاد حتى علاقتي بإخوتي علاقة الرماد بالقتاد... لم أخلق الله الذي خلقني لم أخذل الله فهل تركني كأنه معي كأنه فراشة من فرح ترف بين أضلعي وبلبل مغرّد في مسمعي لكن جيشه وشعبه، عباده وحزبه، آياته والحاكمين باسمه والمالكين بيته... والكهنوت المدّعي ليسوا معي ! أنا الآن أمضي الى آخر المذبحه أخزّن في الروح والذاكره كل هذا السواد وما في الرّكام وتحت الركام وفي المشرحه فكم جثة بذرت في تراب البلاد؟ وكم طائر سوف ينهض من كل هذا الرماد؟ هكذا الآن تنهض أجنحة فرحه بأسئلة جارحة وتحلق في كل نجد ومصر وشام بانتظار الحصاد ! مقهى اللوفيرو المنزه السادس تونس 14/1/2009