أيام قرطاج السينمائية أي هوية.. و أي سينما؟ قرطاج هذا الاسم الخازن و الساحر و المختزل لموروث تاريخي متأصل في الكيان التونسي الثقافي والذي صار عنوانا لأبرز التظاهرات الثقافية العربية كأيام قرطاج السينمائية التي ستنطلق دورتها الثالثة والعشرون يوم الثالث والعشرين من أكتوبر الجاري لتتواصل إلى غاية الحادي و الثلاثين من الشهر نفسه وعلى مدى تسعة أيام سيتم عرض مائتي شريط بحضور ثلاثمائة و خمسة و ستين ضيفا و لكن هل أن هذا الكم الهائل من الأشرطة السينمائية سيضفي على هذه التظاهرة بالفعل قيمة ورفعة في حجم اسم قرطاج..؟هذه الأيام كانت فيما مضى مؤسسة لما عرف بسينما الجنوب وكانت منبعا لخلق أجيال من السينمائيين الكبار على غرار يوسف شاهين من مصر وعبد اللطيف بن عمار من تونس و لخضر حامينا من الجزائر و غيرهم من الأفذاذ الذين أثروا على المسار الفكري والثقافي لدى عديد الأجيال في العالم النامي من العرب والأفارقة.. أجيال كانت تحلم بفن سينمائي يعلن وجودها الثقافي أمام العالم ويطرح قضاياها ويبرز تطورها الفكري وكانت هذه الأيام ملتقى النجوم الكبار من الفنانين والأدباء وشكلت فرصة للجمهور العريض ليقول كلمته في العمل السينمائي الفني وكان النقاد يتبارزون ويتجادلون في منتديات مفتوحة للمتلقي و كانت أيام قرطاج السينمائية رغم محدودية الإمكانيات لها رونقها وبهرجها وإشعاعها و كانت وكانت.. ولكن هل مازالت الأيام محتفظة ببريقها في أمسياتها ولياليها ..؟ إن محبي الفن السابع الكرام يجدون في هذه التظاهرة متنفسا للاستمتاع بالكم الهائل للأفلام المعروضة وأجواء ثقافية تملأ دور العرض ولكن هل يعقل أن يجيب المخرج فريد بوغدير وهو من منظمي هذه الأيام في ندوة صحفية حول سؤال عن كيفية حل إشكال الفوضى التي تسبق دخول قاعات السنما لمشاهدة الأفلام بالقول: نحن نرحب بهذه الفوضى وكأنه يعتبرها فوضى خلاقة.؟ فهل أصبحنا عاجزين عن توفير الظروف الممتازة لاستقبال جمهور متعطش للشاشة الكبيرة مرة كل سنتين و الحال أن دور السينما شبه مهجورة على مدار كامل السنة.. ونحن نتساءل كذلك عن قيمة النجوم والأسماء الحاضرة في هذا المهرجان. فإذا نظرت إلى لجان التحكيم في هذه الأيام فستكتشف بأننا في تظاهرة سينمائية للهواة مع احترامي للأسماء.. فهل يعقل أن يتم تقييم أعمال فنية لأناس وهبوا حياتهم للسينما والعمل الفني من قبل لجنة تحكيم تفتقد الأسماء الكبيرة من مخرجين وفنانين وكتاب سيناريو... انظروا إلى مهرجانات هوليوود وكان والبندقية وبرلين والقاهرة ودبي وغيرها من المهرجانات التي ذاع صيتها قبل أيام قرطاج السينمائية وبعدها فستجدون أن عملية الغربلة والتقييم هي من أصعب الأمور وأدقها وأن أعضاء لجنة التحكيم مكونة من أناس أكاديميين وخبرات فنية يشهد الجميع بشرعيتهم وأحقيتهم في الحكم على العمل الفني.. أم أن أيام قرطاج أصبحت تراهن على الكم وإرضاء الجميع من مختلف الألوان والأجناس ونسيت أن عليها اعتماد إستراتيجية واضحة أولا لتقديم التظاهرة على المستوى العالمي ولا المحلي وثانيا الاستفادة من الوجوه السينمائية العالمية البارزة لتمكين الأيام من مقومات النجاح الجماهيري والإعلامي وإعطاء قيمة لجوائزها..يبدو أن أيام قرطاج السينمائية فقدت جزءا هاما من نجوميتها وأصبحت تشكو فقرا على مستوى التصورات و التنظيم المادي والاستراتيجيات الفنية لتحديد مستقبل المهرجان.. وهل أن مفهوم ما يعرف بسينما الجنوب مازال قائما أم تجاوزته الأحداث..؟ و هل هناك فعلا إستراتيجية إعلامية لتسويق المهرجان خارج حدوده الضيقة؟ الأكيد أن هذه الأسئلة و غيرها تحتاج إلى إجابات عاجلة كي لا تصير هذه التظاهرة الفنية الثقافية من بقايا آثار قرطاج نزورها مرة كل عامين.. لقد تغيرت في زمننا الحالي المفاهيم التقنية والإخراجية والمضامين السينمائية وصرنا نتحدث عن سينما ثلاثية الأبعاد وصناعة سينمائية مساهمة في البورصات العالمية ومضامين فنية تراهن على عبقرية الفكرة وطرافتها. فأين الأيام من كل هذا؟ إنني عندما أشاهد المعلقة الرسمية لهذه الدورة الثالثة والعشرين لأيام قرطاج السينمائية وما تحمله من فقر على مستوى التصور لتقديم هذه الأيام و لا أجد فيها أي جمالية فنية أو لمسة إبداع حقيقية.. فإنني أتذكر أغنية الأيام كيف الريح في البريمة أي أن هذه الأيام ستمر مرور الكرام كهبة ريح في هذا الفصل الخريفي ولن يبقى منها أي أثر.... مع الأسف الشديد.