بقلم: شكري بن عيسى (*) في ذكرى "عيدها" التاسع والخمسين يجدر ان نتساءل الى اي مدى حققت المرأة التونسية مع صدور مجلة الاحوال الشخصية حقوقها المختلفة المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وحقها في المساواة في هذه الصدد مع الرجل!؟ والى اي مدى ساهمت المرأة في النهوض بالاسرة والمجتمع والوطن بوجه عام والدفاع عن القيم الانسانية في العموم؟؟ في المنطلق حريّ الاشارة الى نقطتين اساسيتين: - الاولى تتعلق باختلاف المرأة في الوضعية وبالتالي في التطلعات بين الفئات والجهات، - والثانية تتعلق بالتطور التاريخي الذي سبق صدور مجلة الاحوال الشخصية والذي لا يتطابق مع ما يروّج اليه بان بورقيبة حقق نقلة "نوعية" دون سياق تاريخي انضج الظروف لمثل هكذا تشريع "رائد". فبشيرة بن مراد التي ولدت فجر القرن العشرين (1913) في عائلة عريقة في العلم والدين كانت بحق رائدة الحركة النسوية بتونس زمن الاستعمار، ولم تنتظر ظهور بورقيبة او غيره للبروز وقيادة العمل الخيري والاجتماعي خاصة في دعم تعليم المرأة والكتابة الصحفية بجريدة "تونس الفتاة" وغيرها والمشاركة في الشأن العام والانخراط في معركة الاستقلال الوطني من اوسع الابواب، عبر تاسيس مع نساء اخريات "الاتحاد النسائي الاسلامي التونسي"، كما لم تنتظر التشريع البورقيبي لفرض "حقوقها" قسريا على زوجها ليفسح لها المجال في الصدد، فهو الذي شجعها للقيام بنشاطها النسائي والوطني بكل تلقائية مثله مثل ابيها الشيخ الزيتوني (المفتي الحنفي) الذي عرف بمعارضته الشرسة لامرأة الطاهر الحداد في كتابه "الحداد على امراة الحداد". هذه القصة فقط من باب الاشارة الى ان المرأة في تونس كان لها السبق التاريخي للدفاع عن حقوقها، وبالتالي فمن الظلم والحيف نزع استحقاقها هذا واسناده لبورقيبة، وكأنها قاصر كانت كل مكتسباتها ومنجزاتها رهينة "الرجل الاوحد" الذي "لولاه لما رأت المرأة النور وتعلمت ودخلت الشأن العام"، كما يريد ان يقنعنا اليوم المتاجرين بتاريخ بورقيبة من اجل السطو على السلطة. بشيرة بن مراد التي ساهمت في كل مناحي الحياة الوطنية، وعاشت الى تسعينيات القرن الماضي تم استبعادها واذلالها بعد الاستقلال ، ولم تتبوأ المكانة التي تليق بها وباسمها الذي لم يقع اعادة تداوله بالمستوى المطلوب الا بعد الثورة. ايضا عزيزة عثمانة التي يسجل الجميع المستشفى الموجود في ساحة القصبة باسمها بعد ان جعلته وقفا خيريا، هي الاخرى من الرائدات منذ القرن السابع عشر وعرفت باعمالها الخيرية والاجتماعية وقيادتها عتق العبيد وتطوعت بقرابة 90 الف هكتار للاعمال الاجتماعية الخيرية. وطبعا تونس عبر تاريخها ولدت رائدات في جميع المجالات، وليس هنا مجال الحديث عن عليسة والكاهنة اللتين غالبا ما يطغى اسميهما على تاريخ تونس لطمس نضالات وريادة النسوة التونسيات الحقيقيات. مسار تحقيق المرأة التونسية لانسانيتها وكرامتها والمكانة التي تليق بها مر بعديد الانحرافات الحقيقة ليس اقلها هو عدم المساواة في الدفاع عن الحقوق في الصدد بين المرأة "المحضية" والمرأة المسحقوقة التي لا تزال في الريف او في المعمل تبحث عن ابسط الحقوق في التعليم حيث تحرم من الالتحاق بالمدرسة او تنقطع مبكرا وفي الصحة وفي الشغل، والكثيرات منهن "اسمى" طموحهن هو الحصول على عمل معينة عند النساء "المحضيات" اللاتي حققن حدا معينا في الرفاه المادي والمعنوي. هاته الفئة التي تبحث على خلاف الاولى عن حقوق سياسية خاصة ومنافسة الرجل في الاعمال وفي التعليم، والحقيقة ان منهن من انقادت الى البحث عن حلم التفوق على الرجل عبر اليات التحرر "الاستهلاكي" الذي اصبح نمط العيش الذي تلهث وراءه العديد من النسوة من خلال الانغماس في الترف بمختلف انواعه الى درجة ان بعض النسوة الفنانات اصبحن لا يرغبن في الحمل والولادة خشية ان يمس ذلك بمسارهن المهني ويضرب طموحهن. التطور غير السليم في مسار تحقيق المرأة لانسانيتها وكرامتها دفع في عديد الحالات الى سلعنة المرأة عبر هاجس التحرر المادي على حساب الاعتبارات القيمية والفكرية والادبية، ما خلق في عديد الحالات ظواهر اجتماعية خطيرة من اهمها ارتفاع نسبة الجريمة والانحراف وارتفاع نسبة تعاطي المخدرات لدى الاطفال الذين اصبحت تنشئتهم سيئة الى حد عال سواء على المستوى العاطفي والنفسي والصحي والتعليمي والاجتماعي نتيجة تفكك مؤسسة الاسرة مع الالتباس الحاصل في دور ووظيفة كلا من الرجل والمرأة في الصدد. اكيد ان هناك مكاسب تحققت ولكن التطور المصطنع والقسري في عديد من الحالات قاد في مستويات مختلفة الى الاضرار بالمرأة ذاتها وطبعا بالرجل والمجتمع، وارتفاع حالات الطلاق والعزوف عن الزواج قد يقود في المستقبل الى انخرام التوازن المجتمعي وقد يهدد المجتمع في كليته. طبعا الرجل مسؤول على قدم المساواة في الصدد، والقضية تتطلب اليوم بحوث سوسيولوجية وتربوية وثقافية ونفسية وقانونية وحضارية جدية وعميقة لايجاد المعادلة الملائمة التي تراعي خاصة تحقيق الحقوق المختلفة والمساواة دون اضرار بتوازن العائلة والمجتمع الذي قد يضرب اختلاله في النهاية حقوق المرأة وخاصة حقوق الاطفال الفئة الهشة التي تتطلب العناية والحماية الخاصة.