عبد الجليل الجوادي إغاثة الملهوف و نصرة المظلوم و إعانة المحتاج ورد الحقوق إلى أصحابها و الفتوة و الفروسية و إكرام الضيف و غيرها من القيم الأخلاقية، كانت موجودة لدى الشعوب العربية في ما يعرف بشبه الجزيرة العربية. نشأت عليها و عرفت بها بين الأمم حتى قبل بزوغ شمس الإسلام. و قد روي عن عنترة ابن شداد شعرا يقول فيه: وأغض طرفي ما بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها إني امرؤ سمح الخليقة ماجد *** لا أتبع النفس اللجوج هواها يصف هنا قيمة أخلاقية صرنا اليوم نفتقدها ألا و هي غض البصر و احترام الأجوار. و عن قيم الفروسية و نجدة الملهوف و الشجاعة يحدثنا الشاعر الجاهلي طرفة ابن العبد في معلقة له يقول فيها: إذا القومُ قالوا مَن فَتًى ؟ خِلتُ أنّني عُنِيتُ فلمْ أكسَلْ ولم أتبَلّدِ ثم يضيف في موضع آخر من نفس القصيدة: ولستُ بحلاّل التلاع مخافة ً ولكن متى يسترفِد القومُ أرفد. و عن كرم الضيافة خذ لك مثلا حاتم الطائي الذي كان يشعل نارا ليكرم من يأوي إليه من الضيوف و كان يعتق مع كل ضيف عبدا من عبيده مبالغة في إكرام الضيف. و هذه القيم لم يرفضها الإسلام بل احتضنها و نماها و زكاها و تممها كما في قول الرسول صلى الله عليه و سلم "إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق". لأن الأخلاق في الإسلام هي سنام الأمر و ذروة الدين و هي مقدمة على الحج و الصوم و الجهاد في سبيل الله و غيرها من الطاعات لأنها سبب استقرار الأمم و نموها و سر حضارتها. قال صلى الله عليه و سلم " إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا" و حين حدثوه عن امرأة صوامة قوامة غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها قال: لا خير فيها هي في النار" و ربما أمكننا أن نلخص جميع القيم الأخلاقية القديمة و ما جاء بها الإسلام و قننه بنص القرآن و السنة، في قول الله تعالى:"كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ" صدق الله العظيم. أمر بمعروف و نهي عن منكر على قاعدة الإيمان بالله هذه هي الصفة الأساسية لأمة الإسلام و للخيرية في هذه الأمة. فما الذي يحدث معنا اليوم؟ إنقلاب أبيض على القيم و الأخلاق و كلمة حق أريد بها باطل هذا باختصار شديد ما يمكن أن نصف به تلك الحلقات المهزلة من سلسلة "هاذوكم". على قناة نسمة. بطريقة خبيثة و بأسلوب غير بريء، يسوقون للمشاهد الكريم مواقف مما أصبح الآن موجودا في بعض الأوساط حتى لا نظلم أحدا. "بزناس" البحر مع الفتيات الطاهرات "المحتشمات" ...و نادل الملهى الليلي مع خفافيش الظلام و سارق الهواتف الجوالة وووو ثم يأتي المنقذ "هاذوكم" ليحققوا قيم العدل و يردوا المظالم لأصحابها و لكن بطريقة غريبة عن مجتمعنا و قيمنا التي نشأنا عليها و نريد أن نربي عليها أبنائنا. طريقة تؤسس لقيم جديدة لا نعرفها و لم نعتد عليها من ضرب و تكسير و تهشيم و حركات غير بريئة و إيحاءات بالوجه لا تريح... أهكذا ننصر المظلوم و نغيث الملهوف و نرد الحقوق لأصحابها؟ أنرد الظلم بالظلم و الاعتداء باعتداء أشد منه و نقاوم العنف بالعنف الشديد و بالإهانة و "التشليك" و تطييح القيمة؟؟؟؟ و أنظر للوقت الذي يتم فيه تمرير هذه الحلقات تجده وقتا تجتمع فيه الأسرة التونسية على موائد الإفطار. الأب و الأم و الأبناء و ربما الأشقاء و الأصدقاء و كل الذين نحترمهم و يحترموننا... تميل أعناقهم في اتجاه قناة "العائلة" بحثا عن التسلية و الترويح عن النفس، فتجد النفس مرغمة على متابعة هذه المهزلة حلقة بعد حلقة...و بين الحلقة و الحلقة يسمعونك شعارهم الرسمي "نسمة قناة العايلة" أي عائلة هذه التي تريدون أن تؤسسوا لها و أي قيم تنشرونها في مجتمعنا العربي المسلم؟؟؟ أهكذا نربي أبنائنا و بناتنا المراهقين و المراهقات، المبعدين أصلا عن الأخلاق و المتصحرين دينيا عبر عقود من الحكم البائد؟؟؟ نربيهم على العنف و الضرب و التكسير و نقلب في تفكيرهم قيم السماحة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لنشحنهم بالشذوذ الأخلاقي و العنف و الكراهية عبر شلال من المسلسلات لا تخلوا من هذا المنحى الخبيث تحت شعار "قناة العائلة". ثم نتساءل بعد ذلك ببلاهة عن سبب تنامي العنف في مجتمعنا و سبب الشذوذ و ارتفاع منسوب الجرائم الأخلاقية و تفكك الأسرة كما يسأل القاتل عن الضحية كيف قتلت. و كما يقول المثل الشعبي "يقتل القتيل و يمشي في جنازته" أنا لا أطلب من "الهايكا" محاسبة هذه القناة و لا أنتظر منها أي شيء لأنها أصلا متورطة و من الغباء أن نطلب من الجلاد أن يدافع عن ضحيته، و لكن أريد أن أنبه أصدقائي و صديقاتي القراء و كل غيور على دينه و أخلاقه و قيمه أن يكونوا في مستوى الأمانة و المسؤولية و أن يقفوا جميعا سدا أمام هذا التيار الجارف الذي لا يريد خيرا بمجتمعاتنا و قيمنا و ديننا و ما تربينا عليه، و يريد أن يخلق فينا الشذوذ و العنف و الفساد حتى يقوض عرى المجتمع من الداخل عبر سياسة خبيثة تستهدف الأسرة كنواة أولى و أساسية للمجتمع و أرى أنهم نجحوا إلى حد كبير و لكن ما زال بوسعنا أن نصلح ما فسد و نرد الدر إلى معدنه.