بقلم حامد الماطري أيام الثورة في تالة العظيمة، وبعد حرق مركز شرطة وانسحاب الأمن منه، دخلت مجموعة من شباب تالة المركز، وسط النار والدخان، فتعرضت لحروق واستنشقت الدخان وخاطرت بحياتها بعد ان أخلاه أعوانه، حتى تنزل العلم، حتى لا يحترق علم تونس. القصة حقيقية وليست بخرافة. لا أدري لماذا عادت هاته الصورة الى ذهني في الايّام الاخيرة، وبشيء من الإلحاح، تطرح عليّ ألف سؤال... كيف ضللنا الطريق؟ وبمثل هاته السرعة؟ كيف نسينا السبب الذي خرجنا لأجله؟ لم تقم الثورة من اجل المنافع الضيّقة، الفئوية او الجهوية، أو فرص الشّغل أو وزن "القفّة" في معانيها المجرّدة... لقد اجتمع الناس في ثورتهم على حلم آمنوا به جميعاً، شمالاً وجنوباً، الطبيب والبطّال. "مشروع" وطني رسم في الخيال الشعبي المشترك صورةً لتونس اخرى، "تونس متاعنا موش متاعهم"، تونس نظيفة، من غير فساد او محسوبية او تمييز. تونس رأسها عالي، وكرامة أهلها مصانة، الزوالي قبل المرفّه... أيام القصبة، رفض المعتصمون -وبشدّة- توصيف نجيب الشابي وقتها بأنّها "ثورة الجياع"، واكّدوا على ان مطالبهم في التغيير هي أعمق وابعد من مجرّد المطالبة بلقمة العيش. ستة سنوات مضت... نغلق أعيننا وهلةً لنفتحها على واقع عجيب بقدر ما هو قبيح، فنتساءل: "ما الذي حدث؟ لماذا هفتت نار الثورة وخلّفت وراءها الحسرة والسؤال. لماذا غابت الشعارات الوطنية وفسحت المجال للنّعرات بأنواعها، فئوية وسياسية وجهوية؟؟ تعترض أذناك اليوم، من حين لحين وعلى هامش الاحتجاجات المختلفة، دعوات (خرقاء) بالانفصال، يردّدها المحتجّون بأريحيّة مزعجة، وتشويش على النشيد الوطني، وآخرون يرفعون أعلاماً لدول مجاورة للتعبير عن مقاطعتهم للدولة الوطنية... كذلك انفجرت اليوم نسب الهجرة بين الشباب المتعلّم، وصرت تسمعها مراراً وتكراراً، ليس على لسان العاطلين أو الفاشلين، بل تخرج من أفواه الأطباء والمهندسين، من تطاوين او من صفاقس او العاصمة، يقولون "لم اعد أرى مستقبلي هنا!" ليضيفوا بشيء من التبجّح "هاته البلاد لم تفعل شيئاً من أجلي وليس لها دينٌ عليّ! لا شكّ أنّ مثل هذا الكلام شاذّ ولا يؤخذ عليه، وربّما يكون من يردده غير مؤمن بمغزاه، بل هم يعبّرون عن حالة من التّمرّد يغديها الإحباط المتراكم تجاه الإفلاس المشروعي الذي تعيشه بلادنا اليوم... هي ربّما حالات معزولة -وان تعدّدت- ولكنّها تبقى في رأيي علامات تنذر بخطر لا ينبغي تجاهله... اعتقد اننا جميعا نتقاسم ذات الإحباط وذات المرارة، فتتنازعنا نفس الأسئلة: ما الذي جعل أعلام البلاد وصنّاع قرارها اليوم ليسوا من شباب الثورة المستنير، الحالم والحامل لرؤى الإصلاح والنهضة الشاملة.. ما الذي جعل بلادنا اليوم تحكم من أمثال شفيق جرّاية ونورالدّين بن تيشة ونبيل القروي وسليم الرياحي (للذكر لا للحصر) ؟! ما الذي فعلنا؟ أين اخطأنا وأين حدثت القطيعة؟ أعتقد ان هذا هو السؤال الأهم الواجب طرحه اليوم ونحن على عتبات احتقان اجتماعي وتعفّن سياسي وصل الى ابعد مما كانت عليه الأمور في أواخر 2010، وليس مستبعدا أيضاً ان يصل بالبلاد الى ذات الانفجار السياسي، بحيثياتٍ مختلفة، قد تكون أخطر من ثورة 2011. سؤال يجب ان نجيب عليه سريعاً حتى لا نعيد ربما ذات الأخطاء التي اوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم. في الواقع، ما نعيشه اليوم من تردّي سياسي يرجع الى مجموعة من الأخطاء التاريخية التي اقترفتها قيادات الثورة في السنة الاولى، والتي مهّدت لإجهاض المدّين الإصلاحي والتضامني، وتحويل وجهة الحراك نحو حمّى مطلبيّة أنانية وسطحيّة، تحرّكها النعرات الجهوية والفئوية والعروشيّة... لم يكن صعبا جداً كسر "العروة الوثقى" التي صنعتها الثورة، فمباشرة إثر "استتباب الامر" في مارس 2011، ارتمى "شركاء الجمر" مباشرة في الفخّ الذي نصبه لهم مهندسو المرحلة الانتقالية: انطلقوا نحو حلبة التنافس والتّناحر السياسي، بشيء من السّذاجة و "الهواية"، يقتادهم طمع كبير وعينهم على نفس الهدف يتصارعون من أجله، الا وهو ملئ الفراغ الهائل الذي تركه سقوط التجمّع وتحلّله من قبل حلّه رسميّاً... الاتحاد العام التونسي للشغل، النهضة، او حتى العائلة الديمقراطية، الكل حاول "الاستيلاء" على موقع التجمّع وإرثه، فغازل رموزه وسلك سلوكه ومارس ممارساته. لا أتكلم قطعاً عن النداء، فهو بطبعه رسكلةٌ للتجمع، بل اتحدّث عمّن ادّعوا محاربة المنظومة القديمة في حين انهم سعوا الى استيعابها، وجميع من ادّعى القطع مع التجمّعيين بينما كان يسير سيرتهم، أولئك الذين اعتمدوا منطق "جماعتنا" و "متاعنا"، وافتقدوا المبدئية في مواقفهم فغيّروها وقلبوها حسب ما أملته عليهم مصلحتهم الشخصية او الفئوية او الحزبية او الجهوية، في حين ان ألسنتهم لم تتوقّف عن الحديث عن المصلحة الوطنية، مقدّمين بذلك أسوأ مثال ممكن لحكم ما بعد الثورة. حتى نسمّي الأمور بأسمائها، لم يكن الذّنب ذنب السياسيين دون غيرهم، فمجمل "النخبة التونسية" افتقدت الى المبدئية في مواقفها. أقول أنها جميعاً كانت متأثرة بأنموذج دولة الاستبداد، في هيمنة الحزب او الجماعة او النقابة على الدّولة، في تغوّل الانا، تقول بالديمقراطية والشفافية وإعلاء المصلحة الوطنية، ولا تمارس أيّاً من هاته الشعارات في تعاملاتها او مواقفها. ثمّ أن اغلب هاته النخبة -ان لم نقل كلّها- على اختلاف الميادين من سياسيين أو مثقفين أو مفكرين، كانوا يدعون للتغيير علنا ويخافونه، بل يعرقلونه سرّاً. ناهيك ان أحد أوّل الشعارات التي رفعتها "النّخبة" الثقافية ومن لفّ لفّها من بورجوازية وسياسيين مخضرمين كان عنوانه "الدّفاع عن المكتسبات"!! أيّ مكتسبات، ومكتسبات من؟ شعار عجيب في زمن ثورة...! نخبتنا عالقة بدورها في ثقافة الزّعاماتية والشخصنة والمنفعيّة، تخاف ان تخسر مواقعها، تخاف ان تفتح الباب لتبرز نخبة جديدة ترثها وتدفعها الى الوراء، وهي في ذلك كثيراً ما تأخذها العزّة بالإثم فتصبح أشدّ التصاقاً بالماضي ممّن كانوا رموزاً له. ربما يكون أحد أهمّ اخطاء الثورة أننا اعتقدنا بكلّ سذاجة إمكانية اعادة تحقيق مقولة "خيركم في الجاهلية خيركم في الاسلام" فأخترنا ان نصدّق بأن من أخطأ بالأمس، من قضاة فاسدين واعلاميين "بنادريّة" وإداريين مرتشين، كانوا يفعلون ما يفعلون "تحت الضّغط" و "رغماً عنهم"... يبدو اننا كنا غاية في السذاجة ان اعتقدنا اننا إذا اعطيناهم فرصة اخرى سيكونون في المستوى وسيقلعون عن عاداتهم السيئة... ألم يعتذر نزار بهلول وبرهان بسيس ورضا الملولي للتونسيين على الملإ في "حموة" الثورة؟ هاهم اليوم عادوا بأكثر مما كانوا عليه من قبل... عادوا في مشهد لم يتّسع لغيرهم في النهاية لأكثر من أشهر معدودة... أين شباب الثورة؟ أين عزيز عمامي وأين بنديرمان والامين البوعزيزي وغيرهم في المشهد الإعلامي؟ لماذا عوّضهم في "الكرسي الشبابي" كافون وحمزاوي حيناً، قبل أن يذوب كل شيء ويفسح المجال من جديد للبنفسجيين بعد ان خاطوا بدلات جديدة بألوان جديدة... في الأسابيع الاولى للثورة، وفي احدى اللقاءات التنسيقية للمدونين الشبان، تذمّرت احدى المدونات المعروفات وقتها من أننا كنا زمرة قليلة قبل الثورة، وان عدد المدونين والمتدخلين في الشأن العام من بين الشباب تضاعف مئات المرّات في أسابيع قليلة... استغربت هذا التدخل وقتها، اذ كان أحرى بها ان تسعد لذلك ونحن الذين كنا نتمنى وندفع حتى ينخرط الشعب -وخصوصا الشباب- بشكل اكبر في المسالة السياسية حتى يكون حضورنا وتأثيرنا اكبر، و حتى نصبح أكثر قدرة على تغيير الوضع الراهن بامتداده، و بمختلف ابعاده... اعتقد أنّها عبّرت بصوت مرتفع عن خشيتها -شأنها شأن "النخبة القديمة"- من مزاحمة الوافدين الجدد. اليوم، اعتقد انه لم يعد لصديقة الأمس ان تتذمر، فقد انحسر المدّ الذي شهدناه ايام الثورة، وعدنا نحن الى ما كنّا عليه، وعاد التونسيون الى عزوفهم عن العمل السياسي، وعادت تلك السلبية البغيضة، وقبول الامر الواقع، وعدم الإيمان بجدوى مجابهة المشاكل من خلال الانخراط السياسي والعمل بذلك على التأثير في القرار. قد لا يدرك البعض ممن يغرق اليوم في حسابات السياسوية ولعبة التوازنات، ان الثقل الاعظم في المشهد السياسي لا تحتكره النهضة ولا النداء، ولا غيرهما... بل هو يتشكل -مرة اخرى، وبأغلبية صادمة- من شباب تونس السّاخط والمحبط، والذي فقد ثقته في الدولة، وفي القيادات والمؤسسات. هاته "الأغلبية" اليوم، تختلف عمّا سمّي في الماضي القريب "أغلبية صامتة"، ووقع استعمالها لضرب الإجماع الوطني حول الثورة وضرب المسيرة الانتقالية ("اعتصامي" القبة 2011وباردو 2013- اذا صحّ طبعاً وصفهما بالاعتصام). الأغلبية الصامتة اليوم تختلف عمريّاً وفكريّاً ومنهجيّاً عن الاخرى، فهي -على خلاف سابقتها- تبدو عصيّة على التّدجين والتّوجيه، بل اكثر من ذلك، هي تتشكّل من شباب الذي لم تعد مشكلته مع عائلة او حزب او نظام، بل صار يرى في الدولة منظومة تكذب عليه وتستغلّه لخدمة اللوبيات ومراكز النفوذ، بل والمصالح الأجنبية المختلفة". وينو البترول 2" هي مثال صارخ على الفجوة بين الدولة ونخبتها من جهة، وشقّ واسع من الناس يرفض تصديق الأرقام الرسميّة ويتّهم الدّولة علناً بالكذب والتزوير والسّرقة، ويرفضون الاستماع الى اي من الخبراء إلا من ردّد ذات الكلام الذي يريدون سماعه. هل هم على صواب في انعدام ثقتهم بالدولة وبالنخبة؟ هل لنا ان نلومهم على انقطاع حبل التواصل مع من وثقوا بهم وخيّبوا ظنّهم؟ طبعاً لا يمكن ان يكون الجواب بنعم او بلا، فالمسألة صارت على شيء من التعقيد يجعل الجواب مستحيلاً. باختصار، الأغلبية الصامتة اليوم هي ثقل ديموغرافي وسياسي هائل يغلي في بطئ وفي العتمة. هي أقرب ما تكون الى بركان يشحن الضغط في انتظار ثورته القادمة، مع التأكيد على انها ستكون أكثر راديكالية وعنفاً يوم تخرج عن صمتها. أعتقد ان الإرهاب وانتشار "الظاهرة الجهادية" في السنوات الماضية لا تعدو ان تكون إلا تسبقة وعبارة عن "تنفيسات" لضغط أكبر يحتقن في الأسفل. في الأشهر الاولى لسنة 2010 كتبت تدوينة عنونتها آنذاك "الطوفان قريب"، انتقدت فيها المشهد السياسي المتحلل وصراع النّفوذ بين أنصار "مشروع صخر" و"الطرابلسية"، و"لوبي السّواحليّة" وغيرها من التّقسيمات، حتى أصبحت الساحة أشبه بحيّ تحكمه العصابات، وهي تجهّز نفسها للقتال بين بعضها البعض... مثل هذا المناخ، والذي نعيش وضعاً شبيهاً جداً اليوم، تشي به حرب التسريبات وصراعات اللوبيّات المفضوحة، لا يمكن ان يقود الى شيء آخر غير دولة فاشلة، او ثورة عارمة... وفي الحالتين، سيكون طوفاناً يضرب الجميع بغتة، و يرحل بكلّ الطبقة السياسية التي يبدو أنها صارت تركّز على معاركها الصّغيرة، لدرجة أنها أدارت ظهرها للشعب وخالت أنّها تتصارع على قطيع من الأغنام، سيبقى ينتظرها في هدوء الخرفان، حتى يرجع المنتصر بين الرّعاة ليتولى القيادة من بعد. للأسف لا ارى انفراجا في الأفق. وبالرغم من المجهودات التي يبذلها رئيس الحكومة، لا أرى في الحاشية المحيطة بالقصبة أو بقرطاج من يحمل فعلا أجندة وطنية. الحلول شوّهت والشعارات استعملت في غير محلّها حتى استهلكت ولم تعد قادرة على تحريك أحد... الوحدة الوطنيّة صارت مسرحيّة هزليّة أخرجها اعلان قرطاج، وإعلان الحرب على الفساد آل إلى التوعّد بتمرير قانون المصالحة مهما كان الثمن. ولست أرى في الطبقة الفاعلة في الحكم من هو واع حقاً بخطورة الوضع، الكلّ يعمل على أجندته الخاصّة متجاهلاً كلّ التكاليف، وصراع اللوبيات لم يترك للوطن مكانا. في الأثناء، الشعب يتابع الأحداث في شبه هدوء، ليس من باب الفضول لمعرفة المنتصر، بل هو لا تعنيه أصلا نتائج هذا النزاع. هو فقط يغلي في صمت... فإمّا ان يلحقوه قبل ان يبلغ نقطة الانفجار، وإما يا ويلهم جميعاً يوم ينتفض عليهم ويعلن الطّوفان! سيترحّمون على أيّام "ثورة البرويطة"، ويخطئ كلّ من يستسهل قيام الثورة الثانية، حتى من بين أصدقائي الثوريين، ف القادم سيكون خارجاً عن التّحكّم ولن يكون رحيماً وعاقلاً كما كان سابقه، فوجب اذاً على الجميع التبصّر وتعديل الأوتار، واستباق الكارثة.