بقلم: شكري بن عيسى (*) في مشهد تصدّرته الطبقة السياسية المتسبّبة في التأزم الخانق، بين حكومة الشاهد المتخبّطة وقيادات الائتلاف الذي يشكلها، وغابت عنه تقريبا كل قيادات المعارضة، وألقي عبره بالمؤسسات الدستورية هامشا في الصفوف الثانوية خاصة هيئة مكافحة الفساد و"الايزي" و"الهيكا" وهيئة الحقيقة، ولمدّة 55 دقيقة كاملة انطلقت باية قرآنية (كالعادة) خاطئة، وبحضور ما يقارب 800 شخصية، وبديكور زيّن بالورود وتصدّره شعار الجمهورية في الواجهة، جاء الخطاب الذي يمكن اختزاله في عسكرة مواقع انتاج الفسفاط والطاقة، مع هامش ممتد من الهراء (السياسي)، اضافة لتوبيخ صاعق للغنوشي. خطاب يأتي في ظل احتقان سياسي عميق و"اشتعال" اجتماعي جهوي واسع وتدهور اقتصادي كبير، ميزته احتجاجات اجتماعية متعددة ومتواصلة وصلت الى حدود طرد الشاهد من تطاوين، واحتجاجات سياسية شعبية حول مشروع قانون "المصالحة"، وتنديد كبير من المنظمات والنقابية الصحفية حول تصاعد الانتهاكات في خصوص حرية التعبير، وتدهورت فيه الثقة في ساكن قرطاج وساكن القصبة الى ادنى مستوى، وتصاعدت فيه نسبة تشاؤم الشعب الى مستويات مفزعة (اكثر من 80%)، قال عنه (اي الخطاب) بن تيشة (مستشار الرئيس السياسي) أنه سيكون له "ما بعده"، وكان مستوجبا ان يبعث برسائل الطمأنة ويجيب عن هواجس التونسيين العميقة ويستجيب لانتظاراتهم، ولكن قفز على الواقع وغرق في الهوامش واختار الحل السهل ولكن الخطير عبر المقاربة العسكرية. تنصّل من المسؤولية وهروب من تشخيص الازمة العميقة وتهرّب من الاعتراف بالتقصير والاخفاق، والقاء المسؤولية على الاخر وخاصة احزاب المعارضة والجهات المحتجة، وحتى الغنوشي فقد ناله "التعزير" و"التوبيخ" الحاد بعد "عدم الموافقة على مشروع قانون المصالحة" من الشورى، بالتوجه لرئيس الشورى ونائب الرئيس الثاني بعبارات الاستهجان، على خلفية تصريحهم بمخرجات المؤسسة الاعلى في حركتهم، التي اربكت الرئيس بعد اعتقاده بان التعهد الذي قدمه له الغنوشي سيكون الفيصل، ولم يسلم سوى الشاهد الذي منحه "التدارك" وغطى عن سوءاته (السياسية) المتكررة. النقطة الاسياسية التي جاء من اجلها السبسي هي عسكرة مواقع انتاج الطاقة والفسفاط، مثلت اختيارا سهلا وهروبا للامام في ظل اختناق واضح للرئاسة في ايجاد الحلول، والاندفاع في هذا المسار الخطير هو قبل كل شيء دليل فشل السياسات الحالية، باللجوء الى "الكيّ" مع استمرار الاحتقان الحاد، وهو ايضا دليل فشل ادوات السياسة في حوار الرئاسة والحكومة مع شعبها، واللجوء الى القوة هو ايضا دليل ازمة عميقة لسلطة تنفيذية اتهرأت اغلب شرعيتها في الاداء بعد ان استنفذت شرعيتها الانتخابية. الحل الامني-العسكري الاغلب انه لن يحل المشاكل العميقة للجهات المنتفضة، كما انه لن يقدم المخارج اللازمة لتصاعد البطالة وانتشار الفقر واشتعال الاسعار وتعطل التنمية، كما ان القبول به لن يتحقق على الارجح اذ الوضع القاتم سيزيده استعمال القوة احتقانا، ولا نعلم بالضبط ان كانت الجهات سترضى بهكذا "حل" يصادر حقها في التظاهر، كما يلغي حقها في تحقيق مطالبها الاجتماعية المشروعة، وردة فعلها ستكون في اتجاه المواجهة على الاغلب، وهو ما عبرت عنه على سبيل الذكر تنسيقية اعتصام الكامور باستيائها من الخطاب واستمرار اعتصامها. وزيادة عن ذلك فهذا "الخيار" يلقي بالمؤسسة العسكرية التي حولها الاجماع الوطني الكامل في عمق النزاعات السياسية والاجتماعية، وسيلحق بها ابلغ الاثار السلبية، وسيحد من قدراتها في تنفيذ مهامها الاساسية في حفظ حدودنا ومواجهة افة الارهاب، وهذا خطير جدا ويبدو ان القيادات العسكرية لم تكن راضية عنه واحد المحللين العسكريين ذهب ابعد من ذلك باعتبار الامر خارج دور الجيش الطبيعي، وسيكون تنفيذه غير يسير ان لم يكن معقدا جدا، وهي وضعية لا احد يمكن ان يتوقع حدة خطورتها. ولكن السبسي يبدو انه يجد نفسه في الزاوية، وهذا هو المخرج الوحيد امامه والاخير ايضا، لان هذا الحل يعتبر دخول على خط المخاطرة العالية، واي فشل ستكون كلفته باهضة وسيعمق الانسداد، وسيصعب بعده اي حل في ظل المناخ المنهار، وتسويقه تحت مسوّغ "التمشي الديمقراطي مهدد" غير مقنع باعتبار ان حزبه الذي يحكم هو الذي اوصل البلاد لهذا الوضع بعد الوعود الوردية التي اطلقها، ويبدو ان الحل التصعيدي يجد مبرره الحقيقي في استنفاذ كل المغالطات الانتخابية التي قدمت للشعب. الخطاب الذي كان يمكن اختزاله في عشرة (10) دقائق لا غير، طاف على كل الحكايات باستثناء التأزم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحقوقي الحاد، وحضر الشعر والاي القراني الخاطىء والحكايات عن بورقيبة، في سياق الانشائيات السياسية المعهودة، وبدا فيه الرئيس او هكذا اراد ان يظهر صلبا متماسكا قويا، عرّج فيه على عديد المعاني: "المصلحة العليا" و"الوحدة الوطنية" و"دولة القانون" و"الدولة العادلة" و"التشاور" و"الحوار" و"التوافق" و"حرية التعبير والتظاهر" و"الثورة" و"الانتقال الديمقراطي"، لكنه لم يلتزم بالحد الادنى منها وداس اغلبها. ابتداء من تحامله على المعارضة، وتقسيم التونسيين عبر مشروع قانون المصالحة (المزعومة)، وفتح القصر سوى لمناصريه وحاشيته، وتساهله مع الفساد وانقاذه للفاسدين، وخرق الدستور باعتماد أمر الطوارى المخالف للدستور، وباعتماد الفصل 80 للدستور في اللجوء للتدابير الاستثنائية في غياب المحكمة الدستورية، وضرب حق التعبير والتظاهر من خلال الممارسات التي ادانتها نقابة الصحفيين والجمعيات الحقوقية الدولية والوطنية، والاستماتة في الدفاع عن نجله وصهره وحزبه ومقربيه وهذه المرة اضافة للشارني التي منحها الحصانة بعد اخطائها الفادحة، اضاف عماد الحمامي الذي مجّد ساكن قرطاج فرد له التحية بالحصانة. والاشارة في النهاية الى "هيكلة الداخلية" مع المجدوب هو تركيز على الخلل الحاصل في قيادة الوزارة السيادية، بعد رفض نقابة الحرس في بيانها الاضطلاع بدور حماية المشآت النفطية بعد طرد الشاهد من تطاوين، وبعد ما تم تناقله في تقارير موثقة حول استثناء المجدوب من عملية سيدي بوزيد الامنية.. ولكن "ابلغ" تلخيص للخطاب هو خاتمته بالقول "على كل حال انا ما عندي ما نقول.."!! (*) قانوني وناشط حقوقي