بقلم: شكري بن عيسى (*) عمّق السبسي بظهوره على "الوطنية الاولى" الانشغال اكثر مما قدم اجابات مقنعة وتطمينات مطلوبة، ولا ندري الحقيقة ان كان المسؤول الاول في البلد واعيا بما قدمه من "مبادرة" وانعكاساتها المختلفة، بعدما اعلن بصوت مدوي محدودية حكومة الصيد ان لم يكن فشلها، في "حوار" مبرمج، بمواصفات الاشهار السياسي، تمّت الدعاية لابرز "قراراته" منذ الصباح على صفحة "الصحفي"، وكالعادة كان مسجلا وفي القصر وبكل تجهيزاته، حتى ان موقع الفضائية العمومية نشر الومضة الاشهارية مباشرة من موقع رئاسة الجمهورية الرسمي. لا نريد الخوض كثيرا في منطلق "الحوار" الذي كان مطلوبا من الرئاسة، ولم يكن فيه "الصحفي" الياس الغربي سوى مجرد جزء من المشهد لاعلان السبسي عن "تشخيصه" للاوضاع وتقديم "مقترحه"، وتمحورت اغلب مداخلاته حول مجرد الاستفسار والمقاطعة "المطلوبة" حتى لا ينفضح "المونولوج" الطويل، وفي بعض الاوقات الانتشاء بنكت السبسي وفي اوقات اخرى الثناء على "شجاعته" بعد اعلانه ذلك "القرار الهام جدا"، مجرد مناوشات سجّلناها بعيدة كل البعد عن الاسئلة الصحفية، وكان من الاجدى القاء خطاب مباشر من السبسي للشعب قد يكون عبر مخاطبة مجلس النواب ممارسته لصلاحياته المنصوص عليها في الفصل 79 من الدستور. خلاصة السبسي، في ظهوره المبرمج على الوطنية الاولى، اعلان انطلاق الحوار حول "حكومة وحدة وطنية مشروطة"، يشارك فيها الائتلاف الحاكم الحالي زيادة على المنظمتين الوطنيتين اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة ويمكن ان تنفتح على بعض الشخصيات المستقلة، ببرنامج حدده ساكن قرطاج بعد تقييم عام لحكومة الصيد وتشخيص خارجي لاوضاع البلد، ولكن الاشكال الرئيسي ان المنظمة النقابية المعنية بالمبادرة والتي وصفت ب"الركيزة الاساسية للنظام الجمهوري" و"ركيزة في الكفاح" و"ركيزة في بناء الدولة العصرية" رافضة المشاركة في حكومة وحدة وطنية وفق ما اكده امينها العام حسين العباسي على "موزاييك" الخميس. ووفق ما استقيناه من معطيات مؤكدة من قيادة بالاتحاد فانه لم يتم عرض المقترح على العباسي، ولم يأخذ رايه في المشاركة في مثل هكذا حكومة مقترحة من السبسي، وبالتالي فان المقترح في اساسه انطلق دون مرتكزات، وانعقاد مؤتمر المنظمة النقابية في ديسمبر 2016 لا يسمح بالمطلق بالدخول في وضعية قد تربك مساره وتربك استحقاقاته، خاصة وان المنطلقات التي وضعها السبسي ضمن "الاولويات" من حد من الحريات وحد من الحركات الاجتماعية تتناقض وجوهر العمل النقابي اصلا وتفرغه من كل محتوى، هذا دون الاشارة الى الارتباط الكامل لبرنامج الحكومة باملاءات صندوق النقد الدولي، التي تتعارض وتوجهات الاتحاد، وبالتالي فمن المستحيل قبول الاتحاد بالمشاركة وتحمل تبعات فشل حاصل واخر محتمل بقوة. ولا ندري ان كان السبسي يجهل ذلك، ولكن الارتجال في "مبادرته" التي صاغها هذا الاسبوع تدل على ان الانسداد الحاصل في جميع الملفات جعله يتسرع في البحث عن مخرج، وتبرئة ذمته والبروز بمظهر الماسك بزمام الامور و"المنقذ" عند الضرورة حتى لو كان افق مقترحه محدودا دفعه للظهور هذه المرة في تتمة ل"انجازاته" بعد جولته في سوق الفلة والصيحات الممجدة التي تلقاها وايضا بعد تدشينه تمثال الزعيم بورقيبة وحالة الانتشاء التي اصابته، ومن جهة اخرى لالقاء المسؤولية على بقية الاطراف بما قد يفتح له هامشا للتحرك ويسمح له بذريعة يبرر بها فشله في كل مرة. نحن تنبأنا منذ الوهلة الاولى لنتائج الانتخابات ومنذ تشكيل حكومة الحبيب الصيد في هذا المكان بما ستؤول اليه الامور نتيجة غياب المشروع وضعف الرؤيا ومحدودية البرنامج والمحاصصة التي طغت على التشكيلة على حساب الكفاءة، ولكن اليوم البلاد في حاجة الى حلول عميقة وحتى جذرية، الا ان "مبادرة" السبسي الذي تفنن فيها في اثبات ضعف اداء سلطة القصبة يبدو على الغالب انها ستقود الى حالة ارباك كبير في البلاد، فضلا عن انها مخالفة للدستور وبالتالي تفتقد لشرعية "الفاعلية" ولشرعية "الدستور" والمبادر بها اصلا ليس محل اجماع وطني ليلقى التجاوب المطلوب من الاطراف المدعوة. والسبسي الذي القى الفشل (ولو على لسان الاخرين) على الصيد وتشكيلته متبرئا من كل مسؤولية متناسيا كل ما وعد من قضاء على الارهاب وتحقيق الامن واستعادة "هيبة الدولة" وحتى الحديث عن رخاء اقتصادي وتشغيل واستثمار ونمو بارقام خيالية، ويريد اليوم ان يظهر بمظهر الداعي للوحدة الوطنية، يبدو انه تعامى على كونه كان الابرز في تقسيم التونسيين واخرها القرار الفوقي الخاص بتمثال بورقيبة وقبل ذلك مشروع قانون المصالحة المبيضة للفساد الذي خلق فتنة في البلاد واتهامه العلني لاحزاب بالعنف ودخوله في مناكفات وحتى نزاعات مع اطراف سياسية في المعارضة وحتى في حزب نداء تونس الذي تسبب في تفجره بدعمه وانحيازه الجلي لابنه. وبالتالي فهو غير مؤهل للدعوة للوحدة التي هي الاخرى زادت في التقسيم واستثنت واشترطت، والثابت ان المقترح لن يجد تحقيقا بمثل ما عُرض، والسبسي لا يسمح له الدستور باجبار الصيد على الاستقالة وقد يرفض هذا الاخير (الذي ربط بقائه ب"مصلحة" تونس") وقد لا تحصل اغلبية مطلقة (109 نائب) لاسقاطه وسحب الثقة منه في البرلمان خاصة وان النهضة عبر رئيسها في اخر تصريح رفض التخلي عن الصيد وقد لا تعجبه "الخلطة" الجديدة، وحتى ان تم تخلي الصيد تلقائيا فقد تدخل الامور في وضعية ارباك عميق لا احد يعرف منتهاه، اذ التنازع داخل النداء وبين النداء والوطني الحر وايضا مع مشروع تونس وارتفاع التنافر بين الاخير والنهضة بما يجعل التفاهم صعب جدا ان لم يكن مستحيلا حول الحكومة الجديدة ابتداء من رئيسها الى برنامجها الى تركيبتها وتشكيلتها والاسماء والمحاصصة.. واذ لم تتضح كل خلفيات الدعوة التي اطلقها السبسي فان كثير من العوائق التقنية الدستورية ستعترضها فضلا عن التحديات السياسية، وحتى ان تم الامر فستكون الكلفة باهضة وستزيد في الشروخ ولن تحقق المأمول، وقد يعوّل السبسي على اعتماد الفصل 99 بطلب التصويت على الثقة في البرلمان على حكومة الصيد ان فشل الضغط السياسي عليه لتقديم استقالته، وقد يكون عدم تحقق السقف الاعلى للمبادرة الاكتفاء بمجرد تغيير بعض الوزراء غير المناسبين والاستفادة من "شرف المحاولة" وتصدر الساحة والمشهد لمدة طويلة، وتعبئة راي عام للدعم حول مسألة "علوية القانون" في خصوص الاعتصامات في مراكز الانتاج، وايجاد ذريعة لاعادة طرح مشروع قانون المصالحة في نسخته المعدّلة من جديد. ولكن تبقى التحديات القائمة من انهيار اقتصادي في النمو وتدهور قيمة الدينار وعدم تحقيق تنمية حقيقية في الجهات المهمشة واستمرار نسب البطالة العالية وتواصل الانتهاكات لحقوق الانسان والحريات، واستفحال الفساد، وامكانيات حصول اعتداءات ارهابية، والوصول في المرحلة الاخيرة الى اختلال عميق في الصناديق الاجتماعية وخلل في دفوعات الدولة، اكبر من ان يقع مجابهتها بمقترحات مرتجلة متسرعة من رئيس لا يتردد في اثبات انحيازه لاطراف ومناهضة اخرى، ويبدو ان نتائج انتخابات 2014 التي انبنت على خلل عميق لن تسمح باستقرار سياسي يحقق المطالب الاجتماعية الحارقة، وستظل الاضطرابات الاجتماعية المهددة للسلم المدني منتظرة بين الحين والاخر اذا استمر الانسداد الحالي دون حلول جوهرية عميقة!! (*) قانوني وناشط حقوقي Publié le: 2016-06-03 12:35:46