عاجل :وفاة مدرب إماراتي تهزّ تظاهرة القفز الحر في تونس    تفاصيل نسب الزيادات السنوية في أسعار المواد الاستهلاكية..    عاجل/ سقوط طائرة بهذا المطار..وهذه حصيلة الضحايا..    متابعة للوضع الجوي لهذه الليلة..    عاجل/ جريمة مروعة: شابين يقتلان صديقهما حرقا..وهذه التفاصيل..    أخبار النادي الإفريقي .. الشريمي غير مؤهل والصغيّر في جرجيس    غدا انطلاق موسم التخفيضات .. صولد غير جاذب للتاجر والمستهلك!    بتعلة فشل المفاوضات مع المقاومة .. إسرائيل تلوّح باحتلال غزّة    تاريخ الخيانات السياسية (37) تمرّد زعيم الطالبيين أبو الحسين    استراحة صيفية    مع الشروق : صدّقوه... لم ير إبادة ولا مجاعة في غزّة !    أضرار فلاحية في القصرين    رئيسة الحكومة.. مبادرة الإسكوا فرصة مهمّة لتطوير الاستثمار    اللجنة الأولمبية التونسية تحتفي بالبطل العالمي أحمد الجوادي بعد إنجازه التاريخي في مونديال سنغافورة    الترجي الجرجيسي ينتدب المدافع مكرم الصغير    الرابطة المحترفة الاولى - طارق جراية ينسحب من تدريب مستقبل قابس    برنامج الامم المتحدة للمستوطنات البشرية في تونس يطلق "تقييم الهشاشة متعددة الابعاد" لارخبيل قرقنة لتعزيز الصمود المناخي المحلي    سليانة: تحسّن موسم الصيد البري الحالي مقارنة بالمواسم الفارطة    قابس: وفاة شخصين وإصابة 7 آخرين بجروح متفاوتة الخطورة في حادث مرور بالطريق الوطنية رقم 1 بمارث    وزارة الشؤون الدينية تكرم مكتب حجيج تونس    الكاف: تكريم الفنانة صليحة في افتتاح الدورة 49 لمهرجان بومخلوف الدولي    مناضلون من التيار الشعبي يدخلون في إضراب جوع رمزي دعما لغزة من أجل رفع الحصار    نابل: متابعة الوضع البيئي بالجهة وبحث سبل رفع الاخلالات البيئية بمختلف البلديات    عاجل/ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعلن..    وسط حضور قياسي: مرتضى الفتيتي يتألق بمهرجان بلاريجيا الدولي    وزير الشباب والرياضة يُكرّم الجمعيات الرياضية الصاعدة ويؤكد على دعمها    بطولة كرة اليد: الكشف عن الرزنامة .. ودربي العاصمة في الجولة السابعة    الحماية المدنية: 568 تدخلا منها 142 لإطفاء حرائق خلال ال24 ساعة الماضية    وليد الصالحي يمتع جمهور باجة الدولي    واشنطن تحدد هدفا إيرانيا وترصد مكافئة مالية لمن يدلي بمعلومات حوله    زغوان: رفع 163 مخالفة اقتصادية خلال شهر جويلية المنقضي    خزندار: القبض على عنصر مصنف خطير محل تفتيش ومحكوم بالسجن    انفجار يخت سياحي وتسجيل اصابات في صفوف المصطافين..وهذه التفاصيل..#خبر_عاجل    دبور يرشد العلماء ل"سرّ" إبطاء الشيخوخة..ما القصة..؟!    عاجل: وفاة فنان مصري مشهور داخل دار المسنين بعد صراع مع المرض    شنوّا يلزمك باش تاخذ قرض من بنك في تونس؟    مسؤول يوضح: ''لا اختراق شامل لمنظومة التوجيه... والتحقيق متواصل''    عاجل- في بالك اليوم أقصر نهار في التاريخ ...معلومات متفوتهاش    السنة الدراسية على الابواب : معلومات مهمّة لازم يعرفها المعلم و التلميذ    تأكلها يوميًا دون أن تعلم: أطعمة تقلل خطر السرطان ب60%    تُعطّس برشا ومكش مريض؟ هاو علاش!    التراث والوعي التاريخيّ    تواصل فعاليات الإقامة الفنية لمشروع"دا دا" للفنان محمد الهادي عقربي إلى غاية يوم 6 أوت الجاري    جامع الزيتونة ضمن سجلّ الألكسو للتراث المعماري والعمراني العربي    تثمين الموقع الأثري بطينة: تعاون علمي تونسي فرنسي وجهود ترميم متقدمة    زفيريف ينتفض ليُطيح بحامل اللقب بوبيرين من بطولة كندا المفتوحة للتنس    صور أطفالكم على الفيسبوك ؟ شوف القانون شنوا يقول    بارفان ب5 د و على الطريق ؟ رد بالك تضر صحتك و هذا شنوا يستنى فيك    قيس سعيّد: التعليم الوطني هو السلاح الحقيقي للتحرّر    سوسة: سلاحف بحرية مهددة بالاندثار تخرج إلى شاطئ القنطاوي في مشهد نادر    عاجل: زلزال بقوة 5.7 درجات يضرب هذه البلاد    واشنطن تدين قرار وضع الرئيس البرازيلي السابق قيد الإقامة الجبرية    بنزرت/ حجز 5,45 طن من مادة الدلاع وإعادة ضخها في المسالك القانونية..    الصربي ديوكوفيتش يعلن انسحابه من بطولة سينسيناتي الأمريكية للتنس    حملات لوحدات الشرطة البلدية تسفر عن القيام ب 54 عملية حجز    فنان الراب العالمي بلطي يروي قصص الجيل الجديد على ركح مهرجان الحمامات    اكتشاف علاج واعد لأحد أخطر أنواع سرطان الدم    تاريخ الخيانات السياسية (36) ..المعتزّ يقتل المستعين بعد الأمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استقلالية هيئة الحقيقة والكرامة رهان التجاذبات السياسية
نشر في باب نات يوم 10 - 05 - 2017


سهام بن سدرين
تتقدّم العدالة الانتقالية بثبات رغم العراقيل. هذا مكسب لتونس ومحل إشادة على المستوى الدولي، وقد حان الوقت أن يفتخر التونسيون بهذا المكسب. بدل الدفع بقوة بقانون يبيّض الفساد، لعله من باب الحكمة أن يغتنم المسؤولون في السلطة التنفيذية هذه الفرصة لتصحيح توجههم، وأن يشاركوا في إنجاح مسار العدالة الانتقالية. فلا يجب أن يخضع ذلك للحسابات السياسية، حيث لا يوجد طريق مختصر لمعالجة انتهاكات الماضي خارج هذا المسار. وإن كان الميل كبيرا لدى السياسيين للسيطرة على الهيئات المستقلة، فإنه من الواجب حمايتها من أي شكل من أشكال التدخل في تسيير أعمالها أو التأثير على قرارتها، وهي مسؤولية الجميع، لأن ذلك يتعلق بمستقبل الصرح الديمقراطي برمّته.
الاستبداد ليس قضاء وقدر، هذا ما أثبته التونسيون ذات 14 جانفي 2011. وما لا يعلمه البعض هو أن الاستبداد يولد الفساد ويتغذى منه. إن الفساد، الذي يحميه الإفلات من العقاب ويشجّع على انتشاره، هو كالعشبة الضارة التي تنشر سمّها في التربة من حولها.
لم يكن من قبيل المصادفة أن ينص المشرّع التونسي على مكافحة الفساد وتفكيك منظومة الاستبداد والفساد ضمن عهدة هيئة الحقيقة والكرامة المكلفة بتنفيذ العدالة الانتقالية، وهذا بالتحديد ما يميّز التجربة التونسية مقارنة ببقية التجارب.
وليس من قبيل المصادفة كذلك أن أقلية من "الخاسرين في الثورة" ومن المستفيدين من نظام الاستبداد، يديرون حملات ممنهجة ضد الهيئة منذ انطلاق أعمالها وذلك باعتماد أساليب القدح والتشويه بشكل يومي. ولا يغفل عن أحد هوية هذه اللوبيات أو وزنها الاجتماعي الحقيقي.
ورغم هذه الهجمات المستمرة والممنهجة، استطاعت الهيئة كسب ثقة المواطنين حيث أودع 65 ألفا منهم ملفات لديها، ويطالب جميعهم بكشف الحقيقة حول انتهاكات الماضي عبر مسار شفاف للمساءلة أو التحكيم بالنسبة لمرتكبي الانتهاكات الاقتصادية. لقد نجحت الهيئة في قيادة مسار شفاف وآمن وبالخصوص عبر جلسات الاستماع العلنية والتي كشفت عن وجود شرخ كبير في المجتمع التونسي. ولذلك تعمل الهيئة على معالجة الجروح المتراكمة طيلة عقود وذلك عبر مصالحة قوامها كشف الحقيقة وجبر الضرر للضحايا.
في الأثناء، يشكل مشروع القانون المسمّى ب"المصالحة الاقتصادية" الذي قدمته رئاسة الجمهورية منذ جويلية 2015، تهديدا خطيرا على مسار العدالة الانتقالية.
هذا المشروع ليس فقط لا يحقق المصالحة، بل الأخطر من ذلك أنه يطبّع مع الفساد ويحوّل المجرمين لضحايا وذلك بتكريس الإفلات من العقاب والعفو عنهم، وهو ما يؤدي الى إعادة انتاج نفس المنظومة التي اُعلن سابقا عن إرادة مكافحتها.
فلنتساءل، هل مشروع القانون المطروح سيساهم في إعادة الثقة في مؤسسات الدولة وسيحقق المصالحة الوطنية؟ إن قراءة متأنية لنصّ المشروع تكشف بوضوح بأن الرهانات الحقيقية تتجاوز بكثير مجرّد منح العفو لبعض النعاج الضالّة. باختصار، فهو يهزّ الصرح المؤسساتي لدولة القانون.
مشروع يقوم على كذبتين كبيرتين
ماهي الحجج التي يقدمها داعمو مشروع القانون؟ حجتان هما بالأساس:
- الحاجة لانعاش الاقتصاد المتأزم بسبب التتبعات القضائية ضد الموظفين السامين الذين ارتبكوا انتهاكات فساد مالي، وكذلك ضد رجال الأعمال الفاسدين.
- فشل مسار التحكيم والمصالحة في هيئة الحقيقة والكرامة.
ولعله لا حاجة للتأكيد أنه لا توجد دراسة واحدة في العالم استطاعت أن تبين بأن للفساد تأثيرا ايجابيا على النمو الاقتصادي، بل العكس هو الصحيح.
بالامتناع عن مكافحة الفساد، تخرق الدولة التونسية التزاماتها الدولية. حيث تشير توطئة اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي صادقت عليها تونس، لخطورة ما يطرحه الفساد من "مشاكل ومخاطر على استقرار المجتمعات وأمنها، مما يقوض مؤسسات الديمقراطية وقيمها والقيم الأخلاقية والعدالة، ويعرض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر".
إذ تؤكد جميع الدراسات التي نشرت حول تونس بعد الثورة على القول بأن النظام الكليبتوقراطي، أي النظام اللصوصي، القائم في ظل النظام السابق، والذي تنامى بعد الثورة، هو السبب الحقيقي في اعاقة التنمية الاقتصادية. حيث إن نموذج التنمية الذي يرتكز عليه ( المحسوبية، علاقات القرابة بالسلطة ، الريع...)، هي جميعا سبب الأزمة التي نعيشها اليوم. لقد ثبت الآن بأن الفساد هو محرّك آلة الديكتاتورية في تونس. الهدف كان واضحا وهو تحويل ثروات الدولة إلى مجموعة محددة من المنتفعين. فهل الأشخاص الذين استباحوا طوال عقود المال العام، سيقبلون بسهولة التخلي عن امتيازاتهم، ناهيك عن المشاركة في مسار مساءلة يتطلب اعترافا علنيا بالجرائم المرتكبة وإعادة للأموال المنهوبة؟
يؤكد تقرير للبنك الدولي أن "حجم السيطرة على الدولة زمن بن علي كان مهولا، ففي نهاية 2010، استحوذت 220 شركة مرتبطة ببن علي وعائلته على 21 بالمائة من الأرباح السنوية في القطاع الخاص في تونس (أي 223 مليون دولار وهو ما يعني أكثر من 0.5 من الناتج الداخلي الخام). فمجرّد أن تستحوذ مجموعة صغيرة تتكون من 114 شخصية على هذا النصيب الضخم من الثروة في تونس يكشف لأي مدى كان الفساد مرادفا للاقصاء الاجتماعي". وهو اقصاء عدنا لنسمع دويّ صوته مجدّدا.
وتكشف دراسة أخرى للبنك الدولي بتاريخ جوان 2015 ما أسمته "دمقرطة الفساد" بعد الثورة ! فماذا تقترح علينا السلطة لمعالجة هذه الآفة؟ تبييض الفاسدين وإعادة احياء آلة الفساد وأبطالها على رأس الإدارة العمومية، هذا ما تقدمه لنا!
في نفس السياق، سبق وأصدر مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بتاريخ 29 جوان 2015 قرارا بخصوص "الآثار السلبية للفساد على التمتع بحقوق الإنسان ". وجاء هذا القرار في أعقاب الانعكاس، على نطاق عالمي، للعلاقة العضوية بين انتشار الفساد وتعفينه لمؤسسات الدولة من جهة وتفكك دولة القانون من خلال ضعف قدرتها على بسط سلطتها وفرض احترام القوانين من جهة أخرى.
ولقد أنتج هذا التوجه تغييرا في القانون الجزائي من منظور حقوق الإنسان من خلال تغيير عبء الإثبات. حيث بات يُعتبر غياب مكافحة الفساد من طرف دولة ما هو بمثابة اخلال بالتزاماتها لحماية الحقوق الإنسانية الأساسية لمواطنيها. حيث يجب على الدولة اثبات اتخاذها التدابير اللازمة لمكافحة الفساد وذلك ليس بالقول فحسب.
المصالحة المغشوشة والتطبيع مع الفساد
لعلّه من المفيد التذكير بأن المدافعين عن مشروع القانون استغلوا، في الأثناء، حكما قضائيا قاس أدان وزراء سابقين في نظام المخلوع بن علي. حيث إنه في أعقاب اتهامات بأن هذا الحكم هو من قبيل "تصفية الحسابات السياسية" وبأنه يعكس "رغبة في الانتقام"، تم زورا تجريم مسار العدالة الانتقالية. حيث بادعاء ظاهري باحترام استقلالية القضاء، سارعت الوجوه المسيطرة على أغلب وسائل الإعلام، وقد لحقهم سياسيون، في مهاجمة هيئة الحقيقة والكرامة (والحال أن الهيئة ليست لها أي علاقة بالحكم القضائي) ومهاجمة مسار التحكيم داخلها، بل واتهامها بالفشل في تحقيق المصالحة. يدعو هؤلاء للعفو وكفّ التتبعات عن أفعال اعتبرتها المحاكم من قبيل اهدار المال العام، بل ويعتبرون المتهمين بأنهم "نماذج للوطنيين" و"كفاءات" ويتمتعون ب"حسّ عالي للدولة".
إن هؤلاء الأشخاص الذي اختاروا عدم التوجه لهيئة الحقيقة والكرامة وقعوا ضحية النصائح السيئة ممن وعدوهم بالعفو أو بالتغافل عنهم في أقل الأحوال. على خلاف ذلك، كانت ولازالت تمثل آلية التحكيم في الهيئة آلية لمعالجة هكذا وضعيات. حيث توفر هذه الآلية فرصة لإطارات الدولة لإثبات حسن نيتهم والتزامهم العلني بأنهم كانوا تحت ضغط النظام السابق، وينخرطون بصدق في المساعدة على اصلاح الممارسات السيئة التي تورطوا فيها.
إذ يجب على الدولة محاسبة هؤلاء الموظفين العموميين المتهمين ب"قبول بشكل مباشر أو غير مباشر، مزية غير مستحقة، سواء لصالح الموظف نفسه أو لصالح شخص أو كيان آخر، لكي يقوم ذلك الموظف بفعل ما أو يمتنع عن القيام بفعل ما لدى أداء واجباته الرسمية" (الفصل 15 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد).
ولذلك، فكيف يسمح مسؤولون في المناصب العليا في الدولة لأنفسهم بالتجرؤ والقول بأن عديد الإطارات العليا "تخشى الإمضاء على الوثائق خشية التتبعات" من القضاء ! وبأن أداء الإدارة التونسية "تراجع بنسبة 50 بالمائة منذ 2010" بدون التساؤل حول مسؤولياتهم في إدارة الدولة؟ هذه الإطارات العليا، ألا يمكن تعويضها؟ أهذا اعتراف بأنه لا توجد في إدارتنا إطارات نزيهة ووفية تحترم القانون وتقوم بواجبها كما يجب؟
آلية تحكيم فعالة في هيئة الحقيقة والكرامة رغم العراقيل
وفرت تونس وسيلة لإعادة تأهيل أولئك الذين ساهموا في الديكتاتورية والفساد، وهي العدالة الانتقالية. وهي آلية عملية وفاعلة أثبتت نجاعتها في هيئة الحقيقة والكرامة. حيث تم اكساء ثلاثة قرارات تحكيمية بالصبغة التنفيذية، لتصبح قرارات نهائية.
وتهدف لجنة التحكيم والمصالحة لحث أولئك الذين استفادوا أو سهلوا أعمال الفساد، بأي شكل من الأشكال، للتقدم طوعيا وعرض تسوية وضعياتهم عبر آلية التحكيم. وهي آلية محفزة من حيث تعليق الإجراءات القضائية ضد الأشخاص المعنيين وذلك بمجرد امضاء اتفاقية التحكيم والمصالحة.
استقبلت اللجنة 685 طلب تحكيم في ملفات فساد مالي من طرف المكلف العام بنزاعات الدولة بتاريخ 15 جوان 2016، والذي استقال بسبب ذلك بعد يوم واحد تحت ضغط لوبيات الفساد. وقد وجهت اللجنة، بين شهري جوان وديسمبر 2016، دعوات للمكلف العام بالنيابة لمعالجة 986 ملفا بعد عقد جلسات تحكيمية بخصوصها، غير إنه لم يقع التجاوب ولو مع ملف واحد ! في بعض الملفات، بلغت عدد التأجيلات 10 مرات ! كما رفضت الدولة 560 طلبا في التحكيم.
كان يجب علينا أن ننتظر لجانفي 2017 حينما تمت تسمية قاض نزيه على رأس مؤسسة المكلف العام بنزاعات الدولة، وهي مؤسسة حيوية في مسار العدالة الانتقالية، حيث انطلق العمل معه بطريقة فعالة في جلسات تحكيمية وحققنا تقدما في معالجة طلبات التحكيم المقدمة من الدولة بصفتها ضحية في ملفات الفساد المالي. من ذلك التاريخ فقط، انطلقت الهيئة في ابرام الاتفاقيات وفي بدء ضخ الأموال لخزينة الدولة بعد أن يكون قد اعترف المعني بالأمر بارتباكه لواقعة الفساد، وقد اعتذر عنها بصفة صريحة. وقد لا يكون إلا من قبيل الصدفة أن يقع اعفاء هذا القاضي منذ بدء ظهور النتائج الملموسة لتعاونه مع الهيئة ! وبعد ذلك، يدعي البعض افتراءً بأن لجنة التحكيم فشلت في حين أنهم لا يكلفون أنفسهم عناء مجرد السؤال حول إذا ما كان من الممكن للمحكّم أن يعقد اتفاقا والحال أن طرف (وهي الدولة بالنهاية !) ترفض التحكيم من أصله!
الأكثر خطورة من ذلك هو رفض مصلحة الشؤون القانونية برئاسة الحكومة نشر دليل إجراءات التحكيم والمصالحة في الرائد الرسمي، لتحتج لاحقا كتابة الدولة للشؤون العقارية بعدم نشر الدليل وترفض الاحتجاج به كما طعنت لدى القضاء في القرارات التحفظية للهيئة.
منذ تنصيب أعضائها، بتاريخ 9 جوان 2014، لم تجد الهيئة إلا احتفاء محدودا من السلطة التنفيذية، سرعان ما تحول إلى تعطيل ممنهج لأعمال الهيئة: منع من النفاذ لأرشيف رئاسة الجمهورية بعد توقيع اتفاقية للغرض، منع من النفاذ لأرشيف مختلف الإدارات المرتبطة بعهدة الهيئة، ورفض نشر لقرارات الهيئة في الرائد الرسمي، ورفض منح قاعة عمومية لعقد جلسات الاستماع العلنية، ولازالت قائمة التعطيلات والعراقيل طويلة. وفي حين ينص الدستور على وجوب تيسير السلطة التنفيذية لأعمال الهيئة وفي تنفيذ العدالة الانتقالية، لم يشر المخطط التوجيهي 2016-2020 المقدم من الحكومة للعدالة الانتقالية ولا مرة واحدة.
استقلالية الهيئة هي الضمانة الوحيدة لمصداقيتها
آخر الحيل المستخدمة لتشويه الهيئة هو اتهامها بالفساد والمطالبة بتكوين لجنة تحقيق برلمانية حول "الفساد" المزعوم لرئيسة الهيئة ! وما يجرّد الداعمون لهذه الحيلة من توجههم هو استنجادهم بأشخاص هم في الصفوف الأولى في تبييض الفاسدين، وهم من أنصار مشروع قانون ما يسمى "المصالحة الوطنية". يستخدمون هذه الحيلة في حين أن الهيئة نفسها طلبت رسميا من دائرة المحاسبات لإدراجها في برنامجها الرقابي، تأكيدا من الهيئة على الشفافية.
يريدون الإشارة بأن الفساد المنتشر في البلاد يختزل في الهيئة ورئيستها! هذه الحيلة تثير السخرية، ولا مجال لشكّ بأنها تضحك أي انسان عاقل، ولكن يبدو أن عضوة المكتب التنفيذي لحركة النهضة المكلفة بملف العدالة الانتقالية، السيدة يمينة الزغلامي، بدأت تتبنى هذا الخطاب المشيطن للهيئة ، وذلك بدل إقامة الحجة والتساؤل حول صحة عناصر الهذيان الذي يردده دائما عضو معفي.
ليس من الجيد ألا نزن كلماتنا حينما يكون المرء نائبا يسعى لتعزيز العدالة الانتقالية ويريد أن يتمتع بالمصداقية! ولذلك أدعو السيدة النائبة لإعادة قراءة المرسوم الإطاري حول الفساد، والاطلاع على مفهوم هذا المصطلح الذي تستعمله بكل استخفاف، كما أدعوها كذلك للاطلاع على تعريف المصطلح الذي تقدمه منظمة "الشفافية الدولية" وهو "اساءة استغلال السلطة لغاية مكاسب شخصية".
إن محاولة السياسيين ممارسة الرقابة على الهيئات المستقلة هو غير مجدي، وهي محاولة غير مسؤولة. إن نجاعة هذه الهيئات رهينة مسافتها تجاه بقية السلطات، وإلا فإن كل البناء الديمقراطي ينهار ونعود لمربع احتكار السلطة. وعليه لإنقاذ الديمقراطية، من المهم أن تقوم كل مؤسسة بدورها وألا تتدخل في إدارة بقية المؤسسات مهما كان شكل التدخل.
إن استقلالية هيئة الحقيقة والكرامة هي الضمانة الوحيدة لمصداقيتها ولسلامة أعمالها، وهذا ينطبق على أعداء المسار كما على أصدقائه. على الهيئة واجب رفض أي شكل من أشكال التدخل في أعمالها، ولو بشكل ودّي. حيث يبدو أن استقلالية رئيستها بدأت تثير الازعاج. ولذلك يجب أن يعلم الجميع بأن هذه الاستقلالية غير قابلة للتفاوض، وأن أي خرق لواجب الاستقلالية هو بمثابة الخيانة.
لا يجب أن تخضع العدالة الانتقالية للتجاذبات السياسية، فلا يوجد طريق مختصر لمعالجة انتهاكات الماضي. فإما أن نواجه هذا الماضي بشجاعة وبتوفير الوسائل المساعدة على التهدئة، وإما ألا نواجه شياطين الماضي ليواصلوا تهديد السلم الاجتماعية مثلما يحدث اليوم.
رغم العراقيل، يتقدم مسار العدالة الانتقالية، مسنود بدعم شعبي واسع، من أجل تحقيق أهدافه التاريخية.
وإنه من باب الحكمة أن يغتنم المسؤولون في السلطة التنفيذية هذه الفرصة لتصحيح مقاربتهم للمسار، وأن يشاركوا في ضمان نجاحه على نطاق واسع. هي فرصة لاستعادة الثقة تجاه رأي عام لا ينخدع بضغوطات أعداء العدالة الانتقالية.
تتقدّم العدالة الانتقالية بثبات رغم العراقيل. وهذا المكسب محل إشادة على المستوى الدولي، وحان الوقت أن يفتخر التونسيون به.
وليس للمسؤولين السياسيين أي عذر تجاه الشعب لتفويت هذه الفرص الثمينة للعمل من أجل المصلحة العليا للبلاد فوق المصالح الحزبية، ولذلك رجاء اتركوا هيئة الحقيقة والكرامة تقوم بعملها!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.