في عصر أصبح يتميز بتسارع وتيرة الحياة وتعقد مسالكها ظهرت عدة سلوكات ترتبط بالتغير الاجتماعي، بل هي ناجمة عنه وقد لاحظ العديد من علماء الاجتماع من أمثال «إميل دركهايم» وعبد الرحمان بن خلدون وغيرهما أن المجتمع حينما تسوده الكثافة وسرعة الحركة ويتعقد عمرانه وتكثر أعماله وتقسم مهنه وتتطور مشاغله يعرف حالات من التوتر سماها بعضهم باللامعيارية (L'anomie Sociale) أي فقدان المعايير ومن مظاهرها السلوكية انتهاك تلك المعايير وعدم احترام الاعراف والقوانين التي وضعها الافراد أنفسهم وارتضوها حدودا لتنظيم حياتهم اليومية.. هذه الظواهر السلوكية تصل في بعض المجتمعات إلى درجة من الانتشار بشكل يهدد المجتمع إذا ما بلغت من التكرار والتواتر ما يثير تعليق الرأي العام وإدانته وما يشد اهتمام الدارسين والمحللين في الحقلين العلمي والإعلامي.. ومن هذه السلوكات عدم احترام بعض الافراد لقوانين السير ومخالفة إشاراته وضوابطه وهو ما يسمى ب«السلوك اللاحضاري».. المقدمون على هذه الانتهاكات في مجتمعنا عديدو الاصناف منهم بعض الشباب المتنطعين ومنهم بعض الكبار المتهورين ومنهم أيضا بعض «المسؤولين» المخالفين بدعاوي شتى ومنهم المخطؤون وناقصو الثقافة المرورية.. إلخ.. وبقطع النظر عن صنف هؤلاء ومبرراتهم فإن هذه السلوكات التي يستهجنها المجتمع والدولة تعتبر تعديا على الآخر وتهديدا له ثم إن قوانين المرور أصلا وضعت لحماية الآخر و«الأنا» أيضا.. إن تجاوز السرعة المضبوطة قانونيا في المناطق الحضرية وخارج مناطق العمران يعتبر انتهاكا لاتفاق أجمع عليه المختصون وصادقت عليه المجموعة الوطنية وقد روعيت في ذلك عدة جوانب منها طبيعة الطرق ومحيطها وطبيعة العربات والفضاءات وغيرها.. وإذا ما حاولنا في هذا السياق الضيق تحليل أسباب عملية انتهاك قوانين المرور مثلا لوجدنا أنها ترتبط أساسا بمستوى الوعي أي بمستوى نضج المواطن وبمدى تشبعه بمفهوم المواطنة والمواطنة تعني التشبع بمعاني التعايش مع الآخر كما تتضمن قيم التوافق بين الحرية العامة وبين الحقوق والواجبات فضعف الوعي عند بعض الافراد يؤدي إلى انتهاك القوانين ومنها المتعلقة بالمرور على سبيل المثال... يضاف إلى ذلك طبيعة الشخصية وعوامل ومتغيرات أخرى أثبتت الدراسات الاجتماعية والنفسية حضورها في تحليل أسباب ظاهرة انتهاك قوانين المرور منها متغيرات السن والجنس والمستوى التعليمي والوضع الاجتماعي... الخ.. كما لا يمكننا عدم التعرض إلى سبب آخر لا يقل أهمية في تفسير بعض جوانب الظاهرة وهو ضغوطات الحياة اليومية ك(السرعة والقلق والتوتر) إضافة إلى الامكانات المادية لوسائل النقل والطرقات وإشارات المرور وغيرها... ويبدو أن نزعة الانانية المفرطة التي تسربت إلى مجتمعاتنا من خلال النمط الاستهلاكي وقيم العولمة الجشعة تؤثر في انتشار ظاهرة عدم احترام قوانين المرور وبالتالي كثيرا ما تؤدي إلى وقوع الحوادث المرورية فاشتداد مكانة الفرد والقيم المنبثقة عنها يمكن أن تفسر لنا جزءا من هذا المشكل لأن انتشار نزعة الفردانية والرغبة المفرطة في تحقيق المصالح الفردية في فضاء عمومي يشترك فيه هذا الفرد مع الآخرين وقد يتنافس معهم أو يحتك مما يؤدي به في حالات عديدة إلى التعدي على حقوق الآخرين وانتهاك القوانين ويغذي ذلك بعض النواقص في سبل التوعية والمراقبة، وهذا ما يؤدي إلى نوع من السلوك العنيف الذي نلمسه في طريقة سير السيارات وطرق المجاوزة وأساليب استعمال المنبّه... إلخ.. إن مظاهر العنف في الطريق العام، وهي عديدة لفظا وفعلا وإشارة تعبر عن نوع من التوتر الاجتماعي الذي يطبع وتيرة العصر، وهو يعبر عن نوع من اللاتوافق الاجتماعي الذي حول الفضاء العمومي (الطريق العام) إلى حلبة للصراع الاجتماعي، وإن بدا فرديا وعابرا.. فإنه يحمل في طياته مخاطر قد تتحول إلى سلوك عام يهدد بانتشار مظاهر خطيرة على الفرد وعلى المجتمع ككل. وعلى أي حال فإن المقارنة مع مجتمعات أخرى يمكن أن تفيدنا في قراءة وتحليل مجمل هذه الظواهر...