عُثِرَ عليه بالصدفة.. تطورات جديدة في قضية الرجل المفقود منذ حوالي 30 سنة بالجزائر    السلطات الاسبانية ترفض رسوّ سفينة تحمل أسلحة إلى الكيان الصهيوني    عاجل: لأول مرة: تونس تصل المرتبة الثانية ضمن التصنيف الدولي للبيزبول    الديبلوماسي عبد الله العبيدي يعلق على تحفظ تونس خلال القمة العربية    في ملتقى روسي بصالون الفلاحة بصفاقس ...عرض للقدرات الروسية في مجال الصناعات والمعدات الفلاحية    يوميات المقاومة .. هجمات مكثفة كبّدت الاحتلال خسائر فادحة ...عمليات بطولية للمقاومة    فتحت ضدّه 3 أبحاث تحقيقية .. إيداع المحامي المهدي زقروبة... السجن    المنستير .. المؤبّد لقاتلة صديقها السابق خنقا    ارتفاع عجز الميزان الطاقي    رفض وجود جمعيات مرتهنة لقوى خارجية ...قيس سعيّد : سيادة تونس خط أحمر    دخول مجاني للمتاحف والمواقع الأثرية    دغفوس: متحوّر "فليرت" لا يمثل خطورة    وزارة الفلاحة توجه نداء هام الفلاحين..    العدل الدولية تنظر في إجراءات إضافية ضد إسرائيل بطلب من جنوب أفريقيا    تعزيز نسيج الشركات الصغرى والمتوسطة في مجال الطاقات المتجددة يساهم في تسريع تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية للانتقال الطاقي قبل موفى 2030    كاس تونس - تعيينات حكام مباريات الدور ثمن النهائي    الترفيع في عدد الجماهير المسموح لها بحضور مباراة الترجي والاهلي الى 34 الف مشجعا    جلسة بين وزير الرياضة ورئيس الهيئة التسييرية للنادي الإفريقي    فيفا يدرس السماح بإقامة مباريات البطولات المحلية في الخارج    إمضاء اتّفاقية تعبئة قرض مجمع بالعملة لدى 16 مؤسسة بنكية محلية    وكالة (وات) في عرض "المتوسط" مع الحرس .. الموج هادر .. المهاجرون بالمئات .. و"الوضع تحت السيطرة" (ريبورتاج)    طقس الليلة    سوسة: الحكم بسجن 50 مهاجرا غير نظامي من افريقيا جنوب الصحراء مدة 8 اشهر نافذة    القيروان: إنقاذ طفل إثر سقوطه في بئر عمقها حوالي 18 مترا    تأمين الامتحانات الوطنية محور جلسة عمل بين وزارتي الداخليّة والتربية    كلمة وزير الخارجية التونسي نبيل عمار أمام القمة العربية    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    توزر: تظاهرة احتفالية تستعرض إبداعات أطفال الكتاتيب في مختتم السنة التربوية للكتاتيب بالجهة    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    صفاقس تستعدّ للدورة 44 لمهرجانها الصيفي    صفاقس: هدوء يسود معتمدية العامرة البارحة بعد إشتباكات بين مهاجرين غير نظاميين من دول جنوب الصحراء    جندوبة: وزير الفلاحة يُدشن مشروع تعلية سد بوهرتمة    "فيفا" يقترح فرض عقوبات إلزامية ضد العنصرية تشمل خسارة مباريات    هل سيقاطعون التونسيون أضحية العيد هذه السنة ؟    عاجل: "قمة البحرين" تُطالب بنشر قوات حفظ السلام في فلسطين..    106 أيام توريد..مخزون تونس من العملة الصعبة    اليوم : انطلاق الاختبارات التطبيقية للدورة الرئيسية لتلاميذ الباكالوريا    ناجي الجويني يكشف عن التركيبة الجديدة للإدارة الوطنية للتحكيم    سوسة: الإطاحة بوفاق إجرامي تعمّد التهجّم على مقهى بغاية السلب باستعمال أسلحة بيضاء    قيس سعيد يُؤكّد القبض على محام بتهمة المشاركة في وفاق إرهابي وتبييض أموال    المعهد الوطني للإحصاء: انخفاض نسبة البطالة إلى حدود 16,2 بالمائة    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    رئيس الجمهورية يبحث مع رئيس الحكومة سير العمل الحكومي    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    ظهورالمتحور الجديد لكورونا ''فيلرت '' ما القصة ؟    محمد بوحوش يكتب...أدب الاعتراف؟    الأيام الرومانية بالجم . .ورشات وفنون تشكيلة وندوات فكرية    الخُطوط التُونسية في ليبيا تتكبد خسائر وتوقف رحلاتها.    زلزال بقوة 5.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    بطولة اسبانيا : أتليتيكو يهزم خيتافي ويحسم التأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    إصدارات.. الإلحاد في الفكر العربي الإسلامي: نبش في تاريخية التكفير    استشهاد 3 فلسطينيين بنيران جيش الاحتلال في الضفة الغربية    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التوظيف السياسي للإسلام ومظاهر الوحدة والتنوع في مجتمع دمشق خلال الحم العثماني (الجزء الثالث)
نشر في الشعب يوم 01 - 10 - 2011

إنّ الفاعل كما يراه »بارسونز« فردا كان أم جماعة يتجه الى موضوع محدد بالوعي والرغبة، لذلك يركز »بارسونز« إنتباهه على سلوك الفاعل، وعلى الخيارات التي يفترضها كل فعل، لانّ هذه تحدد في وقت محدد اتجاه الفاعل، وشكل الموضوع المطروح، فضلا عن قائمة الخيارات التي تميز كل الافعال.
ومع ذلك فالفرد لا يشكل الجزء البسيط الذي لا يتجزأ بالنسبة الى المجتمعات الانسانية بشكل عام انما يتكون هذا الجزء من الفعل مهما كان نوعه وهو يقوم على أسس حضارية مثل »المعايير والرمو ز والقيم« ودون ذلك لا يمكن ان يكون الفعل مفهومًا، ويميز »بارسونز« بين خمسة خيارات ترتبط بالفعل وهي تشكل جزءا من نظريته، وتكون هذه الخيارات من المقابلات التالية:
العاطفة مقابل الحيادية العاطفية.
الاتجاه نحو الجماعة مقابل الاتجاه نحو الأنانية.
العمومية مقابل الخصوصية.
الأداء مقابل النوعية.
التخصص مقابل الانتشار.
وتأسيسا على ذلك نلاحظ أن »بارسونز« يرمي شكل واضح إلى تأكيد مسألة التوافق بين الاطر المحددة للفعل الاجتماعي والمنظومات العامة للمجتمع ومن خلال الترابط المشار إليه بين المنظومة الحضارية والمنظومة الشخصية، ومن خلال الدور أو الاسهام الذي تؤديه المنظومة الاجتماعية في تأكيد العلاقة بين المنظومتين السابقتين تصبح امكانية قيام الفرد بفعل اجتماعي يخرج عن أطر المنظومة الاجتماعية ولوازم نموها.
وبتحليل عناصر المنظومة التي طورها»بارسونز« يرمي بشكل واضح إلى تأكيد مسألة التوافق بين الأطر المحددة للفعل الاجتماعي والمنظومات العامة للمجتمع ومن خلال الترابط المشار إليه بين المنظومة الحضارية والمنظومة الشخصية، ومن خلال الدور أو الاسهام الذي تؤديه المنظومة الاجتماعية في تأكيد العلاقة بين المنظومتين السابقتين تصبح امكانية قيام الفرد بفعل اجتماعي يخرج من أطر المنظومة الاجتماعية ولوازم نموها.
وبتحليل عناصر المنظومة التي طورها »بارسونز« نتلمس الاصول الفكرية لهذه النظرية، خاصة فيما يتعلق باعمال كل من »ماكس فيبر« و»أميل دركهايم« حيث أكد الاول مفهوم الفعل الانساني، والمعاني الأساسية له المستمدة من الجو القيمي السائد وقد تجلى إثر هذا التوجه في تحليلات »بارسونز« المتنوعة وخاصة في سياق تأكيده على اعتبار الفعل محورا للدراسة من جهة، وفي اطار تأكيده على مسألة المعنى المستمد من المنظومة الحضارية من جهة أخرى، أما ما يخص ارتباط (بارسونز) مع »دٌوركهايم« فيظهر في محورين يكمن الأول في المنحى الوظيفي للفعل حيث يكون الفعل استجابة لمتطلبات وظيفية أساسية مرتبطة بالمنظومة الاجتماعية: والثاني في الدور الذي تؤديه المنظومة الاجتماعية في تحديد العلاقة بين المنظومتين الحضارية والشخصية.
ويلاحظ من التحليل الوظيفي لبنية الفعل ان الدور الذي يمكن ان يؤديه الفرد ضمن النسق الاجتماعي، وفي اطار النسق الديني بشكل خاص يرتبط بمجموعة من العوامل من أبرزها:
1) مجموعة الخصائص العضوية التي تصف الفاعل لحظة ممارسة الفعل، إذ تحدد هذه الخصائص قدرة الفرد على ممارسة فعل من الأفعال دون غيره.
فمن يعاني من ضعف البصر لا يستطيع رؤية الأشياء بالدقة التي يراها غيره.
ومن يعاني من ضعف البنية لا يستطيع مجاراة من هو أقوى منه في ممارسة عمل يقتضي قوة البدن: وكذا الحال في الخصائص المتنوعة الأخرى.
2) مجموعة خصائص الشخصية وهي مجموعة الصفات الوراثية والمكتسبة التي تحدد أشكال استجابة الفرد للظروف المحيطة. فسمات الانفعال والهدوء والانطواد والانبساط تؤثر على شكل استجابة الفرد وطبيعة تفاعله مع الظروف المحيطة، ولا يستطيع الفرد ان يتجاوز خصائصه ليمارس أفعالا مبنية على أساس خصائص شخصية اخرى.
3) مستوى تمثل الفرد للمعايير والقواعد الاجتماعية الناظمة للسلوك في المجتمع، فاحترام الفرد للعادات والتقاليد وتمسكه بما يؤثر في أشكال استجابته، ويسهم في تحديد أنماط الفعل الممارس، وفي هذا المستوى يمكن ان نميّز بين السلوك السوي والسلوك المنحرف، فكل سلوك لا يأخذ بعين الاعتبار هذه المعايير والقواعد يعد انحرافا، وقد تجابه بنقد الأفراد الآخرين وسخريتهم. وقد يكون هذا الانحراف الى درجة تعاقب عليه تلك المعايير بالطرد أو السجن، وحتى القتل ولما كان الأفراد متباينين في مستويات تمثلهم لهذه القواعد فمن الطبيعي ان يأتي التزامهم مختلفا ايضا.
4) مستوى تمثل الفرد للقيم الاجتماعية والأخلاقية، وفي هذا المستوى نجد أن تمثل الفرد لقيم الخير والعدل والمساواة والحرية هو الذي يحدد طبيعة المعايير والقواعد الاجتماعية التي يتمثلها الفرد في ذاته، ويأتي تمثل القيم الاخلاقية ايضا على درجات، فمنهم من يتمثل هذه القيم لتصبح أساس ممارساته، ومنهم من يتمثلها، بدرجات أقل، ويرضى بأن يُنتقص منها شيء عند الضرورة، بدرجات قليلة، فلا تعد بالنسبة اليه أساسا لممارساته الا من حيث الشكل.
وتأسيسا على ذلك نجد ان الدور الذي يمكن ان يؤديه كل فرد من أفراد المجتمع، وفي أي موقع من المواقع التي يشغلها مرتبط بخصائص الفاعلين من جهة، وبمقدار تمثلهم للمعايير والقواعد الاجتماعية، وللقيم الانسانية من جهة اخرى، وكلما كان التمثل عاليا كلما جاء الفعل متوافقا مع المنظومة الاخلاقية والاجتماعية، وكلما كان التمثل ضعيفا جاء الفعل منحرفا، وربما كان من الأفعال التي يعاقب عليها القانون.
ثالثا التطور التاريخي لمدينة دمشق والوظائف الأساسية للبنى المجتمعية فيها
تعد مدينة دمشق، كما هو معروف واحدة من أقدم المدن في الوطن العربي والعالم، وقد تتالت عليها دول وحضارات انسانية متعاقبة احتفظت بآثارها العمرانية التي مازالت قائمة حتى الآن، وتنتشر في معظم أحيائها وشوارعها وطرقها لتعكس مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي شهدته المدينة منذ أقدم العصور، وهي الى جانب ذلك تدفن تحت ترابها الخصب آثر الغزاة والطامعين وهواة الحروب الذين حاولوا النيل من شموخها وكبريائها عبر الأزمنة المختلفة.
وقد أدى احتفاظ المدينة بالمظاهر الحضارية والثقافية للأمم التي جرت عليها وأقامت فيها دولها ونظمت سلطاتها الى جعل ثقافتها ثقافة متنوعة العناصر متعددة الاشكال قائمة بشكل رئيسي على عنصري الوحدة والتنوع ففيها نلاحظ مناطق رئيسية منها وقد استقر بها اتباع الديانة الموسوية منذ ما يزيد عن الألفي عام. ومع ذلك فهم يحتفظون بخصوصياتهم الثقافية والدينية والحضارية رغم التغيّرات الكبيرة التي شهدتها المدينة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع، وينطبق الامر ذاته تقريبا على المناطق التي استقر فيها اتباع الديانة المسيحية الذين احتفظوا ايضا بثقافتهم الدينية والاجتماعية رغم انتشار الاسلام في معظم أرجاء المدينة منذ حوالي (1400) عام.
والى جانب ذلك نلحظ تنوعات اخرى للسكان استمدت عنصرها من الأصول الجغرافية والاجتماعية المختلفة. فبعضهم يتميز عن غيره بأصوله القومية والجغرافية وبعضهم الآخر يتميز بأصوله الاجتماعية والتقسيمات الطبقية اضافة الى من يتميز على غيره بمستوى ارتباطه بالسلطة او بطبيعة العمل الذي يمارسه او الحرفة التي يعمل بها، وكان لهذا التنوع في الواقع الاجتماعي والسكاني وظائفه الحيوية بالنسبة الى السكان، حيث كان على كل فئة من الفئات ان تلتف حول ذاتها لتحقق أمنها وأمن أفرادها كلما تعرضت المدينة لهجوم مهاجم أو عدوان معتد. فيزيد هذا الالتفاف من انغلاق الطوائف على ذاتها، ويجعلها اكثر اعتمادا على ذاتها في حماية نفسها، فغالبا ما كان يأتي هذا الالتفاف استجابة منطقية للتحديات الخارجية التي تأخذ بتهديد الامن العام وتهديد أمن الاحياء كل منها على انفراد، الامر الذي كان يعزز وحدة المشاعر والاحاسيس ذات الاصل الديني بين سكان الطائفة الواحدة، يعزز من وظيفة الدين في حياة الجماعة وينسحب الامر ذاته على العادات والتقاليد والاعراف وغيرها.
أما بالنسبة الى التجمعات غير الدينية فلم يكن الامر احسن حالا، لأن الاعتبار القومي سيكون البديل لذي تعتمد عليه الجماعة في حماية نفسها من الخطر الذي يهدد سكان المدينة احيانا، ويهدد أمنها الذاتي احيانا اخرى، فتزداد مشاعر الولاء ذات البعد القومي، وتسهم في توحيد الجماعات المتجانسة، ويعمل على تكريس مجموعة من القيم والاعراف والتقاليد وغيرها.
وأسهمت مجموعة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تعزيز مظاهر التنوع بين السكان، وخاصة في مجالي الدين والثقافة وتعد سياسة الدولة العثمانية واجراءاتها الادارية في مقدمة هذه العوامل، اضافة الى التحديات الاجتماعية التي أخذت تظهر بين آن وآخر، لتهدد أمن المجتمع، وأمن سكانه، فبرزت مظاهر السطو والسرقة، وقطاع الطرق التي لم يكن ينجو منها الرجال فضلا عن النساء والأولاد، الامر الذي وجد أثاره الواضحة في مظاهر الضبط الاجتماعي لحركة المرأة وخروجها ولباسها وغير ذلك من المسائل المعنية بها.
وتتصف مدينة دمشق بجملة من الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والسكانية أسهمت في تكوينها عوامل تاريخية متنوعة من خلال ما عززته من وظائف للبنى المجتمعية بها، القرابية منها والدينية، والأسرية ويسهم التحليل الموضوعي لتطور هذه المدينة، وللتحديات المجتمعية والأمنية التي تعرضت لها خلال تاريخها الطويل في فهم طبيعة الوظائف التي كانت تؤديها البنى المجتمعية المتنوعة بالنسبة الى السكان بوصفهم افرادا وجماعات تنتظم فيما بينهم روابط وصلات ومعايير تحكم انماط السلوك، ومظاهر الفعل.
فظاهرة التدين التي تميز بها ابناء مدينة دمشق لم تأت من عبث، ولا يمكن فهمها بمعزل عن التطور التاريخي لهذه المدينة، وما جابهته من مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية عديدة، شأنها في ذلك شأن المدن الكبرى في الوطن العربي والعالم الاسلامي، حيث كانت منارة للعلم والثقافة، تخرج منها العلماء والفقهاء والمجتهدون وانتشروا في بقاع واسعة من الوطن العربي، وكانوا رواد العلم والمعرفة، فكانت لمدينة دمشق وظيفة حيوية بالنسبة الى اقطار الوطن العربي عامة، وبالنسبة الى بلاد الشام بخاصة.
غير ان أداء هذه الوظيفة كثيرا ما كان يأخذ أشكالا متنوعة تتوافق مع مصالح السلطة السياسية احيانا، وتتعارض معها احيانا اخرى، فيؤدي الى تعزيز مظاهر التوحد والتعاضد بين السكان، أو تأكيد مظاهر التنوع والتباين تبعا لطبيعة القوى السياسية التي كانت تجتهد كثيرا في توظيف الدين لأغراضها، وصراعاتها، وتبعا لأشكال هيمنة القوى والصلات القائمة بينها.
إن القيم الدينية تشكل مجموعها نظاما وقائيا يحمي المجتمع الانساني من مظاهر الفساد والانحراف ومن عدوان بعض السكان على بعضهم الآخر ومع ان تمثل القيم يختلف بين الافراد باختلاف مستويات معرفتهم ووعيهم وادراكهم، الا ان الدين يجسد في ابعاده المطلقة القيم الانسانية الاساسية المتمثلة بقيم الخير والمحبة والعدل والمساواة، وهي القيم التي تجسد طموحات الانسان وآماله على مدار تاريخه الطويل، لذلك نلاحظ ان تاريخ الاديان يقترن بتاريخ الانسان، وتاريخ سعيه الحثيث الى تحقيق الفضيلة والاخلاق والمساواة والعدالة، وليس غريبا ان نجدهُ شعارا يرتفع في كل أزمة تتعرض لها جماعة من الجماعات لما له من فعال في استقطاب السكان، ولما ينطوي عليه من قيم وطموحات ينشدونها ويأملون في تحقيقها.
والامر الملاحظ ان معتنقي الدين بأشكاله المتعددة يجدون التطابق كبيرا بين القيم الدينية التي يتمثلونها، وبين القيم الانسانية عامة وينطوي هذا التطابق على ضمان حقوق الانسان وتحقيق العدالة والمساواة بين البشر، لذلك يجد كل فرد من الافراد ان اعتناقه للدين لم يأت من قبيل التسليم غير الواعي، انما هو نتيجة لمحاكمته عقلية للوقائع.
محاكمة دفعته الى الايمان، والى الاعتقاد بأن الدين الذي يتمثله في أعماق ذاته هو دين ينشد صلاح الانسان وعمران الارض ويدعو ذلك الى الاعتقاد بأنه في ظل الازمات والمشكلات المستعصية وفي ظل التحديات التي تهدد أمن المجتمع وأمن السكان يزداد الاحساس بضرورة الاعتماد على الدين في اقامة النظام الاجتماعي على اعتبار ان الدين رسالة سماوية الى البشر، مضمونة النتائج اذا ما أخذ بتطبيقها التطبيق الصحيح وتعمل على تحقيق طموحات الانسان وأهدافه ويزداد هذا الاحساس وضوحا عندما تتوالى مظاهر الفشل في طبيعة النظم الوضعية التي يطورها الانسان عبر تاريخه.
ذلك هو واقع مدينة دمشق خلال قرون عديدة مرت عليها، وهي حافلة بالنكبات والتحديات التي كثيرا ما كانت تضع السكان امام أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية متعددة لا يستطيعون تجاوزها بحكم ما لديهم من ضعف في الامكانات والقدرات التي تؤهلهم لمجابهتها وبحكم غياب القيم الاخلاقية والانسانية العامة بين الغزاة والطامعين، وبحكم ظهور فئات من السكان ضعيفة النفوس تتفاعل مع الاجنبي، وتمد له يد العون.
ولم يكن الامر في الريف المحيط بالمدينة احسن حالا مما هو عليه في المدينة، فالضغوط التي كانت تمارسها الادارة العثمانية على الأهالي في استجلاب الاتاوات، والضغوط الاجتماعية التي كان يمارسها قطاع الطرق لممارسة عملية السطو والسرقة جعلت الاهالي اكثر انكماشا على أنفسهم، وأكثر التفافا حول زعمائهم المحليين الذين وجدوا ان التمسك بالدين والعمل على تعزيزه في نفوس الابناء بمثابة الضمانة الاكبر التي تحمي نفوسهم وأملاكهم.
وقد أدى هذا الاحساس الذي اخذ يتزايد بتزايد الضغوط الخارجية والداخلية على حد سواء الى نمو التعليم الديني وتعدد مدارسه في مختلف الاحياء، وانتشرت الطرق الصوفية، وكان لها زعماء ومعلمون تمتعوا بمكانة عظيمة في نفوس السكان على مختلف فئاتهم ومذاهبهم، الى درجة ان مشايخ المهن الذين تعود اليهم صلاحية منح الشهادات الحرفية والمهنية لابد ان يكونوا على درجة من التدين والاخلاق الرفيعة التي يعترف به علماء الدين الاسلامي، ورجال الدين المسيحي واليهودي.
والى جانب النمو المتزايد للمشاعر الدينية بين السكان برزت ايضا مظاهر عديدة للتنوع والاختلاف فنمو التعليم الديني بين أوساط العامة من اهل السُنة جعلهم اقل تسامحا مع المتدينين من اهل الشيعة الذين التفوا بدورهم حول زعمائهم وأخذوا يطورون ثقافاتهم في ضوء العلاقات التي يقيمونها مع المحيط، وربما كانت العلاقة بين الشيعة والسُنة اكثر حدة في بعض الاحيان مما هي عليه بين المسلمين عموما، واليهود مثلا، او بين المسلمين والمسيحيين نظرا لامكانية التحول من مذهب الى آخر، وهو امر ليس بهذه البساطة بين المسلمين والمسيحيين، او بين المسلمين واليهود، وقد أدت سياسة الدولة العثمانية الى تأكيد هذا التنوع، وتعزيز مظاهره عند المذهب الحنفي على انه المذهب الرسمي للدولة، في الوقت الذي كانت فيه الدولة الصفوية في ايران من ابرز الدول المعادية للدولة العثمانية، لذلك كانت الادارة العثمانية تتعامل مع اهل الشيعة بحذر كبير.
في سياق هذه الظروف نمت مؤسسات التعليم الديني في الاحياء المختلفة، وبين الطوائف المتعددة على اعتبار ان الدين كان بمثابة المعيار الاساسي للتفاضل بين السكان، لذلك كان الاندفاع نحو الانضمام الى المدرسة الدينية ظاهرة تنتشر في مختلف الاحياء، وكان التسارع اليها يقترن باحترام وتقدير اجتماعيين كبيريْن، خاصة ان القسم الاكبر من السكان كانوا على درجات منخفضة من التعليم الذي أهملته السلطة العثمانية، ولم تعرف دمشق خلال سيطرة العثمانيين مدارس للتعليم العام بل مدارس للتعليم الديني التي طورها السكان أنفسهم بالتعاون مع السلطات احيانا، ودون هذا التعاون في اغلب الاحيان.
يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.