بقلم خالد مبارك السيدة الوزيرة ، تحية طيبة و بعد ، هناك اليوم في تونس مسارات قضائية في جرائم القتل تحت التعذيب في عهد النظام البائد منها اثنان مستمرّان منذ الثّورة ويخصّان الشّهيدين فيصل بركات و رشيد الشّمّاخي . هما الوحيدان اللذان لهما شقّ داخلي و شقّ دولي ناجز . و إنّي إذ أتوجّه إليكِ في شأنهما فلأنّ المنظومة القضائية بين القضاء العادي و قضاء العدالة الإنتقالية الممثّلة في الدّوائر المختصّة ، يكتنفها غموض قد لا يكون بريئا . فبما أن هيئة الحقيقة و الكرامة أنهت عهدتها ، صارت الدّوائر المختصّة ميدئيّا سيدة نفسها . و لكنّها في نفس الوقت تابعة بالكامل بشريا و لوجستيا لمنظومة النيابة العمومية في المركز كما في الجهات . و بما أنّك بصفتك رئيسةً للنيابة و عضو في الحكومة ، يمكنك تحمّل مسؤوليتك في ما أعرضه عليكِ هنا كمتظلِّم باسم الشهيدين لدى لجنة الأمم المتّحدة ضدّ التعذيب . مع العلم أنّ النظام السابق و الحالي تعاملا معي بصفتي الشّاكي تبعا لانخراط بلادنا بدون تحفّظ في الإتفاقية الأممية ضدّ التعذيب لسنة 1984 و خاصّة الفصل 22 الذي يتيح للأفراد التشكّي إلى اللجنة كضحايا أو ممثّلين لضحايا يدّعون تعرّضهم للتعذيب . و قد أدرْت السّجال مع السلطة بصفتي الفردية تلك منذ 1994 إلى اليوم ، بما في ذلك الفترة التي كنتُ فيها مستشارا أوّلا لرئيس الجمهورية الدكتور منصف المرزوقي بين 2012 و 2015 ، حيث كانت الدّولة العميقة تواصل طغيانها على قضايا الضحايا في مستوى العدلية . انكببْتُ طويلا على الأرشيف الرّئاسي ، حيث اندهشْتث لغزارة الملفات المتعلّقة بالشهيد فيصل بركات . أكثرها يعالِج الشكوى التي رفعْتُها في جنيف . رئيس الدّولة كان يتابع شخصيّا و في أغلب الأحيان كتابيّا كلّ تفاصيل القضية ثم يشير لما يجب عمله أو يحسم بين عديد الخيارات التي يطرحها عليه مستشاروه . في المواقف التي يراها هامّة أو تكتسي خطورة ، يقوم بتحديد مهمّة و أسماء و خطط المكلّفين بمعالجتها و يوم الإجتماع و مكانه . كل ذلك مع الدخول في أدقّ تفاصيل القضية . هنالك تبيّنتً عمق انغماس الدّولة بصفتها تلك في ممارسة التعذيب و في إخفائه و ضمان أن لا يكون فيه تتبّع لأحد أبدا... سارعْت إلى القاضيين المكلّفيْن بالتحقيق في قرمبالية . عرّفْتُ بنفسي و أكّدت بأنني لا أتكلّم كمسؤول في الدّولة بل كمواطن صاحب شكوى دولية جارية و أودّ تقديم ما عندي من معلومات عن كلتا القضيتين لمساعدة القضاء الوطني المتحرّر حديثا حتى تُردّ المظالم إلى أهلها و تعود الحقوق دون حاجة إلى مواصلة تدويل القضيتين . في أوائل 2013 ، نسّقْتُ عملية إخراج رفات الشهيد فيصل بركات بين قاضي التحقيق من جهة و ووفد منظمة العفو الدّولية و الخبير الدّولي درّيك باوندر من جهة أخرى . تمّت العملية في فاتح مارس 2013 و كانت مطابقة لما كنّا نعرفه من أنّ عظام الحوض عند الشهيد ليس فيها كسور ممّا يبعد نهائيا شكليا و واقعيا فرضية حادث المرور التي صاغتها و تمسّكت بها السلطة منذ انطلاق القضية دون أن يصدّقها أحدٌ أبدا ، عكس ما روّج له البعض بعد الثّورة . في تلك الأثناء ، طالت مدّة التشكّي أمام القضاء العادي بين 2011 و 2015 و أُرْهقتْ القضيتان بتدخّل الدّخلاء و تكالب الطّامعين و مناورة القتلة الجلادين ممّا قلب الحقائق حتى صيّروا شهود الإثبات متّهمين فاختلطت الأمور على الناس و لفّ الضّباب القضيتين و ملَّ الرّأي العام ذكرهما وتعاظمتْ عزلة الضحايا . ثمّ خيّر أصحاب الحق الشخصي الشّكلي التّوجّه إلى الدّوائر المختصّة التي أحدثتها هيئة الحقيقة و الكرامة رغم كلّ المحاذير التي كانت تحفّ يهذا الخيار من سنوات منقضية و أخرى آتية مهدورة و التباس في الصلاحيات و تضارب في المرجعيات القانونية و الإدارية ... عرضْت الأمر على اللجنة الأممية منذ انطلاق المسارات القضائية فطلبَتْ متابعة هذا المسار الدّاخلي معلنة أنّها ستنتظر ما نخبرها به من مخرجات عند حصولها لترافقنا بعد ذلك نحو خاتمة يستعيد بها الضحايا اعتبارهم و كامل حقوقهم أفرادا و عائلات . أو هكذا تمنّينا ... .و لكنّ اللاّفت في كلّ ذلك ، سيدتي الوزيرة ، هو غياب الجانب الدّولي ، بل تغييبه المقصود و المفضوح ، في كافّة الأعمال التي قام بها القضاة الجالسون. ومن ذلك طبعا عدم توجيه الدّعوة إليّ حتى كشاهد ، رغم اقتناعي بأني مخوّل للتشكّي كواحد من أصحاب الحق الشخصي بموجب التكليف الرسمي من الضحايا و اعتراف السلطة بمسار اللجنة الأممية منذ 1994 . كما أصرّت الهيئات التي نظرت في القضية على التعامل مع الأطبّاء كمتّهمين دون الإستماع إليهم . فلمّا جاءت الدّوائر المختصّة واصلتْ تجاهلهم فلم يعودوا حتى يتلقّون استدعاءات للجلسات . حتى كانت جلسة 26 جوان الأخير ، حيث تمّت المناداة على الطبيب الصادق ساسي على أنه "منسوب إليه الإنتهاك" و هو الذي شرّح فيصل بركات و رشيد الشماخي . لم يبلغْه الإستدعاء الرّسمي و القانوني بل علم بالجلسة بوسائله الخاصّة . و بطبيعة الحال لم يصلني أنا بدوري أيّ إعلام و لا استدعاء أبدا . ما زالت القضية تمطَّط و تؤجَّل حتى يموت أهالي الضحايا و تسقط القضيتان من الكِبر و الخرف . و ذاك حال قضية فيصل التي تأجّلتْ إلى شهر أكتوبر أي ذكراها الثلاثين . السيدة الوزيرة ، هذا التعاطي مع أهمّ قضيتَيْ تعذيب في عهد ماقبل الثّورة لا يشرّف دولة الثّورة التي لم تسْعَ لتجاوز المظالم . وبما أنّ كلّ الآجال المعقولة في العُرْف الدّولي وقع تخطّيها بسنوات فإنّي مضطرّ لإعادة القضية إلى اللّجنة الأمميّة مع عرض لواقعها منذ 2013 إلى اليوم و التّأكيد على أنّنا استنفدنا كلّ سبل التظلّم الدّاخلي مع الدّولة التونسية دون جدوى ، ممّا يعني أنّ الدّولة إياها تمادت في خرق الإتفاقية الأممية ضدّ التعذيب ممّا يوجب توجيه إدانة جديدة لها تتضمّن إضافةَ الفصل 14 من الإتفاقية الذي ينصّ على حق الضحايا في التعويض المادّي و الأدبي ، و هو الفصل الذي لم يُعْتَمدْ في حكمِ 10 نوفمبر 1999 . ذلك الحكم الذي انبنى على الصّلاحيات الواسعة التي يتمتّع بها و زير العدل كمسؤول مسيِّرِ للنيابة العمومية . أنتِ لم تكوني هنا يومها و لكنّك الآن تستطيعين فعل الكثير لجبر خاطر و ضرر الضّحايا و وضع حدِّ للماساة بما يشرّفك و يحفظ سمعة الدّولة الحالية . و تقبّلي سيدتي الوزيرة فائق احتراماتي . خالد مبارك