وادي مليز: منشأة مائية على مستوى وادي الرغاي لفك عزلة منطقة الدخايلية    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    تونس تطلق أول دليل الممارسات الطبية حول طيف التوحد للأطفال والمراهقين    ممرض ألماني أنهى حياة 10 مرضى... ليخفف عبء العمل عليه    الأولمبي الباجي يعلن عن تاهيل لاعبيه هيثم مبارك وفراس المحضاوي    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    5 أخطاء يومية لكبار السن قد تهدد صحتهم    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    مدير ديوان رئيسة الحكومة: قريباً عرض حزمة من مشاريع القوانين على البرلمان    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    المنتخب التونسي للبايسبول 5 يتوج ببطولة إفريقيا    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    خطير: النوم بعد الحادية عشرة ليلاََ يزيد خطر النوبات القلبية بنسبة 60٪    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    خروج قطار عن السكة يُسلّط الضوء على تدهور البنية التحتية للسكك الحديدية    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    اختتام الدورة الثالثة للمهرجان الوطني للمسرح التونسي "مواسم الإبداع": مسرحية "الهاربات" لوفاء الطبوبي تُتوّج بجائزة أفضل عمل متكامل    الجزائر.. الجيش يحذر من "مخططات خبيثة" تستهدف أمن واستقرار البلاد    شوف وين تتفرّج: الدربي ومواجهات الجولة 14 اليوم    التشكيلات المحتملة للدربي المنتظر اليوم    الأربعاء المقبل / إطلاق تحدّي " تحدّ ذكاءك الاصطناعي" بالمدرسة العليا للتجارة    النواب يناقشو مهمة رئاسة الحكومة: مشاريع معطّلة، إصلاح إداري، ومكافحة الفساد    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    مالي: اختطاف 3 مصريين .. ومطلوب فدية 5 ملايين دولار    تشيلسي يصعد لوصافة الدوري الإنجليزي بالفوز على وولفرهامبتون    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    منخفض جوي وحالة عدم استقرار بهذه المناطق    بطولة القسم الوطني أ للكرة الطائرة: نتائج الدفعة الثانية من مقابلات الجولة الرابعة    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    عماد الأمن الغذائي والمنظومة الإنتاجية .. الدعم لإنعاش الفلاّح وإنقاذ الفلاحة    الدورة 44 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب: 10أجنحة تمثل قطاع النشر التونسي    من كلمات الجليدي العويني وألحان منير الغضاب: «خطوات» فيديو كليب جديد للمطربة عفيفة العويني    دعوة الى رؤية بيئية جديدة    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    عاجل: من مساء السبت والى الأحد أمطار رعدية غزيرة ورياح تتجاوز 90 كلم/س بهذه المناطق    البنك المركزي: نشاط القطاع المصرفي يتركز على البنوك المقيمة    الدورة الاولى لمهرجان بذرتنا يومي 22 و23 نوفمبر بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس    هام/ الهيئة الوطنيّة للوقاية من التعذيب تنتدب..#خبر_عاجل    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    بايدن يوجه انتقادا حادا لترامب وحاشيته: "لا ملوك في الديمقراطية"    جلسة عمل بوزارة الصحة لتقييم مدى تقدم الخطة الوطنية لمقاومة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية    أمطار بهذه المناطق خلال الليلة المقبلة    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تونس: ديمقراطية حررت القول و شلت الفعل
نشر في باب نات يوم 18 - 02 - 2022


المهدي الجندوبي
عرفت تونس عشرية غير معهودة لكل من يشتغل أو ينشغل بالسياسة، مكنت كل القوى التي واجهت سلطة الاستقلال بزعامة الرئيس الحبيب بورقيبة و نشطت الحياة السياسة في تونس ﻣﻨﺫ نهاية الستينات و دفعت الثمن باهضا لممارسة مواطنتها و تألق بعضها في مناهضة الرئيس بن علي ﻣﻨﺫ التسعينات و على طوال عشريتين من حكمه، من ممارسة السلطة و ان جزئيا و من لعب دور ما حتى من خارج السلطة للتأثير على مجريات الأمور.
...
و تحصلت تلك القوى بعد الثورة على حرية التنظم و كانت مطلبا صعبا رغم بداهته اليوم و تنافست ديمقراطيا في سلسلة من الانتخابات التعددية رغم ما شابها من نقائص لا تغيب عن انتخابات في العالم، و تحررت الصحافة و تجسم مبدأ حرية التعبير و تحولت السياسة الى اهتمام رئيسي للمواطنين بينما كانت مشغل نخبة النخبة سابقا و أبسط دليل على ﺫﻟﻚ العدد القليل من المتعلمين و المثقفين اﻟﺬين كانوا يدفعون 500 مليم لاقتناء جريدة الموقف الأسبوعية (التي كان يصدرها حزب التجمع الاشتراكي التقدمي برئاسة الأستاﺫ أحمد نجيب الشابي ) آخر معاقل الحركة الديمقراطية في الداخل قبيل الثورة مع عناوين معدودة أخرى مثل الطريق الجديد لحركة التجديد(الحزب الشيوعي سابقا ) او جريدة الشعب التي يصدرها الاتحاد العام التونسي للشغل.
و لعبت وسائل الاعلام المرئية و الاﺫاعية العامة و الخاصة عبر برامجها السياسية المتعددة، دورا جوهريا في توسيع رقعة الاهتمام السياسي ضمن مختلف الشرائح الاجتماعية بعد الثورة و اصبح مصطلح "البلاتو" ،هذا الفضاء الجديد اﻟﺬي يجمع السياسيين و الفاعلين في الحياة العامة حول منشط أو أكثر، مألوفا عند الجميع.
الديمقراطية حلم أجيال متعاقبة من الستينات
لكن الأهم، فشلنا فيه جماعيا و ظل الوصول الى الحكم هدفا في حد ذاته و انشغلنا بمن يولى و من يعزل و شغفنا بمن يفاخر بنضالاته و من يذنب ولاءاته السابقة او "المسترابة" و مللنا من عرض عضلات شخصيات عامة تورمت نرجسياتها، لأن وسائل الاتصال تفاقم و تضاعف الجميل و القبيح في غفلة عن أصحابها، و عجزت السياسة أن تتحول الى فعل جماعي يقاوم العوز الاجتماعي و يبني و يوفر الشغل و يصلح المؤسسات و يدعم الانتاج و المنتجين و يصنع الأمل.
و بقيت الطرقات الى اليوم تتلقى الأتربة كأنها مزبلة في الهواء الطلق و السيارات في قلب العاصمة تخرق الضوء الأحمر عند غياب العون في استهتار صارخ، وبقي الانقطاع الدراسي يشمل سنويا حوالي 100 ألف تلميذ و بقيت شريحة عريضة من المواطنين لا تجد في قياداتها المنتخبة و الشرعية الجهة التي تستمع الى مشاغلهم و تترجمها الى حلول عملية ملموسة يرتاح اليها المواطن لأنها تغير فعليا واقعه اليومي ، و هذا قليل من كثير.
اقرأ أيضا: حتّى لا يكون العنف شكلا من السياسة
كانت الديمقراطية حلم أجيال على طوال عشريات ما قبل الثورة، لكنها بعد الثورة تحولت الى تجربة تاريخية موضوع تقييمات و قراءات عديدة و متناقضة لكنها عند قسم لا يستهان به من المواطنين أصبحت "مقرفة" و فقدت جاﺫبيتها و هذا معطى سياسي جديد لا يمكن اغفاله و يجب التعامل معه بكل تواضع و انفتاح لمن يرى في نفسه ابا مؤسسا لهذا الصرح الديمقراطي المتداعي و لمن يرغب في مستقبل أفضل.
ضاع الوهج الديمقراطي الشعبي الذي لمسناه في طوابير ستة دورات انتخابات ناجحة نظمتها تونس بإمكانيات محلية مقتدرة و حضور مراقبين دوليين، و لمسناه في صورة هذا الاصبغ الموشح بالحبر الانتخابي الذي حرص المواطنون على تداوله بفخر في صورهم المنشورة عبر صفحاتهم الاجتماعية غداة مغادرتهم الخلوة الانتخابية، و تم اختزال السياسة في مؤسسات فقدت عقيدتها الديمقراطية و تبخر وهجها الجمهوري، و غرقت في طقوس قانونية و اجرائية صعبت على الخبراء فما بالك بالمواطن، و ابتلعت موارد مالية كافأت جيشا من موظفي الديمقراطية السامين، في دولة شحت مواردها و تضاعفت ديونها و مازال أبناؤها التلاميذ في الريف يشربون الماء من الصهاريج الصدئة.
و شبع الجميع بصراعات صلاحيات أجهزة ديمقراطية مفرطة التعقيد، تسمح لكل واحد بمراقبة الآخر، لكنها تضع الجميع أمام العجز الصريح على الفعل.
اقرأ أيضا: جحا في "جبهية" الى رياس تونس
و اليوم مهما اختلفت المواقف فهناك اتفاق شامل أن حركة 25 جويلية 2021 وضعت سطرا نهائيا لعهد ما بعد دستور 2014 و فتحت مرحلة جديدة. و ما كانت لهذه الحركة أن تجد هذه السهولة النسبية لو لم تكن المؤسسات متداعية و فقدت مكانتها في قلوب و عقول المواطنين قبل أن يوجه اليها الرئيس قيس سعيد رصاصة الرحمة في 25 جويلية 2021 ليلا في نهاية يوم انتفاضة مصغرة عمت تراب الجمهورية.
نقد السياسات أو نقد المنهج و أساليب العمل؟
أين مواطن الخطأ؟ لماذا ابتهج قسم من التونسيين، قد نختلف في تقييم حجمه لكنه قسم معتبر، لهذه الاعلانات المتوالية و المتدرجة في قبر "مؤسساتهم الديمقراطية" الواحدة بعد الأخرى بمراسيم رئيس دعا الى انتخابه سنة 2019، جل من هم الآن يقاومون أو يعارضون قراراته و صوت له التونسيون بنسبة الثلثين من الناخبين و تواصل مختلف أرقام سبر الآراء تأكيد ما يجده من دعم عند قسم واسع من المواطنين؟
بقطع النظر عن خطوط الاصطفاف الجديدة من "يساند" الرئيس و من "يعارضه" أو "يقاومه" و من يسانده "نقديا" أو مرحليا في انتظار ما سيلحق، هناك حاجة ملحة كما عبر عن ﺫﻟﻚ الأستاذ جوهر مبارك أستاﺫ القانون الدستوري و مؤسس حركة دستورنا بعد الثورة و ناشط حاليا ضمن "حركة مواطنون ضد الانقلاب"، اﻟﺬي أعلن عن تنظيم "مؤتمر وطني للبديل الديمقراطي" مطلع "الربيع القادم"، في شكل "ورشة عمل" تجمع كيانات سياسية رافضة "لانقلاب 25 جويلة" مطالبا الجميع "بقراءة نقدية للعشرية" لا تسقط في "قراءة عقابية" تتنكر للمكتسبات الديمقراطية، وصولا الى وثيقة تأليفية تكون مرجعا لنشأة "جبهة سياسية" جديدة.
مسؤولية تقييم العشرية و نقد التجربة الديمقراطية التونسية تتجاوز السياسيين و الفاعلين في الحقل العام و هي عمل مشترك يمكن لكل مواطن أن يساهم فيه بإيجابية بقطع النظر عن التموضع السياسي. كتب الكثير عن مسؤولية "الطبقة السياسية"، و عن دور كل من "حكم تونس" أكثر من غيره إشارة الى حزب النهضة و حزب المؤتمر و حزب التكتل و حزب نداء تونس بالأساس و مواقفهم و صراعاتهم و رهانات زعاماتهم و خياراتهم و قوانينهم العديدة. و تناولت جل التقييمات البرامج و التحالفات و التكتيكات التي تميز بها كل من الأطراف الرئيسية التي صنعت السياسة التونسية في العشرية الماضية.
لكن هناك زاوية أخرى "للنقد البناء" تستحق التوقف و هي أساليب التفكير و العمل السياسي التي لا تنفرد بها جهة معينة لكنها في الغالب تمثل قاسما مشتركا للكثير من الفرقاء اﻟﺬين يختلفون في طروحاتهم و مواقفهم لكنهم يتشابهون في نظرتهم الى عمل السياسي و في تصوراتهم لدور المؤسسات و يتقاسمون مفاهيم متقاربة تحدد ادراكهم لدورهم و أساليب انخراطهم في الشأن العام.
فلنترك "الأخطاء السياسية" البرامجية جانبا، و نتوقف عند بعض علامات الأخطاء المنهجية التي ساهمت في هذا "المأزق الديمقراطي" اﻟﺬي أدى بالتونسيين الى حالة من "الياس الديمقراطي" بعد أن صبروا على نخبتهم و تعلموا منها بتواضع عبر اصرارهم على متابعة برامج الحوارات السياسية، و منحوها ثقتهم المتجددة و دفعوا لبعضهم الكثير من مالهم العام الزهيدة مدخراته، لدفع رواتب مناصبهم السامية و منافعهم المرافقة لمسؤولياتهم و لم يبخلوا عليهم بالمكاتب الفاخرة و بالسيارات و قصاصات البنزين المجانية، لكنهم في النهاية قاربوا الشك و الاحباط و طال انتظارهم لحقهم في الرفاه. و ما قيمة السياسة اذا عجزت على توزيع الرفاه؟ و هل رأيتم في العالم سياسيا يدعو الى غير رفاه مواطنيه مهما اختلفت البرامج و الأساليب؟
"النقد البناء" في مقابل "النقد العقابي"
هل "النقد البناء" موقف سياسي تكتيكي ظرفي او هو موقف علمي و أداة فكرية نفهم بها واقعنا و نواجه بها مشاكلنا؟ فغياب "النقد البناء" و سيطرة "النقد الانتقائي"، أي أن أنقد خصومي و عيني كليلة على أحبائي، هو نمط تفكير تونسي عريق في أساليبنا السياسة و تسبب لنا في خسارة لا تحصى و مضيعة للوقت و للتجارب التي تتعاقب من غير تراكم لأن اللاحق لا يتردد في فسخ السابق و قبره "بحشيشو و ريشو" كما نقول في تونس من غير تمييز بين الغث و السمين.
غاب "النقد البناء" بعد 1969 عندما أوقف الزعيم بورقيبة تجربة التعاضد، بعد بوادر تململ اجتماعي و تم سجن صاحبها الوزير المصلح أحمد بن صالح و تلت سنوات خيار ليبرالي اقتصادي نسف تماما الفكرة التعاضدية كنمط للنشاط الاقتصادي غير الربحي وهي فكرة تمارس اليوم و ان كان بصفة هامشية، في بعض البلدان الليبرالية مثل كندا. و عدنا في تونس سنة 2020 أي بعد نصف قرن، الى شيء يقارب هذه الفكرة عندما تم اقرار قانون الاقتصاد الاجتماعي و التضامني و خسرت تونس تراكم تجربة و خبرات كانت يمكن أن تكيف و تطور التجربة التعاضدية على طوال 4 عقود تقريبا و تساعد على مواجهة وضعيات الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة.
غاب "النقد البناء" نهاية الثمانينات عند الغاء "بحجة سوء الاستعمال"، صندوق التنمية الثقافية اﻟﺬي أسسه وزير الثقافة البشير بن سلامة مطلع الثمانينات بدعم من الوزير الأول محمد مزالي المحب للآداب و صاحب مجلة الفكر الثقافية، و كان يمول من ضريبة بسيطة متأتية من استهلاك الكحول و هدفه دعم المنتج الثقافي و ساهم في شراء العديد من الكتب التونسية و هي مساعدة ثمينة للكتاب و لدور النشر.
و بعد الشعور بالفراغ تم الرجوع سنة 2013 الى صيغة مقاربة تحت مسمى صندوق التشجيع على الإبداع الأدبي والفني (الأمر عدد 3201 لسنة 2013 المؤرخ في 31/7/2013 )، لكن الصيغة الأصلية بقيت مطلب أهل القطاع نجد صداه في ندوة المندوبين الجهويين للشؤون الثقافية في سبتمبر 2020، الذين طالبوا "باسترداد صندوق التنمية الثقافية". و ضاعت حقبة تغطي عقدين غيبت فها مؤسسة أقبرت بعد غياب صاحبها و سيطرة "النقد العقابي".
غاب "النقد البناء" في مطلع سنة 2011 و على طوال العشرية الأولى بعد الثورة في التعامل مع ارث النظام السابق و هي حقبة تمتد على 60 سنة و في حقبتين حقبة الزعيم بورقيبة و حقبة الرئيس بن علي، فسمعنا عبارات و أحكام قاطعة مثل "خراب" و "نظام لا يصلح و لا يصلح" بالفتحة و الضمة، في تداخل و غموض بين مستويات مختلفة مثل النظام و السلطة و الدولة و المواطن الموظف السامي الذي يعمل أو يتعامل مع النظام/السلطة، أما الشخصيات التي تولت مسؤوليات فاعتبرت أزلام و بعضهم أقبر رمزيا و هو حي يرزق.
و بلغ الغلو الى الحكم ب"الاعدام" على "لبيب" أيقونة البيئة في مطلع العشرية السابقة و سعدنا بعد أن أرجعت وزارة البيئة الاعتبار الى أيقونة "لبيب"، و هذه ليست طرفة أو جزئية لأن خبراء الاتصال يعرفون أن الاشتغال على أيقونة و تحويل رمز الى صورة ذهنية معهودة تحمل فكرة على مستوى جماهيري، ليس عملا هينا و من الخفة تضييع رمزية ايقونة دخلت عالم الأطفال و الكهول و تم الاشتغال عليها و ترسيخها طوال عقدين.
و يغيب اليوم مجددا "النقد البناء" بعد 25 جويلية 2021 في الحكم على "عشرية الثورة" من دون التمييز بين غثها و سمينها. فكما قطعت تونس مع التعاضد من غير قدرة على تصحيح الخطأ و المحافظة على الايجابيات و كما قطعت الثورة مع النظام السابق من غير التمييز بين الأخطاء و المكاسب الجماعية لأن التونسيون بقطع النظر عن النظام الحاكم يبتكرون و يعملون، نرى اليوم من يدعو الى القطع مع منظومة ما بعد "الثورة المغدورة" من غير التأني لتثمين المكتسب و تصحيح الخطأ و نسقط في ما يسميه المثل الفرنسي إلقاء الجنين مع الماء الوسخ للحمام Jeter le bébé avec l'eau du bain .
النقد البناء عندما يغيب او عندما يستعمل كتكتيك سياسي انتقائي، يتحول الى أسلوب عمل سياسي مكلف لأنه يعطل مكاسب أو يلغيها و يترك مفاسد و يغض الطرف عنها وعندما نقتنع بجدواه كأسلوب علمي فهو يفتح الأفق و ينير السبيل.
ديمقراطية عطلت القرار
الآليات الديمقراطية التي وضعت في تونس بعد الثورة بقطع النظر عن حسن النوايا و سمو الأهداف، متعددة و معقدة أدت الى بطء شديد في القرار و الاجراءات بل كادت تؤدي الى تعطيل القرار و تعجيز "صاحب السلطة" بل "أصحاب السلطة" (نذكر كلنا مسلسل "الرئاسات الثلاث" مطلع سنة 2021 و ملف الوزراء السبعة الذين اقترحهم رئيس الحكومة و زكاهم مجلس النواب و رفضهم رئيس الجمهورية)، تحت غطاء الحرص على الحوكمة و الترشيد و الرقابة بكل مستوياتها و التوقي من الأخطاء و من زيغ الحاكم و هي تجربة تاريخية مريرة عاشتها تونس، و هذه معادلة تستحق التفكير: كل سلطة شرعية منتخبة يجب ان تكون قادرة على الفعل و الانجاز بقدر ما يجب ان تعمل ضمن القوانين و الأعراف.
منظومة الحكم الجديدة بعد 2014 أفرطت في السعي الى أخذ الأفضل من تجارب دولية من غير الاهتمام الكافي بالبيئة الفكرية و الاجتماعية و تاريخية كل تجربة سياسية لأن المؤسسات لا تغرس اعتباطا و لا تنقل تعسفا من مناخ فكري و اجتماعي الى آخر، لكن النتيجة أوصلتنا الى ألة جميلة على الورق عاجزة على الحركة في محك الواقع. فما هو السبيل الى تحقيق هذه المعادلة الصعبة؟ الاجابة عند العلماء و أهل الخبرة. ما أعرفه أن العديد من خبراء النظم بكل أشكالها يوصون دائما بالبساطة و التبسيط و يحذرون من التعقيدات المفرطة. و البساطة ليست السطحية و السذاجة، لكنها أساس النجاعة و احدى شروطها.
تعقيدات آلة الحكم في تونس أدت بكل من ينالهم شرف إعتلاء كرسي المسؤولية الى تضييع بوصلة معادلة القول و الفعل و خطورة ذلك عند مخاطبة المواطنين فأصبح أحيانا القول بديلا عن الفعل و صعبت الأعمال و الأفعال أو انتفت و تعطلت القدرة على الانجاز و تباعدت أزمنة القرار و التنفيذ و لا حظ الناس الفرق بين ما يسمعونه في بلاتوهات التلفزة/الاذاعة، و ما يرونه على أرض الواقع.
مؤسسات ديمقراطية مكلفة
المؤسسات لها وظائف و مهام و أدوار و هي تستند الى مبادئ و مفاهيم مثل مفهوم "استقلالية القضاء" أو مفهوم "التعديل" أو "الحق في النفاذ الى المعلومة" و غيرها، لكن المؤسسة لها جسم ينظمه القانون و آليات و توظف لها موارد مادية و بشرية.
السؤال المطروح على ضوء تجربة عشرية الديمقراطية التونسية هل المراوحة بين الوظيفة و المبدأ من جهة و بين الجسم و الآليات و الموارد اللازمة من جهة أخرى، أوصلتنا الى أفضل صيغة لتتحقق الوظيفة باقل عبء ممكن على المجموعة الوطنية في ظل شح الموارد و الحاجات المتعددة و الملحة التي يجب أن ترصد لها أموال الدولة، أم هل وقع رصد مفرط لإمكانيات وضعت تحت تصرف "أجهزة ديمقراطية" متورمة، كانت من الأفضل، أن ترصد في الصحة و التعليم و نوادي الأطفال و غيرها من الضروريات؟.
هذه الآليات مكلفة لأن كل هيكل و كل مؤسسة لها اشتراطاتها من الكوادر و المباني و من الأموال المرصودة في بلد يشكو شح الموارد و هناك فرق بين الهدف و الغاية النبيلة و الآليات القانونية و الاجرائية لتجسيم هذه الغاية.
على سبيل الذكر الهايكا كجهاز"تعديلي" نشأت من فكرة نبيلة و هي تجنب سطوة القرار السياسي على وسائل الاعلام السمعية و البصرية خدمة للصالح العام و حق المواطن في اعلام تعددي و متوازن اضافة الى تنظيم توزيع طيف الذبذبات. و السؤال المشروع اليوم: على طوال اشتغال الهايكا كم مليون دينار تم تخصيصها لتغطية نشاطاتها و كم موظف تمتع براتب و منحة و منافع لأداء المهمة على طوال سنوات نشأتها الى اليوم؟ و كم تكلفة المبنى و المكاتب؟
و في المقابل ما هو أهم ما انجزته الهايكا: اعطاء تراخيص بث للقنوات الجديدة و تسوية وضعيات القنوات القديمة و تطوير خبرة تتعلق باحترام قيم اخلاقية و مهنية و الحرص على التعددية و الالتزام بنص و روح قانون الانتخابات لإدارة الحملات الانتخابية و تطوير خبرة علمية في متابعة البث و رصده و توزيع خطايا لمن يصر على عدم الالتزام بالقوانين و الاعراف المهنية. كل هذا مفيد و لازم لكن هل هذه المهمات النبيلة تستحق هذا الحجم من الميزانيات المتعاقبة و المباني المسخرة؟ هل كان يمكن ان نتصور نفس المهام بآليات اقل ثقل من ناحية استهلاك الموارد؟ يعود لكل المسؤولين ضمن الهيئة اليوم مواجهة مثل هذه الأسئلة بكثير من الشجاعة و هم أدرى من غيرهم لأداء هذه المهمة لكن عليهم هم و من يحسم في توزيع النهائي لأموال المجموعة الوطنية، وضع نصب أعينهم ندرة موارد الدولة بصفة عامة.
أخذت مثال الهايكا لكن الكثير من المؤسسات الدستورية و الديمقراطية تحتاج الى مثل هذا التساؤل حول معادلة المهمة و الموارد في بلد فيه مدارس ابتدائية تتزود بالصهاريج الصدئة و فيه أطفال يمشون كيلومترات قبل الوصول الى مدرستهم و فيه دور ثقافة تنتظر كمبيوتر او كاميرا لنادي السينما و غيرها من التجهيزات.
الخلاصة التي لا يجب التفريط فيها مستقبلا هي وجوب حضور خبير مالي و اداري في كل لجنة تعد قانونا لبعث مؤسسة مستحدثة، ليكون المنبه لبقية الخبراء حول تكلفة كل مؤسسة ينتظر بعثها، و يقلص من هذا "التورم المؤسساتي" المكلف على المجموعة الوطنية و حسن النوايا لا يعفي من واجب الحرص على التوفير.
و اليوم تعتزم رئاسة الجمهورية بعث "مؤسسة فداء" لرعاية جرحى الثورة و هي فكرة اجتماعية نبيلة فيها انصاف لمن ظلموا لكن من الأفضل تجنب بعث هياكل جديدة تضاف الى هياكل متواجدة، اذ ستبتلع مصاريف تسيير الهياكل المستحدثة قسما من الموارد التي سيحرم منها المستفيدون الأصليون للبرنامج و هذا توجه ذهبت اليه قيادات الدولة المتعاقبة التي ولدت الهياكل و زادت من اعباء التسيير على حساب المهام الاصلية Organes budgétivores.
و يمكن تكليف صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية CNRPS الذي يملك شبكة من المكاتب و خبرة في توزيع الجرايات بمهمة "برنامج فداء". اما المؤسسات الامنية و العسكرية فلها هياكلها التقليدية التي يمكنها ان ترعى اهالي منظوريها من الجرحى و الشهداء. و سيسمح هذا التوجه اضافة الى تخفيف اعباء التصرف من التقصير في وقت الانجاز لان كل هيكل جديد يحتاج الى وقت طويل ليرى النور قانونيا و يطور خبرته الميدانية و جاهزيته الفعلية.
النضال تحول الى "ريع رمزي" و "مشيخية" جديدة
النضال بكل أشكاله، هي لحظة تحول الفرد الى العمل الجماعي و هو يسمح بالفعل و تعظيم القدرة على التأثير في مجريات الأمور و هو مكلف في الزمن و المال خاصة اذا كان في بيئة غير ديمقراطية لأنه يعرض المناضلين الى مخاطر تصل الموت.
النضال كان تذكرة الوصول للحكم بعد الثورة، في انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011 حيث كافأ التونسيون الأحزاب التي شكلت لاحقا ما عرف بالترويكا و هي كيانات سياسية غير معترف بها حينها، كانت على القائمة السوداء أيام الرئيس بن علي لكن صدم التونسيون بملف التعويضات المستحقة لجبر مظالم من تعرضوا للقمع قبل الثورة، و كان وقعه عند عامة الناس سلبيا بدرجة لم تنتبه اليها السلطة وقتها، و تم اعتباره مكافأة للمناضلين على حساب المواطن "بلا والي" و فقد المناضلون بريقهم البطولي لأن المخيال الشعبي ينتظر من البطل التضحية، فخاب ظنهم في قياداتهم الجديدة.
لكن النضال يواجه أيضا محك النرجسيات و الأنا و من مفارقة الزمان أن الجيل الذي واجه الزعيم بورقيبة و انتقد طول بقائه في الحكم هو نفس الجيل الذي يقود اليوم بعض الأحزاب بل أدى التمسك بالمناصب الى تفكيك بعض التحالفات السياسة و الى هجرة بعض القيادات و انسلاخها من أحزابها الأصلية بعد أن طمحت من غير جدوى في تمرير المشعل داخل أحزابها. الم يتحول النضال الى ريع رمزي جديد؟
فاذا تعامل المناضلون الذين نشطوا الحياة السياسية على طوال نصف القرن الماضي الى "زعماء مدى الحياة" ما الذي يضمن اليوم ان المقبلين على النضال و الذين يدعون اليوم الشباب الى النزول الى الشوارع و ما ينتج عنه من تضحيات، ان لا تتكرر "مشيخية نضالية" جديدة؟ أسئلة لا يمكن مواجهتها خارج الصدق مع النفس قبل الصدق مع الآخرين.
نقد "الفكر السياسي" المتداول في الساحة العامة التونسية سلطة و معارضة
دخلت تونس حقبة الثورة و العشرية التي تلتها، و بقطع النظر عما شارك أو لم يشارك و متى شارك و باي حجم، بكوكبة من المناضلين اﻟﺬين ينتمون الى ثلاثة 3 أجيال بعضهم انطلق نشاطه في الستينات من القرن الماضي و بلغ أوج عطائه في السبعينات حين كانت الحياة العامة أضيق ما يكون، و بعضهم كان حضوره المميز بين تسعينات القرن الماضي و عشرية قبيل الثورة و بعضهم من الشباب اﻟﺬي انخرط في شبكات الاحتجاج الالكتروني سنوات قبيل الثورة و من حسم المعركة على الميدان بعد 17 ديسمبر 2010، و كلهم ثروة راكمت المعرفة العلمية في الجامعة التونسية، مفخرة الشعب التونسي و مفخرة النظام البورقيبي و من لحقه، و راكمت الخبرة النضالية بكل أتعابها و مآسيها و لحظاتها المنعشة في صدام مضن مع حكم فتح المدارس في وجه كل أبنائه و منع عليهم الكلام، و كل هؤلاء أتيحت لهم الفرصة للمشاركة في الحياة العامة بعد الثورة كل من موقعه سواء في سلطة ما بعد الثورة او في المعارضة، و ان بحجم محدود في المؤسسات الديمقراطية، و بقيتهم في مختلف مواقع التعبير عن الرأي.
بهذا الزخم النضالي أعطت النسخة التونسية من التجربة الديمقراطية أفضل ما فيها و باحت بقصورها و تناقضاتها و تحولت من حلم راود الأجيال الى تجربة "محبطة" و "منفرة" عند قسم لا يستهان به من المواطنين و هذا هو الأخطر.
بعض من كان في المعارضة أو في الهامش السياسي اصبح سلطة أو على مقربة من السلطة و من كان في السلطة أزيح أو صمت أو دخل مجددا الحياة العامة في اطر حزبية و حكومية جديدة.
كل هؤلاء في صراعات و اختلافات حول المواقع و البرامج لكنهم يتشابهون أكثر مما يتصورون في أساليب التفكير و طرق العمل و النظرة الى السلطة و الى ﺫواتهم كأطراف فاعلة، هذا دون اعتبار الانتماء الطبقي لكل منهم و تلك قصة اشكالية أخرى.
ما أحوجنا الى تقييم عميق و جريء الى الثقافة السياسية التونسية السيارة و المتداولة في الحياة العامة، و لا أتحدث عن الكتب و التقارير الجادة التي تخزن في الرفوف و المحامل الرقمية، لكن عما ينطق به أهل السياسة يوميا و يدور في عقولنا عبر كل أشكال الاعلام و الاتصال، سلطة و معارضة فهي بعد لا يستخف به في فهم هذه الورطة السياسية الجماعية التي جعلتنا ننعم بثورة ديمقراطية حررت القول لكنها عطلت الفعل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.