تحرير أميمة العرفاوي - لئن تتشابه التقاليد الرمضانية بربوع الشمال الغربي مع عديد الجهات الأخرى في أكثر من مظهر فإنها تختلف عنها في البعض الآخر إذ يعيش أهالي الجهة على وقع عادات وتقاليد الأباء والأجداد وفق الطقوس التقليدية القديمة التي اندثر بعضها والبعض الأخر مهدّد بالإندثار وهي "تصارع " من أجل الاستمرار ويحنّ إليها الكبار بكل شوق ولسان حالهم يقول" ليت الأيام تعود يوما". في معتمدية الكريب التابعة لولاية سليانة،لا يزال متساكنو منطقة "الدنادنية" من عمادة "برج المسعودي"متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم خاصّة منها الغذائية مثل " شربة المرمز و"الحلالم والنواصر" و"الكسكسي الدياري" كإرث الأجداد الذي يتجدد كل سنة تزامنا مع شهر رمضان، شهر الصيام لما لها من أهمية وفوائد على جسم الإنسان خاصة أن مكوناتها مواد طبيعية مستخلصة أساسا من حبوب القمح المبذور على تخوم جبل "غزوان". وفي هذا السياق واستعدادا لشهر رمضان تسارع نسوة "مجمع الأمل" في منطقة "الدنادنية" في إعداد هذه المنتجات لترويجها في ما بعد في مختلف معتمديات ولاية سليانة وخارجها . ... تلامس الأنامل المتشقّقة للثلاثينية وردة حبات الشعير اللين وببراعة اكتسبتها على مدى 16 سنة من والدتها ...تعالج هذا الشعير لتحوّلها إلى حبات متناسقة ومتساوية يطلق عليها " المرمز " أو "شربة الشعير " أكلة تتميز بها ولايات الشمال الغربي خاصة و جلّ موائد الإفطار بالبلاد التونسية في شهر رمضان عامة. مراحل إعداد " شربة الشعير" وما يميّزها من أجواء خاصة أضحى العالم الصغير لوردة وبسمة اللتين تتقاسمان مراحل إعدادها الشاقة وتحدثت وردة الدنداني ذات الوجه الشاحب وبنبرات متعثرة في تصريح ل(وات) أن سكان القرى المتاخمة للجبال يعدّون هذا النوع المتميز من الشربة قبل أيام معدودة من شهر رمضان لتكون بذلك مصدر رزق الكثيرين وطبق محبّذ لدى العديد من المستهلكين. يوم تحضير "شربة الشعير "تستفيق هذه المرأة الريفية في الساعات الأولى من الفجر لتقضي شؤونها باكرا كما أوصتها بذلك والدتها.. تلبس وشاحا أحمر اعتقادا منها بأن هذا اللون مبارك وتتوجه مباشرة إلى الحقول في شهر ماي (عندما يكون الشعير أخضر) ليتم قطف « الفريك » أي الشعير اللين من الحقول بواسطة "المنجل" ثم يتم دقّها بواسطة عصى على سطح إسمنتي و تنقيته في ما بعد من الشوائب ثم تفويره في إناء كبير. وأضافت أنها تعدّ مايلزمها من غرابيل و "الرّحى "(آلة رحي تقليدية ) وبقية مستلزماتها لتقوم بتجفيف الشعير في الهواء الطلق ثم تنظيفه للمرة الثانية وقليه في وعاء من الفخار (الطاجين)، لافتة إلى أنها تمررها بعد كل هذه المراحل لجارتها بسمة لتتفنن بدورها في تحضير "الشربة" فتأخذ الخالة بسمة حبات الشعير ثم ترحيها في الرحى على بساط يسمى" المرقوم" وتغربله وتصفيه للمرة الثالثة وتنقّيه مجدّدا. تواصل عملها وتتعالي الأهازيج والأغاني التي تميز المنطقة والتي كانت ترددها النسوة في مثل هذه المناسبات "هزي حرامك" و"على من يجينا" وغيرها من الأغاني الأخرى التراثية القديمة. تقول بسمة الوسلاتي بدورها أن إعداد "المرمز " يتطلب مهارات لا تمتلكها كل النساء ولذلك فإن البعض منهن فقط احترفن هذا العمل وبرعن فيها. وقبل المغادرة،تحرص وردة وبسمة وكما دأبتا على ذلك كل سنة على تقديم هذا الطبق التقليدي لكل جيرانها ترسيخا لعادة قديمة توارثها الآباء عن الأجداد. راقية البوبكري، والتي تنتمي بدورها إلى مجمع الأمل أصبحت من الخبيرات في إعداد "الكسكسي الدياري "بشهادة جاراتها وردة وبسمة ، وببراعة اكتسبتها على مدى سنوات عديدة، تلامس بأصابعها الخبيرة حبات القمح و تعالجها لتحوّلها إلي مادة أساسية من طبق أمازيغي تقليدي هو "الكسكسي الدياري". راقية إمرأة لم تفارق الابتسامة وجهها الضحوك ولم تغب عنها روح الدعابة منذ أن إستقبلتنا ..فهي تتفانى، منذ صغرها في إعداد "عولة الكسكسي" إلى درجة أنها صارت تلقب ب "ملكة العولة" في عمادة برج المسعودي . "العولة" هو "العالم الصغير" تلجأ إليه ليكون خير رفيق لها خاصة أنها تعلمت منه الصبر و كيفية التغلّب على المصاعب وفق قولها. ربطت شعرها بوشاح أحمر ، وارتدت لباسا جديدا بنفس اللون احتفاء بيوم العولة الذي تعتبره بمثابة "العرس الصغير"، على حد تعبيرها لتعدّ بذلك ما يلزم من غرابيل وقصاع وملاحف لوضع الكسكسي واستدعت جيرانها لمساعدتها. وبخصوص طريقة إعداد العولة، أوضحت الوسلاتي أن كسكسي "القمح"، يتمّ إعداده عبر تنقية حبّات القمح و تصفيتها وغربلتها ومن ثمة الشروع في إعداده. تابعت حديثها قائلة: "الكسكسي ينقسم إلى أنواع، الكسكسي "المفوّر" وهو الألذ، والكسكسي الشمسي الذي لا يتم تفويره و ينشر فقط حتي يجف"، مشيرة إلى أن أهالي الجهة يتولّون إعداد "عولة الكسكسي" استعدادا لشهر رمضان و موسم الأفراح والأعراس، ولحفلات الختان، مؤكدة أن إعداد "العولة" يتطلب مهارات لا تمتلكها كل النساء. في الأثناء، وفي هذه الأجواء البهيجة تدخل، صديقتهن عفاف بين الفينة والأخرى، حاملة بين يديها إبريق شاي أحمر، ومع كل إبريق تتعالى ضحكات النساء وترتفع الزغاريد وتردّد النكات والحكايات. وقبل مغادرة النسوة تصر راقية أن يتناول الجميع الكسكسي "الحار" والشهي المعد بلحم الخروف و بالتحديد بلحمة "المسلان"، وهو الطبق المميز في هذه الجهة. على غرار "شربة الشعير"و"الكسكسي الدياري"، تعد الخالة عفاف الدندادي صاحبة مجمع الأمل , "الحلالم" وهي من أشهر الأكلات خاصة في فصل الشتاء والأيام الرمضانية . وعن طريقة إعدادها، ذكرت أنّها متكونة أساسا من العجين ويتم تقطيعها وتمريرها عبر السبابة والإبهام ثم تجفيفها وطهيها . وكشفت في سياق أخر أن مجمع الأمل يضمّ أكثر من 50 إمرأة اختصت في إعداد المنتوجات الطبيعية من توابل و كسكسي بأنواعه و البسيسة ودجاج الضيعة(بعد تمكينهنّ من معدات من قبل المندوبية الجهوية للمرأة والأسرة والطفولة وكبار السن بسليانة ) مشيرة إلى الصعوبات العديدة التي تعترضهن خاصة مع تهرؤ البنية التحتية وغياب نقطة ترويج مما يزيد في معاناتهم .، مؤكّدة أن كل هذه الصعوبات لن تثنيهن عن مواصلة عملهن بإعتبار أن أغلبهن يساعدن أزواجهنّ في نفقات الحياة . وحثّت رئيسة مجمع الأمل، الأجيال القادمة على المحافظة على هذا الإرث والإقبال على تعلّمه قائلة "ينتهي مال الجد و تبقى صنعة اليد." ودعت بدورها صديقتها وردة الدنداني، السلط المعنية إلى دعم المجمع خاصة أنه قادر على أن يستقطب أكبر عدد من اليد العاملة في حال توفرت الإمكانيات المادية اللازمة ومنه حلحلة إشكالية البطالة بمنطقة ريفية تعجّ بالمتساكنين وتحتوي على خصائص طبيعية هامة قادرة أن تكون جاذبة للاستثمار. من جانبه، أوضح رئيس بلدية الكريب لطفي السليطي في تصريح ل(وات) أن مصالح البلدية تعمل على إنشاء نقطة بيع من المنتج للمستهلك في الأيام القادمة بهدف ترويج المنتوجات الطبيعية المميزة للمنطقة المذكورة والتي تعدّها نساء المجامع في انتظار نجاحها والسعي إلى جعلها مفتوحة على كامل السنة.