"أنقذتني الكتابة" مؤلف جديد للكاتبة والصحفية التونسية آمال مختار، صدر حديثا عن دار محمد علي للنشر، وهو عمل تحاول من خلاله الكاتبة توثيق جزء من سيرتها الذاتية، سيرة امرأة من مواقع اجتماعية مختلفة آمال الابنة والتلميذة والكاتبة والصحفية والزوجة والأم. تستهل آمال مختار هذا المؤلف بإهداء "إلى والدي، إلى زوجي، إلى ابني" وهي كلمات مفاتيح سطرت مسار هذا العمل الذي وصفته بأنه "محاولة لكتابة السيرة الذاتية"، فالسرد في هذا العمل ينطلق من حدث أسري مؤلم، هو تدهور الحالة الصحية لوالدها، مثل القادح للعودة بالذاكرة إلى جزئيات من حياتها منذ النشأة، مسلطة الضوء على دور والدها في تكوين شخصيتها وخياراتها الدراسية والمهنية. "أنقذتني الكتابة"، هو عمل يراوح بين سرد السيرة وفعل المواجهة، مواجهة الماضي بكل ما يحمله من آلام وانكسارات وخيبات، فآمال مختار التي تعرضت خلال مسيرتها إلى العديد من الشائعات ومحاولات التشويه، بصفتها امرأة تمردت على السائد والمقبول اجتماعيا، قررت كسر حاجز الصمت والحديث عن مسارها بدءا من الطفولة بما رافقها من ضغط أسري مرده سعي والدها إلى توجيه مسارها الدراسي، حتى تصبح طبيبة، ثم ما واجهته من تحرش من قبل أحد أساتذتها، فضلا عما استمعت إليه من قصص زميلاتها في المبيت الطالبي، هذه القصص التي سكنتها وألهمتها فأثمرت روايتها الشهيرة "الكرسي الهزاز" التي تمت مصادرتها في سياق ما، لنبشها في التابوهات الاجتماعية والقضايا المسكوت عنها. الكتابة لمواجهة الاكتئاب عنونت آمال مختار كتابها ب"أنقذتني الكتابة" وهي التي كتبت عن معاناتها مع الاكتئاب والقلق النفسي بوصفه "نزيفا سريا"، فالكتاب يدخل ضمن الكتابة العلاجية وهو أسلوب يعتمده العديد من الأدباء والكتاب في العالم للتحرر من الآلام النفسية التي يواجهونها جراء ما راكموه من تجارب قاسية ومن قصص أنصتوا إليها وسكنتهم. ومنهم من نزع لسرد آلامه بطريقة روائية متخفيا وراء شخصيات تخييلية، على غرار غادة السمان في "يا دمشق وداعا" و رواية "لا تخبري ماما" ل"تونى ماغواير"، ومنهم من الأدباء الرجال، من انتهج المباشراتية بكتابة السيرة على غرار طه حسين في ثلاثية "الأيام" و"الخبز الحافي" لمحمد شكري. وفي هذا السياق تتنزل السيرة الذاتية لآمال مختار كمحاولة للتشافي مما سكنها من آلام على مدى السنوات التي راكمت فيها تجارب مؤلمة مع العنف النفسي والجنسي ومحاولات التقزيم والرفض لامرأة نجحت في أن تخترق عالم الكتابة الذكورية، (كصحفية شابة متحررة) وتعري آلام النساء وعذاباتهن في مجتمعات تختزلهن في صور نمطية تنتهك حقوقهن وكرامتهن وإنسانيتهن في كثير من الأحيان. "أنقذتني الكتابة": سيرة موجهة إلى رجال العائلة في اختيار الكاتبة لأن تستهل عملها بإهدائه إلى "رجال العائلة"، فإن الملاحظة الأولى التي تتبادر إلى ذهن القارئ، بعد قراءة العمل، البعد المُحافظ والمُحتشم في كتابة السيرة، وكأن آمال مختار تكتب لرجال العائلة الذين أهدتهم هذا المؤلف، وتحديدا إلى والدها رمز الصرامة في حياتها والذي خصصت جزءا كبيرا من سيرتها للحديث عن علاقة المد والجزر التي جمعتها به، فهو الذي وجهها إلى الكتابة دون وعي منه وهو أيضا القادح وراء تمردها على أنماط الأنوثة السائدة آنذاك. وفضلا عن والدها، أهدت آمال مختار هذه السيرة إلى زوجها وابنها وهي التي أشارت في كتابها إلى أنها دخلت مؤسسة الزواج لتتمكن من تحقيق حلم الأمومة وإنجاب الفتاة التي ترغب في إنجابها، ورغم أنها أم لولد وبنت، كما ورد في سيرتها، إلا أنه لم يكن لابنتها نصيب من الإهداء في السيرة الذاتية وكأنها سيرة عن معاناة آمال مختار من تجارب أليمة مع رجال كان لهم أثر في حياتها، فأهدتها إلى من كانوا سندا لها من الرجال. في محاولة كتابة السيرة: ذاكرة انتقائية في اللقاء الذي التأم يوم 10 ديسمبر 2025 بقاعة الريو بالعاصمة، أشارت آمال مختار متحدثة عن هذا العمل، إلى أن "الكتابة أساسا فعل تعرّ لأنها تعري أفكار الإنسان وتكشفها"، في حين أن السيرة التي كتبتها، لا تعتمد هذا المبدأ الذي كان حاضرا في مختلف كتاباتها الروائية، إذ لم تجسد السيرة عملية التعري، بقدر ما كشفت البعد الانتقائي للذاكرة بما لا يمس التابوهات الاجتماعية ولا يفضح المستور. فحتى عند حديثها عما عاشته من تحرش وعنف بأنواعه، كانت كتابة آمال مختارة "مختارة" بعناية، فقد جاءت محافظة وخجولة تميل أكثر للرد عمن ساهموا في وصمها اجتماعيا، بإبراز أن تنشئتها والقيم التي تربت عليها تُفند الاتهامات التي وُجهت لها. وفي نزوعها نحو "الكتابة لدرء الوصم"، اختارت الكاتبة والصحفية اعتماد أسلوب لا يخرج عن إطار "المقبول اجتماعيا"، ولا يفضح مرتكبي الأفعال المسيئة إليها، بقدر ما يُقدم هذه الأفعال كأخطاء بشرية ناجمة عن تأثر بمواد كحولية أو غيرها، مبينة أن البعض قام بتلافيها لاحقا، وكأن الكاتبة في عملية بوحها تحاول حماية "الجلادين" بأن تحفظ صورهم الاجتماعية. وجدير بالذكر أن هذا الجزء المُنتقى من سيرة آمال مختار قالت إنه سيكون متبوعا بجزء آخر أو ربما أجزاء، قد تغوص فيها الكاتبة أكثر في تجاربها الحياتية بأسلوب كتابتها الصريح الذي ألفه جمهورها من القراء. وبين "محاولة كتابة السيرة الذاتية" والسعي إلى مواجهة ماض أليم، يأتي هذا العمل لآمال مختار كلبنة أولى في مسار حث الكاتبات العربيات وخاصة التونسيات على كتابة سيرهن الذاتية وتوثيق تجاربهن، دون التخفي وراء السرد التخييلي، وفي هذا الإطار، يتساءل المتابعون لسيرة آمال مختار عن الخيط الرفيع الفاصل بين السمو والتسامح، وبين الخوف من رد الفعل الذكوري في حال اعتمدت مبدأ التعري التام في كتابة سيرتها. تابعونا على ڤوڤل للأخبار