عجيب هذا الشعور الذي عم أوساط 'مثقفي' تونس بعد اعلان فوز حركة النهضة بأغلبية مقاعد المجلس التأسيسي. عجيب هذا الحزن و هذا الاحساس بالضياع الذي إرتسم على الوجوه و بين السطور. أستغرب حقا هذه الصدمة فهذا الفوز لم يكن ليفاجئ أحد، و النسبة العالية المصرح بها تؤكد أنه من كان ينتظر شيئا آخر هو بعيد كل البعد عن واقع هذا الشعب و مزاجه العام. هؤلاء الذين لطالما أصروا على ألا يروا من تونس إلا ما شاء لهم، الذين قالوا غداة الثورة أنهم اكتشفوا الفقر و الهوان الذي يعيشه نسبة كبيرة من التونسيين، و قالوا أنهم لم يكونوا ليتصوروا أن في أحياء تونس القريبة هناك من لا يجد قوت يومه و أنهم خدعوا بالرواية الرسمية القائلة بأن "مناطق الظل" اختفت من البلاد... أولئك اكتشفوا اليوم أن تونس ليست المنار أو المرسى، اكتشفوا بالمناسبة أن الشعب التونسي لا يطرح على نفسه مسائل وجودية و أن علاقاته مع هويته و مع دينه أمور محسومة بل و يستراب في أي جدال يخوض فيها. للتاريخ، اليوم نجد القوى التي سمت نفسها ديمقراطية ثم نصبت نفسها حامية للحداثة في مجابهة "الأخطار المحدقة"، نجدها اليوم ترغي و تزبد و تنعت الشعب بالجهل و الغباء بل و تتظاهر أمام الهيئات المستقلة منددة بالنتائج و متعللين ببضع تجاوزات رصدت هنا أو هناك، في مشهد بائس يعكس عمق الأزمة التي يعيشها هذا التيار و أنصاره في تونس. في الطرف المقابل، تجد الأطراف المنتصرة توزع التصريحات المطمئنة إلى الداخل و إلى الخارج، تبادر إلى إقامة ائتلافات -هي في غير حاجة لها باعتبار أغلبيتها المريحة- و تتعامل بمسؤولية مثيرة للإعجاب. لكل هؤلاء أريد أن أقول أن مشاكل تونس اليوم ليست في السجالات العقيمة بين الإسلاميين و العلمانيين بل في الجهل و الفقر الذين اجتاحا البلاد... مشاكل تونس هي استشراء الفساد و تهتك الإدارة و انحطاط المستويين التعليمي و الصحي... مشاكل تونس هي في رداءة الإعلام ووضاعة الصحافة و تصحر الثقافة... هذا ما يهم التونسي و ليس الخوض في مسائل هلامية أو السفسطة في كماليات بعيدة عن أرض الواقع. للمتمعن في النتائج التي تمخضت عنها أول انتخابات حرة في تاريخ تونس له أن يلاحظ عددا من المفارقات: - على خلاف ما قدم البعض من أن التونسي كره السياسة و السياسيين، جاءت نسب المشاركة القياسية لتقول أن الشعب بأسره (و هنا يحق لي أن أجمع باسم الشعب) متمسك بالمسار الديمقراطي في تونس برغم ما قد يتخلله من نقائص، و بالتالي حسم أمره بأن لا مجال للعودة إلى الوراء. - صحيح أن النهضة استحقت فوزها لاعتبارات عديدة إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن نسبة محترمة من أصواتها أتت من طبقات اجتماعية محدودة الثقافة و لاعتبارات ليست بالأساس سياسية. - كذلك تقدم قوائم العريضة الشعبية في ولايات الوسط و الجنوب الغربي التونسي من جهة و حزب المبادرة بولايات الساحل من جهة أخرى، تأتي لتعكس أن المشهد التونسي لا يزال خاضعا للإعتبارات الجهوية و ال"عروشية" السطحية. - حركة النهضة هي التنظيم الوحيد الذي استطاع أن يكون حاضرا في جميع الدوائر –بل ربما في جميع المكاتب- دون استثناء. بقية التنظيمات تبين أنها لا تعدو أن تكون فئوية، جهوية أو نخبوية. استحقت حركة النهضة فوزها لأنها (ربما صحبة المؤتمر) توصلت إلى تقديم طرح جامع وجد قبولا عند كل الشرائح تقريبا، ثم قرنت هذا الطرح بعمل ميداني دؤوب، دعمته في النهاية الدعاية المجانية التي قدمها أنصار الحركة و أعداؤها على حد سواء. - يغفل الكثيرون أن هناك ما يشبه الإكتساح لصالح حركة النهضة إذ أنه ولو كان الاحتساب مبنيا على النسبية المباشرة لاستحوذت النهضة على أكثر من ثلثي الأصوات. على سبيل المثال، في القصرين نالت النهضة 3 مقاعد جزاء 41000 صوت فيما نالت قائمة مستقلة (الوفاء) مقعدا لقاء عشر هذا العدد ( 4000 صوت), اما في قبلي ف28000 صوت للنهضة وفرت لها مقعدين فيما تحصلت عريضة الحامدي على مقعد ب2000 صوت فقط! - رغم الطفرة المبالغ فيها في إصدار الأحزاب بعد ثورة 14 جانفي، لم تستطع الحركات الجديدة (باستثناء آفاق) أن تتحصل على أي مكانة تذكر. في الواقع، كان التونسي في البداية جاهلا بجميع الأطياف السياسية، حديثها و قديمها، و لكنه عندما طلب منه الإختيار آثر الوثوق في المناضلين القدامى كشخصيات جديدة، اعتبرها الوحيدة القادرة على المضي قدما في مشروع التغيير و الإصلاح. - رغم كل التخوفات، أثبت الشعب التونسي أنه أذكى من أن يشترى بالكسكروتات أو بعلب المارلبورو أو بالوعود الخيالية. أثبت الشعب أنه يرفض أن يستبلهه الإعلاميون بحملات التهجم و بالإسقاطات المفضوحة. في النهاية عاقب الشعب التونسي الأطراف التي لم تحترم ذكاءه و التي حاولت استقطابه بشخصيات "فلكلورية". انتصار "المؤتمر" عكس أيضا إحترام التونسيين لأصحاب المبادئ و رفضهم للمتكالبين على المناصب. - انتهى كرنفال الانتخابات و انسحبت معه مئات الأحزاب و القوائم المستقلة التي نالت من الحفل صفرا مكتمل الاستدارة. كل هاته الوجوه التي في معظمها لا تمت للعمل السياسي بصلة، نتمنى أن تعتبر من التجربة و–إن هي ما زالت مصرة على مزاولة السياسة- أن تنضوي تحت أحزاب جامعة و أن تتحرر من عقد الأنانية و "شخصنة" الحركات و الأحزاب. - عجيب المجلس التأسيسي هذا الذي لا نجد فيه مفكرين من طينة الشيخ عبد الفتاح مورو أو مناضلين كالقاضي اليحياوي و راضية النصراوي، فيما نجد فيه "شخصيات" مثل صلاح الدين الزحاف أو... صابر بن فرج! عجيب هذا المجلس الذي عشر أعضائه من ممثلي العريضة الشعبية قدموا تنصيب "السيد الهاشمي الحامدي، قذافي تونس" رئيسا للجمهورية كإحدى أهم دعائم برنامجهم الإنتخابي..! عموما، ما آلت إليه انتخابات المجلس التأسيسي أفرز واقعا يشبه إلى حد كبير واقع الشارع التونسي، بتجاذباته و بتناقضاته، بانتصاراته و بنقائصه و لكنني و بقدر الإحباط الذي رأيته في جملة من الأوساط إثر تقدم النهضة، أجد نفسي سعيدا بهذه النتيجة و متفائلا بالمنعرج الذي أخذته تونس. نعم، أنا سعيد بفوز النهضة لما يحمله هذا الواقع من رمزية فقيادات النهضة التي عانت الأمرين تحت حكم بن علي تتمتع بشرعية نضالية لا تختلف كثيرا عن الشرعية النضالية التي تمتع بها زعماء الحركة الوطنية غداة الإستقلال. سعيد لأنني أتوقع من حكام قرطاج الجدد (النهضة و المؤتمر) أن يقطعوا مع القديم السائد، الشيء الذي قد يصعب على غيرهم القيام به نظرا لحساباتهم و لما كلفتهم إياه تحالفاتهم. سعيد لأنني أعتقد أن حركة النهضة هي التشكيل السياسي الوحيد الذي هو على مستوى من التنظيم و تنوع في الكفاءات يسمح له بان يتدخل في أجهزة الدولة و يطهرها و أن يقيم منظومة المحاسبة التي طال انتظارها. كوادر النهضة أثبتوا عبر مختلف المراحل ذكاء و براغماتية أتمنى أن يحافظوا عليها، ثم أتمنى أن يعوا بسرعة متطلبات المرحلة الجديدة. لقد ارتكبت حركة النهضة، قيادة و قواعد، عديد الأخطاء طوال السنة الماضية، و لكن لا ينظر للمعارضة كما ينظر للسلطان، و لا يحاسبان بنفس المعيار. قد يكون عاملا سوء التنظيم و انعدام التوازن وراء جملة الأخطاء و المآخذ التي سجلت على النهضة في الأشهر الأولى التي تلت الثورة، كانت الحركة وقتها تستجمع طاقاتها و توحد صفوفها و تنفض الغبار عن مؤسساتها بعد عقود من الملاحقة الشرسة. ولكنها اليوم، و هي تعتلي سدة الحكم، أصبحت في وسط دائرة الضوء و وجب عليها فرض حد من الانضباط على أنصارها حتى لا تحسب عليها تجاوزاتهم. النهضة اليوم أمام تحديين اثنين أولهما أنها ستكون عرضة لمعارضة علمانية شرسة و عنيفة... قد يكون هؤلاء قليلو العدد –كما ابرزت الانتخابات الأخيرة- و لكنهم متنفذون و حاضرون بقوة في الأوساط الثقافية و الاقتصادية و الحقوقية. ستكون النهضة و كوادرها و أنصارها باستمرار تحت المجهر، خصوصا في المواضيع المثيرة للجدل كالحريات الشخصية، و المرأة. من ناحية أخرى، يقدم حكام قرطاج الجدد على بلد في وضعية أقل ما يقال عنها أنها صعبة، الوعود التي قدمت طوال الحملات الانتخابية (حتى من طرف أحزاب خاسرة) جعلت الانتظارات كبيرة جدا، بل مبالغ فيها في عدد من النقاط. الشعب التونسي و الطبقات الدنيا خصيصا –والتي تمثل بالمناسبة الثقل الانتخابي لحركة النهضة- تتطلع باستعجال إلى تغيير ملموس في واقعها المعيش. هذا يمثل حسب رأيي التحدي الأكبر الذي تواجهه النهضة و الذي، إن تجاوزته على قلة خبرتها في ممارسة الحكم، ضمنت لنفسها طريقا مريحا لإقامة المشروع المجتمعي الذي تصبو إليه و الذي هو –من وجهة نظري- فرصة تاريخية ليس للنهضة وحدها بل لتونس و للمشروع الإسلامي في المنطقة. أما لو فشلت النهضة في تطبيق مشاريعها فسنرى تآكلا في النسب الانتخابية في أول تصويت مقبل. الطبقة السياسية التي ورثناها من الجمهورية الأولى هي في مغلبها لا تنتسب إلى المرحلة في شيء: أحزاب بعثية، قومية، بروليتارية في سنة أحد عشر بعد الألفين!!! المنتظر مما أصبح يسمى بالأحزاب الكبرى أن تواصل عملية التجديد و التحيين التي انطلقت فيها بالفعل. يجب عليها أيضا أن تخرج من الصالونات السياسية و الثقافية المنعزلة وأن تقترب أكثر من الواقع الشعبي التونسي. كما يقع على عاتق المجتمع المدني عموما و الجمعيات خصوصا دور أساسي في نشر ثقافة الوعي السياسي و الحوار و المبادرة لا سيما عند شباب مفعم بالحماس و لكنه يحتاج إلى الكثير من التأطير. اليوم و قد إنسدل الستار على المرحلة الأولى من الانتقال الديمقراطي، حق علينا أن نشكر من عمل بتفان من أجل حماية البلاد و رفع رايتها حتى في أحلك الظروف... استرجع مسلسل الأحداث منذ بداية السنة و كيف بلغنا التغيير، ليس يوم 14 جانفي بل على مراحل عدة وصولا إلى أحد الانتخابات... هنيأ لتونس بشخصيات مناضلة مثل منصف المرزوقي و حمة و الشابي و مية الجريبي...شكرا لهؤلاء الذين صابروا و احتملوا ضغوطات قد تنأى لها الجبال حتى يؤمنوا العبور الى بر الأمان امثال عياض بن عاشور و قائد السبسي و كمال الجندوبي... لهؤلاء الوزراء و الولاة الذين لبوا نداء الواجب و ضحوا بمناصب دولية ليتحملوا مسؤوليات صعبة زمن لا يتمنى أحد أن يكون مسؤولا. حق علينا أن نعترف بأننا قد نكون قد تحاملنا ظلما على أناس مثل فؤاد المبزع و محمد الغنوشي و النوري الجويني و عفيف شلبي بل و كمال مرجان و رشيد عمار... في آخر المطاف، و لو أعملنا قدرا من الموضوعية، قد ساهم هؤلاء في إنجاح ثورتنا إذ ساعدوا على إنضاجها و حموها يوم كان بمقدورهم أن يؤدوها في مهدها. قد تنادي الغوغاء بما يحلو لها و لكن الأمور بخواتمها و التاريخ لا يكتب إلا بعد روية... هذه البلاد كانت دائما زاخرة بالرجال, كل على طريقته, كل من مركزه, كل على قدر طاقته... ندرك أشياء و قد تغيب عنا أشياء أخرى. قد يكون بين هؤلاء من أخطأ في بعض المواقف و لكنها تبقى شخصيات وطنية لا أشك أنهم صدقوا بلادهم و حموها من الانزلاقات التي كانت لتؤول اليها الأمور لو لم يتحمل كل منهم مسؤوليته... اليوم يتسلم المشعل رجال آخرون اؤمن أنهم سيكونون بدورهم في مستوى المسؤولية و في مستوى ثقة الشعب الذي أخرجهم من السجون و المنافي ثم أتى بهم إلى سدة الحكم.