بقلم د.خالد شوكات (*) المؤتمرات الحزبية ليست في غالب الأحيان إلا مناسبة استعراضية شكلية، تسمح للقيادة بتحقيق هدفين أساسيين، أولهما السماح للقواعد بالتنفيس حتى لا ينفجر الكيان يوما في وجه القادة، و ثانيهما انتزاع الشرعية للمخططات القيادية المعلنة أو المبطنة على السواء، و عبثا تتوهم قواعد المؤتمرين أنها قامت بواجبها، ففي نهاية الأمر تماما كما انتهى المؤتمر التاسع لحركة النهضة، سيصدر بيان ختامي ظاهره ثوري و باطنه لا يعدو أن يكون بصما بالعشرة على ما أرادته القيادة، أكان ذلك في المدى القريب الساذج أو ضمن الرؤية المستقبلية المخادعة. من جهة النتائج، لم يكذب المؤتمر أيا من التوقعات التي سبق إعلانها، فالشيخ راشد بقي على رأس الحركة في إخلال فج متكرر بالتعهدات الماضية، و سيرة الأربعين عاما الماضية لم تكن ضمن جدول الأعمال و في مقدمتها السنوات العشرين الأخيرة للمحنة السوداء العفنة، و ازدواجية الخطاب أو طبيعة الحركة في تداخل الديني و السياسي و السري و العلني في أطروحاتها لم تختبر أو تناقش أو تحسم، و أداء الحكومة و خصوصا أداء وزراء النهضة لم يظهر محل اهتمام أو رأي أو قرار، أما الصلة مع شركاء أو فرقاء الحياة السياسية فلم تشهد أي تقييم جدي يمكن أن يشجع متابعا على مجرد تخيل أن آفاقا حقيقية ذات مصداقية للتحوير أو المراجعة قد تفتح بفضله. و أما من جهة الوقائع، فقد عزز المؤتمر نزعة الاستعلاء و الاستعراض و الغرور لدى القاعدة و القادة، و زادت طينها بلا صور الوزراء "المتواضعين" الذين لا يترددون في افتراش الأرض من شدة الإعياء، و تقاسم ما كتب من الزاد مع البسطاء، المنقولة إلى جمهور المتابعين من المناضلين بكل براءة، لا من منطلق رياء - حاشى لله- أو إدعاء، إنما غاية ما في الأمر التذكير بتلك الصلة بين مسؤولي الحركة و الراشدين من الخلفاء، دون أن ينسى بطبيعة الحال ملاحقة هؤلاء المناضلين الأبرياء لأعداء النجاح و الحاقدين على المعجزات المجترحة و إنجازات الحركة و الحكومة من أمثالي الجرحى، و سائر الفاشلين و المتآمرين من الفلول و الخونة، و الرد على ما يروجونه من شبهات و أباطيل و أخبار مرجفة و تحليلات زائفة، هدفها تأليب الدهماء و تضليل العامة. بهذلة الشيخ مورو مرة أخرى و من ضمن التعليقات على المتن، تظل "بهذلة" الشيخ عبد الفتاح مورو على أيدي إخوانه و رفاقه مرة أخرى، واحدة من نتائج المؤتمر التاسع لحركة النهضة، و كأن القوم قد قالوا في سواكنهم العميقة المضمرة أن الشيخ الجليل ما يزال محتاجا لحلقة جديدة أخيرة من "المرمطة" لا يعود أمامه بعدها فرصة أخرى للحديث مع أحد حول مشروع سياسي موازي يمكن أن يقوده أو يساهم فيه، فقد "جرجر" الرجل إلى موقعة "الكرم" بخديعة جديدة، و أخرج منها ب"خفين" لا يليقان بحنين أو يتفقان مع أناقة جبتة التي طالما حرص على ضمان قوة إبهارها و إقناعها و بهائها. لقد أشرك الشيخ عبد الفتاح في انتخابات صورية محسومة النتيجة سلفا، و لا أحد يعلم لما قبل دخولها وكان أكرم له الاعتذار عنها ألف مرة و مرة، حتى يظن ماكر أن النسبة التي حصل عليها كانت "مخجلة" إلى درجة جعلتها خفية غير معلنة، كما أن أحدا لا يعلم ما سر تشبث الرجل بهذا الهوان الكبير الذي لا يتفق مع سيرته الحافلة أو كفاءته المقدرة أو خطابه التجديدي أو نزعته الوطنية الخالصة أو سابقته في الجاهلية و الإسلام سوية. و الحق أن إهانة إخوة النضال و رفاق الدرب و التنكر لشركاء المسيرة و أهل المعروف، فضلا عن إقصاء أصحاب الكفاءة و الرأي الشجاع و الشخصية القوية، ليست بالعادة الخافية على الشيخ مورو و على كثير ممن دخل هذه الحركة و خرج أو أخرج منها، أو ممن شارك هذه الحركة في تحالف علني أو سري أو أسدى خدمة للشيخ الرئيس و دائرته المقربة، فقد كان مصير جميع هؤلاء بائسا و كان الانتصار دائما لمنطق المصلحة الفئوية الضيقة، و لا يعدم المتنكرون دائما القدرة على تقديم المبررات الأخلاقية و الشرعية لإتيان تلك الفرية أو الفاحشة، و هي مبررات واهية لا تخدع إلا عديم خبرة أو متعصبا أو مرائيا، و ما أكثرهم في مثل هذا الزمان المتقلب و المكان الموحش. فلسطين..المزايدة التي لا تكلف شيئا في متن البيان، لم يفر أهل الحركة من ممارسة عادة المزايدة التي لا تكلف من الناحية العملية شيئا، فقد أكد القوم على ضرورة تجريم التطبيع و دعم القضية الفلسطينية، و تجريم التطبيع كما عرف لن يتناقض في عبارته الواردة مع الموقف السابق الذي أعلنته حكومة الحركة قبل أشهر، و الذي مانع في الارتقاء بالتجريم إلى مستوى القاعدة الدستورية. و بالتالي، فإن عبارة تجريم التطبيع ستكون سهلة التأويل لدى الحكومة، التي بدت حريصة طيلة الأشهر الماضية، و منذ اليوم الأول لتسلمها الحكم، على استرضاء القوى الغربية، و الحضور بأعلى مستوى تمثيل ممكن في أعيادها الوطنية، أتعلق الأمر بعيد الولاياتالمتحدةالأمريكية، أو عيد فرنسا، و لا يتذكر مهتم بالشأن الوطني الحبيب الزعيم بورقيبة رحمه الله، أو حتى الرئيس السابق زين العابدين، قد ذهب مهنئا الأمريكيين أو الفرنسيين في سفاراتهم القائمة في بلاده. و يملك أي راغب في التحدي مناكفة حكومة الحركة، إن هي تجرأت فعلا على تزكية طلب المؤتمرين بتجريم التطبيع دستوريا، ناهيك عن اتخاذ أي إجراءات عملية واقعية ملموسة لدعم القضية الفلسطينية، و إن أقصى ما يمكن أن تنتزعه القضية الفلسطينية السماح لحركة حماس بفتح مكتب تمثيل لها، و هو أمر سبق لحكومات شديدة الولاء للغرب السماح به قبلها، أو بعض بيانات الشجب و التنديد بالممارسات الصهيونية المتغطرسة، على غرار بيانات الأنظمة العربية السابقة، التي طالما تندر الإخوان منها و نددوا بها في سابق أيام المعارضة السعيدة الهانئة. قميص عثمان أو إقصاء الدساترة و من القرارات التي كان قادة الحركة يتمنون حصولها على أيدي المؤتمرين، و بأقصى درجات التشنج و التطرف و المزايدة، التلويح بقميص "الغيرة على الثورة"، قميص عثمان في هذه الواقعة، التي يحتاج فيها زعماء النهضة تسخير القوانين لإقصاء أهم خصومهم السياسيين، و في أجواء سياسية بدأ الجميع يدرك فيها تقريبا أن "الخط الوطني الدستوري الديمقراطي" الذي ساهم في بناء تجربة الاستقلال الأول، هو الأقدر من حيث اعتدال المرجعية و الواقعية و الخبرة و الكفاءة و متانة العلاقات الدولية على بناء تجربة الاستقلال الثاني التي نحن بصددها. و لن يكون ثمة لدى قيادة الحركة عبء مجددا في تأويل عبارة "رموز النظام السابق" على مقاس من تتطلع إلى حرمانهم من ولوج السباق الانتخابي، ليس لأنهم فعلا من رموز النظام السابق، بل لأنهم يشكلون منافسين جديين و خطرين في هذا السباق، حيث بدأ المهتمون يتابعون تسخينا سياسيا خبيثا ضد شخصيات وطنية ساهمت دون مواربة في تحقيق أجندة الثورة، من قبيل السيد الباجي قايد السبسي الذي سيقال أنه اشتغل مع النظام السابق، و ربما لن تسلم شخصيات من قبيل السادة نجيب الشابي أو الطيب البكوش أو غيرهم من تهم مماثلة. و على هذا النحو فإن دعوة البيان الختامي لمؤتمر حركة النهضة الأخير لإقصاء رموز النظام السابق من العودة إلى الحياة السياسية، ليست دعوة لإقصاء أسماء مثل السادة محمد الغرياني أو الشاذلي النفاتي أو عبد الرحيم الزواري أو عبد الله القلال أو عبد الوهاب عبد الله، فهؤلاء قد جرى إقصاؤهم عمليا و لا يظنن عاقل أنهم يفكرون في غير استعادة حريتهم و الاستقالة لحياتهم الخاصة، إنما المقصود كما هو بين إقصاء هؤلاء الذين اختار عدد كبير منهم في السابق النضال بشكل أو بآخر، و لمدة طويلة أو قصيرة، من داخل النظام لدفعه ليكون أقل فردية و استبدادية و فسادا، و هم كما أزعم أغلبية داخل النخب السياسية و الثقافية التونسية. تجريم الاعتداء على المقدسات و أسلمة التعليم و لعل أخطر ما في موضوع البيان الختامي لمؤتمر حركة النهضة، التاسع عددا و الأول علنية، مناشدة المؤتمرين قيادة الحركة العمل على تجريم الاعتداء على المقدسات و تحقيق التوافق بين البرامج التعليمية و الهوية العربية الإسلامية. و أما بالنسبة لتجريم الاعتداء على المقدسات، فمعناها في سوق "الصرف السياسي"، توجيه رسالة للمثقفين و الفنانين و الكتاب و الشعراء و سائر المبدعين، بأنه قد أضحى لإبداعاتهم و إنتاجاتهم ضوابط فكرية و دينية، ليس هم من يقوم بتحديدها من أنفسهم، و أن ما ستجود به قريحتهم و أناملهم و عقولهم و أنشطتهم سيكون محل نظر و تمحيص و تدقيق، و أنه سيكون من حق الشرطة الدينية (التي سيجري تشكيلها قريبا) ممارسة الرقابة عليه، و منحه تأشيرة العرض على الجمهور، في حال تبين أنه لم يمس المقدسات أو يلحق بها ضررا. و لا يعلم أحد طبعا، تأويل عبارات "المقدسات" و "المس بها"، كما لا يعلم أحد أيضا ما إذا كان الله عز و جل، أو أنبياءه و رسله و كتبه و ملائكته، بحاجة إلى عضلات أعضاء حركة النهضة و أخواتها المفتولة للدفاع عن مقدساته، و ما إذا كان هو عاجز – حاشاه تقدس اسمه في السماوات العلى- عن الانتقام ممن مس مقدساته أو ألحق بها حيفا، و ما إذا كان الإسلام قد استفاد يوما من مثل هذه الأجواء التي يزايد فيها مسلمون على مسلمين آخرين بأنهم أكثر غيرة على دين الله و مقدساته منهم، بل ما إذا كان غرض هؤلاء فعلا الغيرة على الإسلام و رموزه أم تحقيق أهداف دنيوية محضة من وراء هذه الغيرة القاتلة المجرمة أحيانا. ناهيك عن دعوة المؤتمرين إلى تحقيق الاتفاق بين المناهج التربوية و الهوية الإسلامية، و في هذه الدعوة افتراء من جهة على مناهج المدرسة التونسية التي طالما خرجت إلى المجتمع عربا و مسلمين، و لا أدل على ذلك من هؤلاء الإسلاميين الذين يسدون عين الشمس عددا، إلا أن مشكلة هؤلاء تبدو في روح التجديد و العصرنة التي طالما ميزت هذه المناهج و حالت دون تخريج متطرفين و منغلقين و متعصبين..إلا من شذ عن القاعدة و ذلك وارد في مجتمعات الدنيا جميعا..