د. خالد شوكات* لم يجد المتابعون للشأن التونسي ما يكفي من المبررات المقنعة لإقدام السلطات قبل أيام على اعتقال والدة الشهيد محمد البوعزيزي "إيقونة الربيع العربي" و إيداعها المعتقل ثم الإفراج عنها بعد الحكم عليها بأربعة أشهر سجنا مع تأجيل التنفيذ، و بدا الأمر عنوانا كبيرا للجحود و نكران المعروف و إهانة مباشرة لأهل المحافظة التي أعادت بناء تونس و العالم العربي. و تشير حيثيات الواقعة إلى أن أم الشهيد البوعزيزي، و هي إمرأة ريفية أمية و بسيطة، أساءت إلى أحد الموظفين الحكوميين المحليين و قامت بثلب السلطة العامة، و كان بمقدور أهل الحكم أن يأخذوا أم الشهيد برأفتهم و سعة صدرهم، إن لم يكن من باب تقدير سنها المتقدم و تواضع إمكانياتها الثقافية، فمن باب الاعتراف بالجميل و الامتنان لمن قدم روحه قربانا للتغيير في بلده و محيطها العربي و الإسلامي. لقد علق أحد وزراء الحكومة التونسية السنية على اعتقال أم الشهيد البوعزيزي، بالقول أن "لا أحد فوق القانون في تونس"، و لا شك فعلا في أنه ليس من أحد من الفقراء و الضعفاء و البسطاء في تونس اليوم فوق القانون، لكن كثيرا من أهل الحكم و الحظوة و المال و السطوة، من الأنصار و الأقرباء و الأصهار و الداعمين بالأموال و الأنفس فوق القانون، فليس من مراجع لسيرة التسعة أشهر الماضية من عمر حكومة الإسلاميين، بمقدوره تصديق هذا الوزير أو أيا من زملائه في مثل هذا القول أو سواه من الأقوال، فأخطاء الحكومة و زلات أعضائها فاقت كل حد و يصعب التورية عليها باستضعاف مسكينة كأم البوعزيزي. و إن ما لم ينتبه إليه في تفسير حادثة اعتقال أم الشهيد البوعزيزي، و حوادث كثيرة أخرى، أن نظرة الحكومة التونسية المنتخبة ل"سيدي بوزيد" (المدينة و المحافظة) قد بدت أبعد ما يكون عن نظرة الشكر و التقدير و الاعتراف بالجميل، و أن الصلة التي قامت بين "القصبة" (مقر الحكومة) و مدينة الشهيد البوعزيزي، أقرب إلى تلك الصورة التي تترجمها عقدة "أوديب"، و أن ثمة رغبة كبيرة لدى بعض أهل الحكم – حتى لا يقال كلهم- في اغتيال معنوي لرمزية هذه المدينة. إن أي زائر لسيدي بوزيد، سواء تعلق الأمر بمركز المحافظة أو بقية مناطقها و مدنها، سيشعر بلا ريب، بحالة احتقان و غضب و مرارة و إحساس بالغبن، تجتاح سكانها، و خصوصا الشرائح الشابة من بينهم، حيث لا يتردد هؤلاء في إبداء نقدهم اللاذع لسلوك الحكومة و سياساتها، إذ لم تقابل تضحياتهم بالتقدير اللازم و لم يظهر في أفق المدينة منذ نجاح الثورة التي انطلقت شرارتها من أحيائها الفقيرة و أقضيتها المعدمة، إلا مجموعة من الإهانات المتعاقبة، انطلقت بالتجرؤ على تزوير نتائج الانتخابات في دائرتها، و استمرت بموجات اعتقال و قمع للاحتجاجات الاجتماعية المطالبة بالعدالة الاجتماعية و التنمية العادلة، و اختتمت قبل أيام بوضع أم شهيدها الذي صنعت له التماثيل في السجن. و إذا ما وضع في الاعتبار أن دوافع الثورة التونسية كانت في مقام أول اجتماعية و تنموية، و أن شباب سيدي بوزيد، ثم شباب المحافظات المهمشة، كانت مطالبه مركزة على التشغيل و مكافحة الفساد، فإنه سيكون مفهوما دوافع ردات الفعل الغاضبة التي لم يتوقف هؤلاء الشباب عن القيام بها و الإفصاح عنها، و ربما لا يصدق أحد أنه و بعد ما يقارب العامين على انطلاق الثورة، أنه لم يبن مصنع واحد في هذه المنطقة المحرومة، أو يؤسس مشروع تنموي قادر على استيعاب مائة عامل أو موظف، في وضعية تعد عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل، غالبيتهم من حملة الشهادات الجامعية العليا. و لعل ما عمق الفجوة النفسية و السياسية بين الحكومة و سيدي بوزيد، أن أهل الحكم لم يغفروا بعد لسيدي بوزيد أنها الدائرة الانتخابية الوحيدة من مجموع سبعة و عشرين دائرة، التي لم يفز فيها حزب الإسلاميين بالمرتبة الأولى، و أنها أول منطقة قام المحتجون فيها بإحراق مقرات الحزب الإسلامي الحاكم قبل أن يتولى الحكم في حادثة عدت المؤشر الأول بحسب خبراء الأزمات الدولية، لإمكانية وقوع ثورة ثانية ذات طبيعة اجتماعية هذه المرة. و كان التفكير السياسي السليم يقتضي أن تحظى سيدي بوزيد و القصرين و سائر المناطق التونسية المهمشة، باعتبارها اختبار التغيير الثوري الحاصل في تونس و العالم العربي، بالأولوية في البرامج التنموية الحكومية، و أن تكون محل اهتمام حكومي مباشر على مستوى المبادرة إلى تطوير البنى التحتية و الاستثمار الاقتصادي العمومي في حال إحجام القطاع الخاص عن المشاركة في ذلك، إلا أن ما فاجئ المهتمين تبلور سلوك حكومي بارد و غير مبالي، إلى درجة أوكلت فيها الحكومة المركزية مسؤولية هذا التغيير في المنطقة الاستثنائية إلى المحافظ (الوالي) المجرد من أي صلاحيات أو إمكانيات حقيقية. و لا يقتصر الشعور بالغضب و الغبن في تونس اليوم على سيدي بوزيد فحسب، بل إن عائلات شهداء الثورة و جرحاها و غالبية الشباب الذين كانوا عمادها، يحملون بين جنباتهم شعورا مماثلا، و لا يجدون حرجا في القول بأنهم لم يفجروا هذه الثورة لإعادة زيد أو عمر من منفاه ليصبح رئيس جمهورية أو وزير أو مستشار، و لم يقدموا أرواحهم و أجسادهم ثمنا لإسقاط نظام فردي مستبد من أجل إقامة "ديكتاتورية ناشئة" تسهر على بنائها جماعة مستبدة بخطى ثابتة..إن سيدي بوزيد ستظل مؤتمنة على رسالة الثورة ومسارها، و ذلك ما يجب أن يفهمه حكام تونس الجدد و نظرائهم في دول أخرى. د. خالد شوكات