بقلم شكري بن عيسى (*) وجب الإشارة في البداية الى انه كان لزاما التحول الى قناة "الجزيرة" المذمومة ليلا نهارا وخاصة من الاتحاديين وذلك لإكمال متابعة مضامين الندوة الصحفية الهامة والخطيرة التي قام بها الرباعي للإعلان على نتائج الحوار الوطني.. وصراحة يمكن القول ان هذه الندوة هي الأخطر في تاريخ تونس.. ولكن لماذا تم قطعها وممن؟؟ خاصة بعد ان اتضح اتجاه الرباعي في عدم إعلان فشل الحوار والإعلان على حصول اتفاق (وليس توافق) على مرشح رئاسة الحكومة.. وحقيقة لا يمكن تبني مبدأ "حسن النوايا" هذه المرة لأن مسألة بهذه الخطورة لها كثير من الأبعاد وواضح الى حد عالي وجود اتجاه لل"تنغيص" على الاتحاد وعلى الأحزاب التي استمرت الى النهاية في الحوار والتصويت.. وستثبت الأيام ان المسألة لم تكن بريئة.. وهي تصل فعلا الى حد الخيانة.. النداء الذي لطالما ادعى الديمقراطية الزائفة انسحب منذ البداية وأثبت ان غرضه من الحوار ليس سوى المصلحة الذاتية لوصول السبسي للرئاسة او فبعدي الطوفان.. وسقطت بالفعل الى الأبد ادعاءات "التداول" و"التوازن" و"الديمقراطية".. وحتى الاتحاد فقد نال منه الأذى الكبير وأذاقه "المُرَّار".. ولكنه صبر عليه وكان محقا في رؤيته.. وجعله يقصي نفسه بنفسه.. ولم يشأ قبل أسابيع بعد اتضاح الأمور ان يعلن عرقلته للحوار حتى لا يظهره في ثوب الضحية.. أخيرا يبدو ان صحن الكفتاجي هو الذي أوصل جمعة لرئاسة الحكومة.. وذلك الصحن الكفتاجي العجيب لم نعرف الى حد الآن أسراره كيف صُوِّر وكيف نشر في إحدى الصفحات .. ثم انتشر كما النار في الهشيم.. ولا ندري ان كان جمعة النكرة الذي لا يملك رصيدا مميزا.. احد نواب السي بي آر وصفه قبل أسابيع على صفحته في الفايسبوك بأنه "مندس" في حكومة الترويكا ولا ندري ان كان تم "دسه" كذلك في الحوار لتقبل به الترويكا.. وترى فيه انتصارها.. كان لا بد من الرجوع الى الاتحاد والعباسي لتحيته فعلا على صبره وجلده وتركيزه ولكن أيضا حنكته وخطابته ورؤيته الواضحة للأمور برغم المنغصات والصعوبات والمناوءات.. شَكرَ الأحزاب والشعب والرباعي.. وكان متحسسا لنبض الشارع من خلال الاستبيانات التي عرضها بالتفصيل وأثبت انه كان متابعا جيدا لها.. قلل من أهمية انسحاب النداء وامتناع البعض عن التصويت.. واعتبر ان الجميع لازال في الحوار برغم تصرف النداء الناشر.. وبذلك اثبت نضجا وصبرا وجلدا.. "نسمة" قطعت كل اتصال بمجلس المستاشرين خلال ندوة النهضة الصحفية.. النهضة فعلا كانت من أكبر الرابحين برغم مغادرتها القصبة.. أثبتت قدرة على التحمل والمناورة والتقبل.. كما كانت وفية الى آخر لحظة الى المرشح الذي اختارته منذ البداية.. وهذا أمر يحسب لها ولم تتخل عنه الا عند الضرورة القصوى.. النهضة ستفوت فرص لتأزيم الأمور في الأيام القادمة "الساخنة" على مناوئيها.. وساعدها أساسا الاتحاد الذي اثبت انه ليس مرتبطا بأجندتهم الحزبية.. وايضا ساعدها مواقف نداء تونس والجبهة الشعبية المهزوزة.. الجبهة الشعبية تُحَيَّ على كل أنها لم تعترض على المسار في النهاية.. ولم "تلو العصا" في يد الاتحاد صراحة.. برغم اعتراضاتها.. وهذا يُحسَبُ لها.. ومن حقها في النهاية ان تعبر عن مواقفها غير المساندة واحتجاجاتها.. الجبهة الشعبية تحدثت عن الحبيب الصيد وعن اعتراض النهضة عليه وهو المتورط في قضايا اعتداءات وتعذيب وتصفية الثورة خلال فترة حكم السبسي.. وكان الموقف الأكثر غرابة في المشهد!! في النهاية يجب الإقرار بوجود نجاح نسبي لتونس وللثورة.. الأكيد انه وقع الدفع في النهاية للاختيار بين السيء والاسوأ.. وأكيد ظهر النداء خلال الحوار كفاعل أساسي.. وايضا ظهرت عدة أحزاب مفرخة عن التجمع ك"شريك".. اليوم ربما الأهم هو عدم حصول كوارث أمنية قد تذهب بالوطن والثورة.. وفي وجود اتجاه ثابت أكده خاصة الاتحاد وقد اصبح ضمانة.. في اتجاه إكمال الدستور وإجراء الانتخابات في الظروف المستوجبة.. وسيكون رقيبا على الالتزام ببنود خارطة الطريق مع الرباعي والأحزاب.. القوى الوطنية حمَّمت الى حد كبير حياة التونسيين ولكن المهم أنها تداركت الامر وجنبت الشعب والوطن في الوقت البديل الأزمة المدمرة!! أضعنا فعلا حل الحكم المشترك بين المستيري ومحمد الناصر والنابلي.. وهو من أكثر المقترحات التي جاء بها التحالف الديمقراطي وذهبت بين الركام.. التحالف رسَّخ فعليا توجه المسارات الإيجابية بقبوله بصيغة الحكم المشترك في مرحلة أولى ثم رفضه الترجيح لفائدة مرشحه محمد الناصر على حساب المستيري في الأمتار الأخيرة للسباق انطلاقا من مبدأ توافقية الحل وفي مرحلة أخيرة قبوله بالمرشح الذي لم يصوت عليه والمنتخب بالأغلبية مهدي جمعة.. السي بي آر في المقابل بقدر ما كان موقفه في البداية استشرافيا ومصيبا في خصوص عدم واقعية المحطات والآجال فانه فوَّت فعلا فرصة أكيدة في ترجيح كفة المستيري بالرجوع الى طاولة التفاوض في المرحلة الأخيرة.. ونفس الشيء ينطبق على حزب محمد القوماني.. ما يجب التأكيد عليه في الختام أن الضغط الشعبي والإدانات المباشرة على اتحاد الشغالين وخاصة الدفع الحاسم للاتحاد الأوروبي من جهة وآلتداعيات الخطيرة على مستقبل البلاد جعل المنظمة النقابية الراعية للحوار أمام حل وحيد بالوصول الى اتفاق حول شخصية مرشح رئاسة الحكومة وطرح إمكانية فشل الحوار نهائيا.. ساعدها مواقف شركائها في الإشراف المرنة رئيسة اتحاد الصناعة ورئيس الرابطة وخاصة عميد المحامين الذي أثبت نضجا واتزانا وكفاءة في ادارة الحوار وتصريحات بدت في كل الوضعيات الصعبة مسؤولة ولكن أيضا متفائلة ومبشرة وهذا الأهم.. وجعلت الخيط لا ينقطع.. جبهة الإنقاذ كانت في المحصلة بمناوراتها المكثفة اكبر الخاسرين.. دخلت متماسكة للحوار وأجبرت الجميع في البداية على التخلي على "الشرعية الانتخابية" وحققت انتصارا في البداية ما لبثت ان فرطت فيه بخروجها في موقع الرافض للتصويت القابل بالنتيجة وفي نفس الوقت مع خلافات في مسارات الحوار أدت الى تفتت داخل الاتحاد من أجل تونس وايضا الى انسحابات قاتلة لقيادات من الصف الأول داخل النداء الذي خرج بآضرار فادحة على راهنه ومستقبله السياسي خاصة وانه بخروج النهضة من الحكم سينتهي تقريبا دوره التوحيدي لجبهة المعارضة والمحقق للنجاحات الشعبية التي حصدها على مدى الفترة الوجيزة السابقة لانطلاق الحوار.. ويبقى لصحن الكفتاجي الذي جمع جمعة بالسفير الألماني السر الحاسم ربما في الوصول المنتظر لجمعة للقصبة بعد الدعم المرجح له من قبل الاتحاد الأوروبي عبر ألمانيا التي لعبت دورا إيجابيا جداً في حل الأزمة الخانقة التي واجهها البلد.. وهو ما يؤشر لدور مستقبلي هام لهذا البلد في تونس وافريقيا بعد الربيع العربي.. قد يضع حدا للتوازنات الإقليمية والدولية التقليدية المؤثرة داخل الساحة الوطنية ولكن أيضا يثير اشكالية في قلب الثورة التونسية وهي الاستقلال والسيادة الوطنية الذين أصبحا اليوم مطلبا ملحا بعد تصاعد التدخلات الخارجية التي تجلت لحل أزمة الحكم بتونس منذ اغتيال شكري بلعيد وتعمقت بعد اغتيال البراهمي!