بقلم وسام الأطرش لم يعد أمر الشريعة مطروحا في الدستور لدى نخبتنا المثقفة، فهي تريد أن تنأى بأبناء الشعب عن الرجعية والتخلف بما يسهم في بناء مسار الحداثة المنشودة والديمقراطية المعبودة. ولم يعد مرغوبا لديها، عودة الإسلاميين إلى الحكم بالرغم من قدرتهم العجيبة على القبول بنتائج قرعة التوافق الوطني. ولم يعد للثورة وأهدافها ذكر على ألسنة هؤلاء إلا من باب احتكارها وادعاء تمثيلها، بما يطرح تساؤلات عديدة حول طريقة تفكير هذه النخبة التي صار واضحا أنها تعيش في قطيعة تامة مع أبناء شعبها فكرا وشعورا، دون وعي على حقيقة هذه القطيعة، ما يبقيها في حالة غيبوبة دائمة. فبعيدا عن آلام الشعب وآماله، تم تأسيس مجتمع افتراضي مقدس، لا يعيش بين الناس، ولا يأكل مأكلهم ولا يلبس ملبسهم، وإنما يطل عليهم عبر عدسات إعلام لا يغادر في مجتمعهم المصون صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، حيث ينقل الندوات والمؤتمرات والاجتماعات لمن اعتبرهم أهل الحل والعقد، فيوقعون باسم الشعب التونسي صكوك الغفران، ويحتكرون قيادته وتمثيله، ويخوضون من أجله المعارك والنضالات الوهمية ضد فزاعة الإرهاب التي صنعت من أجل عيونهم، بل من أجل استمرار نزول الوحي على مبعوثي العناية الغربية. وهكذا، صار الحل لدى أهل الحل، هو حل كل ما من شأنه أن يمس قداسة أهل الحل والعقد، أو يشكك في نزاهتهم، مع احتكار النشاط والحراك، بحيث يُفرَضُ تجميد نشاط كل من بقي خارج دائرة المجتمع المدني. فمن رابطات حماية الثورة إلى الجمعيات الخيرية إلى المدارس القرآنية إلى تحييد المساجد وطرد أئمتها من المنابر إلى غيرها من مقتضيات نبوغهم وحكمتهم، نحو حل كل ما يمكن أن يستغل كأداة لنزع القداسة عن هذا المجتمع الذي كاد يدعي النبوة بعد احتكار العلم والنور، والفسحة والسرور، وكأنه قد كتب لأبنائه الخلود في الأرض. أخيرا، نطق بعضهم بضرورة حل حزب التحرير قضائيا وتجميد نشاطه، وذلك بسبب دعوته الصريحة لإقامة الخلافة التي تناقض الدولة المدنية، فضلا عن حملات تشكيكه بل رفضه للدستور التوافقي الذي وقع عليه المجتمع المدني إثر النزول من على ظهر الحمار الوطني. دستور ينص على حرية المعتقد والضمير وحرية الرأي والفكر والتعبير، سقط في أعين الناس ابتداءً حين طرد نواب المجلس التأسيسي عند عرض بضاعتهم التشريعية في كل من سيدي بوزيد وقفصة وسوسة والمنستير وتوزر والكاف. ثم سقط مع أول اختبار، حين أصر حزب التحرير ضمن مؤتمره السنوي على رفضه جملة وتفصيلا، فثارت ثائرة بعض رموز هذا المجتمع الإفتراضي من وجود رأي وفكر وتعبير مخالف لآرائهم وأفكارهم وتعبيراتهم، فأشهروا سلاح الإقصاء وعاد الحل لدى أهل الحل والعقد، حلّ من سوّلت له نفسه إبداء رأيه في الدستور المقدس، بعد أن اكتشفوا فجأة وبعد ثلاث سنوات من نشاطه الجماهيري بل بعد عقود من تجذره في الأمة، أنه حزب يدعو إلى الخلافة ويرفض الدساتير الوضعية ويهدد الدولة المدنية ومجتمعها المدني، وكأنه يدعو إلى دولة بوليسية أو عسكرية لا إلى دولة بشرية، مشهرين في وجوه الناس فزاعة النموذج الداعشي المتسلط. طبعا هذا الدستور الذي يُحاكَم حزب من أجله في آرائه وأفكاره، لم يعرض على استفتاء شعبي، إذ كيف يفكر مجتمعنا الإفتراضي في فضح نفسه وكشف حقيقة حجمه وتمثيليته للناس، لذلك لم نعد نعجب أن يطالب بعضهم استكمالا لمسار ممارسة الوصاية الفكرية على الناس، بحل الشعب التونسي وتجميد نشاطه، هذا إن لم يظهر من يطالب بتصديره وترحيله إلى بلد آخر أو ربما إلى كوكب آخر، من أجل عيون المجتمع المدني ودولته المدنية وحكومتيه المؤقتة والمؤبدة. أما الشعب المسكين، فلا يحق له أن يفكر يوما في استعادة سلطانه من فقهاء الدولة المدنية الحديثة أو يخلص نفسه من استبداد رجال كنيسة الديمقراطية !