قد يُخيل للبعض أن الجبهة الشعبية هي التي تعرض أو تفرض شروطها، إلا أن الثابت هو أنها ونداء تونس قد اقتربا من بعضهما البعض، وهناك "لجنة تنسيق" تأسست لينتظم في إطارها الحوار بينهما بحضور مكونات أخرى. ولا أجادل في شكل ومدى هذا التقارب سواء اقتصر على الالتقاء الميداني كما هو مشهود منذ أشهر، أو كان في إطار "ائتلاف وطني" مثل الذي دعت إليه الجبهة الشعبية أو في أي إطار آخر. المهم أيضا أن معالم الخارطة السياسية أصبحت أوضح بكثير عما كانت عليه في الأسابيع والأشهر الفارطة. بحيث يتقاسمها الآن محوران أساسيان: يتمثل أحدهما في الترويكا الحاكمة ويتواشج معها عدد آخر من الأحزاب الصغيرة. ويتمثل المحور الآخر في حركة نداء تونس ذات الرأس اليساري والجسد التجمعي، وقد تشكل حولها حزام أول من الأحزاب الصغيرة لتكوّن مجتمعة ما يسمى "الاتحاد من أجل تونس"، وها هي تنجح أخيرا في تشكيل حزام ثان حولها يتمثل في أحزاب الجبهة الشعبية نفسها. ومع أن ذلك تم كما هو واضح طبقا لقاعدة "عدو عدو صديقك" فإن حركة نداء تونس قد بينت قدرة فائقة على الاستقطاب والفعالية الميدانية. إلا أن هذا الوضوح الذي تبدو عليه اليوم الخارطة السياسية، كان بالتخلي عن المفاتيح التي كانت تستعمل خلال الثورة، بحيث لم يعد الاصطفاف بمثل ما كان عليه منذ سنتين: ثورة وثورة مضادة، أو يمين مقابل يسار، أو ليبراليون واشتراكيون، أو مستفيدون من الثورة وخاسرون منها، أو تقدميون ورجعيون. فقد تداخلت خطوط التماس تماما، وساد السلام الطبقي. وبلغة الهندسة الإقليدية التقى الخطان المتوازيان، اليمين الليبرالي واليسار الاشتراكي، البرجوازية بما فيها الكمبرادورية والناطقون باسم البروليتاريا أو "الزواولة" في اللغة التونسية. وفي انتظار ما يستوجبه ذلك من آليات جديدة للفهم والتحليل، يمكن الإحالة إلى فرادة الثورة التونسية التي أسفرت عن المشهد الحالي الذي يتعانق فيه الثوار مع من ثاروا ضدهم. وهو ما يعني في نهاية التحليل أن الأوائل ندموا على ما فعلوا. أما في لغة الحساب، فهناك ولا شك خاسرون ورابحون في جميع الصفوف. والواضح أن أكبر الرابحين هم أولئك الذين يتهيؤون اليوم للعودة إلى مواقعهم القديمة ، ويبقى الرثاء لأولئك الذين كانوا إلى اللحظات الأخيرة يخطون على الجدران أو يصيحون في المظاهرات "لا دساترة لا خوانجية" أو "لا تجمع لا نداء"، أولئك الشبان الذين كانوا صادقين مع أنفسهم، فإذا بهم يُجبرون اليوم على ترك كل ذلك للنسيان. نعم نتذكر جيدا أولئك الذين تخلوا عن مطالب أخرى منذ الثورة، عن النظام البرلماني مثلا وعن تفعيل العفو التشريعي العام أو حتى عن جدوى المجلس التأسيسي فضلا عن الموقف من العزل السياسي لرموز النظام البائد. إلا أن الأهم من ذلك أنهم يتقاربون اليوم ممن ثاروا ضدهم بالأمس، وبقدر ما يدلل ذلك على تطور مسارهم ميدانيا بقدر ما يشكل مأزقا نظريا وتاريخيا أيضا. ويبقى الرثاء للتلاميذ النجباء والأغبياء معا.