للمرة الثانية وبعد أقل من 6 أشهر من اغتيال شكري بلعيد تجد الترويكا نفسها في امتحان مواجهة الإرهاب السياسي الأعمى، ومحاولات توظيفه واستثماره سياسيا من قبل بعض خصومها السياسيين لإسقاط النظام وإلغاء شرعية انتخابات 23 أكتوبر، التي يمثلها المجلس الوطني التأسيسي. اغتيال شكري بلعيد جاء في سياق صعب للترويكا التي أنهكتها بشدة مفاوضات التحوير الوزاري، والصراعات داخلها من أجل اقتسام الحقائب الوزارية، وتعديل موازين القوى التي كانت بعض الأطراف ترى أنها تميل لصالح النهضة، باعتبار ثقلها في المجلس التأسيسي. وكانت "صدمة"حقيقية كثيرين إلى توقع نهاية النظام، أمام القصف السياسي والإعلامي الداخلي والخارجي، والمواقف المعادية التي كان من أكثرها دلالة على شدة الحملة التصريح الشهير لوزير الداخلية الفرنسي فالس. الترويكا صمدت، وتجاوزت محنة الاغتيال بثبات ، بتمكنها من تشكيل حكومة جديدة برئاسة على لعريض، وتحييد وزارات السيادة، والإعلان عن قتلة شكري بلعيد في وقت قياسي. طريقة التعاطي مع " انقلاب 6 فيفري" أظهرت وعي مكونات الترويكا بضرورة تلافي أسباب الأزمة التي كادت تقود البلاد إلى الهاوية. ويلاحظ هنا: أولا : تحسن الأجواء داخل الترويكا وتراجع حالة الاحتقان التي سادت في مفاوضات التحوير. ويسجل بالخصوص عودة الدفء للعلاقة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، والتنسيق الواضح بين الرئاسات الثلاث. ثانيا: نجاح خيار الانفتاح والحوار من طرف الرئاسات الثلاث، والأحزاب المشكلة للترويكا في التخفيف من حالة الاحتقان التي شهدتها البلاد قبل اغتيال بلعيد. ولعب رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، دورا كبيرا في ترسيخ هذا المسار الى الحد الذي جعله محل انتقادات من قواعد حركته جراء ما وصف " بالتنازلات المؤلمة" التي قدمها في الحوار الوطني وخاصة بعد تخلي النهضة عن النظام البرلماني. ثالثا: نجاح الحكومة في استعادة الأمن، وذهابها شوطا بعيدا في محاربة ارتفاع الأسعار وتوفير المواد الغذائية والسلع الضرورية إلى جانب نجاحها في قطاعات عديدة شهدت صعوبات وتعثرات في عهد الحكومات السابقة. رابعا: التوفق إلى إنهاء مسودة الدستور، والشروع في انتخاب هيئة الانتخابات بما أكد جدّية التزام الترويكا بإجراء الانتخابات قبل موفى السنة الحالية أو في أقصى الحالات بداية السنة القادمة. خامسا: وجود إجماع دولي على نجاح التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي من خلال نموذج التعايش بين العلمانيين والإسلاميين، وإعلان حركة النهضة في أكثر من مناسبة أنه لا يمكن لأي حزب تونسي احتكار السلطة، وأن المرحلة الانتقالية لا تدار إلا بالتوافق وأن نمط الحكم سيكون بالضرورة في السنوات القادمة ائتلافيا لا مجال فيه لهيمنة طرف على الساحة السياسية. الترويكا تبدو اليوم في مواجهة جريمة الاغتيال النكراء التي تعرض لها محمد البراهمي متماسكة، مستفيدة من تفاعلها الإيجابي مع صدمة " 6 فيفري" التي راهنت بعض القوى على أن تؤدي لعزل حركة النهضة وتفكيك حلفها مع المؤتمر والتكتل. ولكن الواضح أن الترويكا استوعبت الدرس. وأن حركة النهضة المستهدفة في المقام الأول من محاولات إسقاط النظام لم تقع في الفخ المنصوب لها حين اختارت الانفتاح والتنازل المدروس عوض الانغلاق، والتصلب في المواقف، والتضحية بوزارات السيادة عوض التمسك بالسلطة وتقويض النظام، وحين كثف رموزها وفي مقدمتهم رئيس الحركة راشد الغنوشي تصريحاتهم وتحركاتهم الداعمة لتنقية الأجواء السياسية، وتشجيع المسارات التي تضمن المحاسبة العادلة وتفكيك منظومة الاستبداد، بما يقود لمصالحة وطنية شاملة جدية، تطوي صفحة الماضي وتمنع عودة الدكتاتورية. الراحة التي تشعر بها الترويكا في إدارة الموقف الحالي، تدعمت دون شك بالإعلان في وقت قياسي عن هوية قتلة محمد البراهمي، وهم قتلة بلعيد، وهو ما يقيم الدليل على استعادة الأمنيين ثقتهم في أنفسهم بعد موجة الإرباك التي تعرضت لها المنظومة الأمنية بعد الثورة، ومن أطراف تنمي لتيارات تمثل مركز الثقل في الجبهة الشعبية. ويمكن أن يدعمها الانفتاح على المبادرات الوطنية الهادفة لتوسيع الحكومة الحالية، لتكون حكومة وحدة وطنية، والإعلان النهائي عن مواعيد ثابته لإنهاء الأعمال الدستورية والانتخابات. وهما الورقة التي تصر الأطراف الساعية لإسقاط النظام على لعبها منذ أكثر من سنة. والواضح إجمالا أن محاولة الجبهة الشعبية اصطناع أزمة سياسية، بعد اغتيال محمد البراهمي، ومسارعة حمة الهمامي للإعلان عن إجراءات انقلابية على الشرعية، تصطدم حاليا: أولا: بتماسك الترويكا وبما أبدته من مؤشرات انفتاحية وقبول للحوار تحت سقف الشرعية ثانيا:بوعي عديد الأطراف السياسية بأن مسار الانتقال الديمقراطي سليم، وأنه قد يحتاج مبادرات لتدعيمه لا محاولات للانقلاب عليه والإطاحة به ثالثا: بالحرج الذي وجدت فيه "النخبة الديمقراطية" نفسها بعد دفاعها عن الانقلاب العسكري في مصر رابعا:استعداد الدولة ومؤسساتها وخاصة الجيش والأمن لحماية الثورة من محاولات ارجاع النظام القديم، والزج بالبلاد في دوامة الفتنة والحرب الأهلية. ووعي الإدارة التونسية بخطورة ما تدبره بعض الأطراف الخاسرة في الانتخابات للعودة عبر بوابة " الإنقاذ الوطني" و "العمل الثوري" الذي اتخذته بعض الأطراف ذريعة بعد فرار المخلوع ، لاختطاف اتحاد الشغل، وتسخيره ، لتدمير الدولة، والاقتصاد الوطني، وتفكيك الإدارة التونسية، واستهداف الكفاءات الوطنية، والمؤسسات السيادية ومنها الأمن الوطني بالخصوص. خامسا: بصعوبة إقناع العالم بفشل تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، مع كل الخطوات التي قطعتها نحو ترسيخ الوفاق وكتابة دستور توافقي يمثل كل التونسيين، وتصدي الحكومة للعنف ودعاته، وسير بالبلاد بخطى حثيثة نحو الانتخابات مع تأكيد النهضة القطعي بأنها ستسلم الحكم في حال خسرتها. ويبقى الحصن الحصين للثورة ومسار الانتقال الديمقراطي ، في مواجهة العنف الثوري ومحاولات الانقلاب على الشرعية، هو وعي التونسيين بأن الظرف العام في البلاد لا يبرر الدعوات لإسقاط النظام أو لتشكيل حكومة إنقاذ وطني، جعلتها الجبهة الشعبية برنامجها السياسي الوحيد دون أن تحدد ممن ستنقذ البلاد، وكيف، وخاصة لماذا كل هذا الاستعجال لإسقاط الحكومة رغم أن الانتخابات لم يتبق لها أكثر من بضعة أشهر، ليحسم التونسيون خيارهم بكل حرية وديمقراطية ومسؤولية، وبعيدا عن مخاطر العنف والفوضى التي يتبناها اليسار المتطرف الذي أظهر أنه عدو الديمقراطية، بل ألد أعدائها.