افتتاحية الضمير - بقيلم محمد الحمروني انتقال ديمقراطي وفاقي أم الفوضى ودولة الاستبداد الثوري؟ مرة أخرى تضرب يد الغدر في قلب الوطن، وتستهدف من خلال اغتيال المرحوم محمد البراهمي الثورة والدولة. اغتيال جاء بعد الإعلان عن قرب الكشف عن قتلة شكري بلعيد، وفي الربع الساعة الأخير من الانتهاء من ترتيبات المرحلة الانتقالية، بعد إنجاز مسودة الدستور، وانتخاب هيئة الانتخابات. وهو ما كان سيعطي أملا للتونسيين طالما انتظروه وطالبوا به وهو الانتهاء من مرحلة المؤقت والذهاب إلى الانتخابات واستكمال بقية استحقاقات الثورة. الأيادي التي توجهت الى البراهمي أيا كان لونها، وأيا كانت دوافعها، آثمة، مجرمة، تستحق العقاب الرادع والمعالجة الحاسمة والحازمة لآفة العنف التي تراجعت كثيرا في الأشهر الأخيرة، قبل أن يطل الإرهاب الأعمى برأسه من جديد. الجريمة النكراء، رافقتها جريمة لا تقل عنها خطورة، وهي محاولة استثمار دماء الشهيد الزكية، سياسيا لتحقيق هدف أصبح مقترنا باسم حمة الهمامي والجبهة الشعبية وهو إسقاط النظام، وتعويض الحكومة الحالية بحكومة انقاذ وطني. البعض وبدل البحث في الأهداف المراد تحقيقها من العملية، ومغزى توقيتها، وغيرها، سارع الى الركوب على الحدث واستثمار دم الشهيد، والمأساة التي أصيبت بها العائلة، ليوجه تهما جاهزة ومعدة سلفا الى طرف معين وشخص معين يراد اليوم شيطنته، وتقديمه قربانا لعودة دولة القمع والاستبداد، تماما مثلما وقع بعد اغتيال بلعيد. حمة الهمامي انتهز فرصة الاغتيال وأعلن بداية تنفيذ الأجندة التي أنكرها من قبل، وقال إنها مجرد دردشة صحفية. الهمامي قال إنه لا يريد الحرب الأهلية، ولا يريد إحراق البلاد، ولا يريد دفع الأمور في اتجاه الفوضى، ولكنه سارع إلى تلاوة "بيانه الأول" متصورا أن حظه هذه المرة سيكون أفضل من حظه بعد اغتيال بلعيد، وأنه سيجد أجواء تجعله "السيسي التونسي"، ليعود بالسياسة إلى عصر الانقلابات الحمراء، ويكرر تجربة البلاشفة الذي أطاحوا بالقيصرية ب 7 آلاف رجل فقط. هذا هو حلم الهمامي، الذي يتجاوز طرد النهضة من الحكم إلى تصفية حسابه مع الدولة ومع الثورة التي تخلت عن الرفيق حين أوصلت خصومه الأيديولوجيين إلى السلطة عبر صناديق الانتخاب. حمة الهمامي هو السياسي التونسي الوحيد الذي رفض الترشح في انتخابات أكتوبر، والسبب معروف وهو خوفه من حكم الصندوق، والشرعية الثورية التي يتغنى بها، هي عنده أقوى من شرعية الصندوق، ومن شرعية الشعب، ومن شرعية الدولة. وهو بذلك لم يعد يمثل "مدرسة" سياسية أصيلة، بل أزمة نفسية خانقة، جعلته بمرور الوقت، مجرد ظاهرة مسلية، تنجح في "الكاميرا كاشي"، ولغزا من ألغاز السياسة في تونس، بعد انكشاف علاقته بحكومة الظل وما أدراك ما حكومة الظل. الإنسان يحتار في تقييم الهمامي، هل هو مجرد سياسي فولكلوري، من العصر الشيوعي الحجري، أم لعبة في يد حكومة الظل والدولة العميقة، أم سياسي داهية يلعب بالجميع ليصل للحكم مهما كان الثمن. إن الذين قرروا التخلص من البراهمي أرادوا ضرب أكثر من عصفور في وقت واحد، فإضافة الى أن الرجل تمرد على حزبه الأصلي وخرج منه بعد خلاف حاد حول الانضمام الى الجبهة الشعبية، وهناك افتك الراحل مواقع متقدمة وأصبح في وقت وجيز ينافس رموز الجبهة بل ويتصدر واجهتها الإعلامية، وهو من أبناء سيدي بوزيد التي يراد لها أن تكون وقودا لثورة مضادة مثلما كانت في 17 ديسمبر الشعلة التي أوقدت نار الثورة في البلاد. وهو الى ذلك ناصري وينتمي الى جبهة يسارية، باختصار جديد اختيار دقيق لرجل اختزل – رغم حجمه السياسي الذي لم يكن كبيرا – اختزل عدة رمزيات أراد قاتله تثويرها من بعده، ومن بعد التخلص منه.إضافة طبعا الى توجيه الاتهام الى خصم سياسي واستعادة برامج الشيطنة الموجهة له. ولكن الأخطر من كل ذلك، ومن محاولة استثمار ما يجري في مصر لإسقاطه على بلادنا، قد يكون الهدف من هذا الاغتيال، فتح الباب على مصراعيه أمام موجة من الاغتيالات، توجه ضد الذين تعمل الآلة الإعلامية المضللة على شيطنتهم وإخراجهم في مظهر القتلة ومصاصي الدماء الذين يجب التخلص منهم وقتلهم دون أن يشعر المرء باي تعاطف معهم، مثلما يحصل الآن في مصر. وهو ما يجعل قفز الهمامي على الحدث حمال أوجه فهل هو مجرد تنطع سياسي، أم اشتراك في مؤامرة كبرى داخلية وإقليمية لتصفية الربيع العربي في يوم واحد، في تونس ومصر؟ إن الذين طالبوا بجبهة انقاذ وبحل المجلس التأسيسي وأدعوا أن هذه الحكومة فاقدة للشرعية، رغم كونها منتخبة، بل وأعلنوا عن تشكيل حكومة إنقاذ وطني، هؤلاء وعلى رأسهم حمة الهمامي هم الذين مهدوا الطريق لعملية اغتيال محمد براهمي مثلما هيِِأوا نفس الأجواء تقريبا لاغتيال شكري بلعيد. إن الدعوات "لسحل" الشرعية في الشوارع، والضرب بنتائج الصندوق عرض الحائط، والذين أعلنوا عزمهم على تدمير الدولة، وعملوا على إرباكها وإحداث أكبر الأضرار ببنيتها، هم الذين يتحملون اليوم المسؤولية عن الأوضاع التي وصلت إليها بلادنا. ولكن هذا لا يعني أن الحكومة والترويكا لا تتحمل أي مسؤولية وخاصة في حماية المواطنين. ونحن نعتقد أن الحكومة فشلت سياسيا - ونقولها بصراحة- في ايجاد التوافقات اللازمة لأنهاء المرحلة الانتقالية، وفشلت أمنيا واستخباراتيا، في منع جريمة سياسية بحجم اغتيال البراهمي ومن قبله بلعيد، وإن تداركت الأمر بسرعة الكشف عن القتلة. وهو ما يؤكد أن المنظومة الأمنية استعادت ثقتها بنفسها بعد محاولات التخريب التي تعرضت لها، وخاصة بعد محاولة اقتحام وزارة الداخلية. الحكومة مطالبة اليوم بأن تكون في مستوى الحدث وتعمل على دفع الأمور في اتجاه الوحدة الوطنية تحت سقف الشرعية. والتأسيسي المصدر الوحيد لهذه الشرعية، مدعو بكل مكوناته الى الإسراع باستكمال مهمته التاريخية وهي كتابة الدستور، واستكمال تكوين لجنة الانتخابات وبقية المهام المنوطة بعهدته في أجل واضح، العائلات السياسية وعلى رأسها الترويكا مدعوة الى التوافق على موعد واضح ونهائي للانتخابات. لأننا اليوم بين خيارين لا ثالث لهما، إما الوفاق الوطني الذي يضمن تواصل الانتقال الديمقراطي نحو شاطئ السلام، أو الفوضى وتدمير الدولة وبناء دكتاتورية ثورجية يدوس فيها حمة الهمامي ورفاقه الشرعية والدولة والثورة. أيتها النخبة إننا جميعا في اختبار حاسم أمام شعبنا الذي نؤمن إيمانا راسخا أنه لن يلتفت الى مثل هذه المغامرات الثورجية والتي تريد الدفع ببلادنا نحو الفراغ والفوضى وربما التقاتل بين أبناء الشعب الواحد. شعبنا يدرك أن الذين يتهمون الترويكا بأنها "تحكم لوحدها" ويواجهونها "بأنكم لن تستطيعوا أن تحكموا تونس لوحدكم" يريدون اليوم الانقضاض على الحكم، "غورة" والاستئثار به لأنفسهم، وإقصاء خصومهم السياسيين، وهم يعلنون ذلك صراحة، مثلما فعلوا يوما ما لما انقضوا على الحكم في ما سمي بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة. شعبنا يعرف أن البراهمي دفع دمه ثمنا غاليا في سبيل هذا الوطن ومن أجل رفعته وعزته، وحفاظا على استقلاله، وامنه واستقراره، ويريد اليوم تجار الدماء ممن يتباكون على البراهمي استثمار نفس الدم لهدم البلاد على رؤوس أصحابها، وضرب أمنها واستقرارها، مستعملينه كقميص عثمان، وهو منهم براء.. شعبنا يعرف الحقيقة، فانتبهوا أيها السياسيون قبل أن يلفظكم هذا الشعب جميعا ودون استثناء.