تحولت لعبة كرة القدم منذ ما يزيد عن القرن الى شغف كوني إذ يعود تاريخ تقنين قواعدها الى سنة 1863، وهي تعدّ من العوامل النادرة بل ربما هي الوحيدة المكونة لثقافة عالمية مذكرة ومفهومة من قبل الجميع، تتعالى عن الاختلافات بين المناطق والأمم والاجيال. وفرنسا رغم انها تعتبر في موقع متراجع نسبيا مقارنة بالمركزين الرئيسيين لعبادة لعبة كرة القدم في أوروبا (انڤلترا وايطاليا) لم تسلم من تأثيراتها اذ فمعدل مشاهدة مقابلة من مقابلات القسم الاول يبلغ ثلاثة عشر ألف متفرج في حين يبلغ في انڤلترا واحدا وعشرين ألفا وفي ايطاليا ثلاثة وثلاثين ألفا، فضلا على ان البلاد لم تعرف مثل تلك المباريات المشتعلة بين النوادي الاجوار، تلك المباريات التي تغذي تباينات الحياة الحضرية وهي تجمع فريقين متنافسين من نفس العاصمة. ولعل ما يجعل من كرة القدم تلك »الرياضة المتوجة« هو الاهتمام بممارستها والفرجة عليها في آن، ففي فرنسا وكما تدل على ذلك شواهد عديدة تحتل الجامعة الفرنسية لكرة القدم المركز الاول بين الجامعات الرياضية وبفرق شاسع، اذا تضم ما يقرب من مليوني مجاز (000.997.1)، كما ان مجلة »الفريق« التي تخصص ما يقرب من نصف موادها لكرة القدم هي اليوميّة الاكثر قراءة في فرنسا وذلك بمعدل مليون وسبع مائة وثمانين الف قارئ (787000.1) بينهم اكثر من مليون ونصف رجل (516000.1) كما يحضى البث التلفزي المستمر للمقابلات بنسب مرتفعة من المشاهدة كما هو الحال مع مقابلة الدور النهائي لكأس رابطة الابطال الاوروبية التي جمعت بين فريق »أولمبيك مرسيليا وفريق آسي ميلان« والتي شاهدها خلال شهر ماي من سنة 1993 سبعة عشر مليونا ونصف المليون مشاهد. وخلال السنوات العشرين الاخيرة تفاقم الشغف بكرة القدم وتنوع كما تغيرت ملامح المدارج والمنصات بظهور جيل جديد من المشجعين، وتحولت الانتصارات والهزائم وتقلبات الاندية الى قضايا وطنية. وبطريقة اكثر دلالة أقامت كرة القدم نوعا من التوازن صلب الحياة الجماعية وانقلبت المفاهيم من خلال تكثيف الشعارات الرياضية، فقديما كنا نشبه الفريق الرياضي بالمؤسسة الاقتصادية: برئيسها واطاراتها وأعوانها، واليوم بتنا نشبه المؤسسة الاقتصادية بالفريق الرياضي (لها قائد ومحترفون يملكون عقلية تنافسية وروح أداء جماعي) وفي مثل هذا المناخ تجد عملية تحويل المجتمع الى مجتمع كرة قدم التربة الملائمة لتتجذر، فهذه الرياضة الجماعية المبنية على التعارف تمنح فرصة التقاء خصائص رياضية و »دراماتيكية« وجمالية تقود نحو المَشْهَدَةِ او الاستعراض كما تؤهل الى اكثر الرمزيات تنوعا. واذا دخلنا بشكل طوعي وتام حكاية الكرة والاقدام والاجسام والرؤوس تأكدنا ان المباراة المنتمية الى الاقسام المهمة الاولى تتضمن خلال تسعين دقيقة باقة الاحاسيس التي يمكن ان نعيشها خلال الزمن الطويل والمتمطّي لحياة بأكملها: الفرحة، الألم، الضغينة، الرعب الاعجاب، الاحساس بالظلم فنجد هكذا »البعد الملائم« الذي يعتبر نموذج التراجيديا حسب »أرسطو « ❊ (2): »الذين يفهمون كل الاحداث التي تنقل الشخصيات من التعاسة للسعادة ومن السعادة للشقاء« ولكن هل علينا ان نكون انصارا ومشجعين حتى نعيش هذه الاحاسيس بعمق اذ لا شيء اكثر سخافة من لقاء دون رهان لا ننتقل خلاله من ال »هم« الى ال »نحن«، ولا نشعر خلاله بأنفسنا مشاركين... بالتأكيد سنعجب بالمستوى الفني للمقابلة كما سنعجب بجمال واستبسال اللاعبين، ولكننا لن نشعر بالحرقة والعمق الدرامي للعرض، وبعبارة اوضح، ان شغف الانصار والمشجعين هو من يمنح المعنى والمتعة ويخلق الاهتمام بالمواجهة، وقد اكد المؤرخ الفرنسي »بول فاين« ❊ (3) هذه الخاصية النوعية عند ما قال لا يجب ان نعتقد ان المباراة او المناظرة هي نسق سيميائي ثابت، اذ عندما نناصر طرفا ما والنسق في عنفوانه سنحقق بالضرورة متعة اكبر من تلك التي سنعيشها لو كنا نحصي الضربات بلا مبالاة، و »البحث عن الاثارة« على حد عبارة »نوربار الياس« ❊ (4) هو حافز رئيسي للعرض الرياضي كما ان التشجيع شرط ضروري لتأمين الحد الاقصى من الضغط الفاعل في المواجهة، اضافة الى انه عامل مهم من اجل الاحساس العميق بالتفاعل والمشاركة في حكاية غير محسومة تبنى فعالياتها امام ناظرينا وفي خيالنا، اذ بالامكان التحكم بالنتيجة او تحويرها في المدارج من خلال مشاركة صوتية وجسمانية هائلة ولا يشبه هذا الامر ما يحدث في الافلام او المسرحيات التي تسير الامور بها على نحو مختلف بما ان خواتمها تكون دائما محسومة قبل انطلاق العروض. إن الابعاد الجمالية تغذي بالتأكيد نوعية العرض في اطلاقيته، فاللون الاخضر الرقيق للمعلب اين تتوزع جوقة اللاعبين المزركشة وتنتشر منمنمات الاجنحة في تنام هندسي دقيق للعبة، اضافة الى قفزات الحراس، تجعل من كرة القدم فنّا بصريّا متراميا تسهم فيه المدارج عبر الحلل والازياء والرايات واللافتات والتوزيع الجغرافي للجمهور والحركات المتموّجة للأجساد التي تشكل أمواجا تصعد وتنزل على المدرجات... كما ان تداول قرع الطبول واصوات المزامير ونغماتها ومختلف تلك الاصوات التي تصاحب الاستعراضات تجعل منها لحظات استثنائية للرونق وبهجة الحياة الجماعية، فضلا على انها تشكل لدى البعض منبعا فريدا للتجربة والاحساس بالجمال كما يقول »بيترهانداك« ❊ (5). وعديد الخصائص في كرة القدم ترمز للخصائص الفارقة التي تطبع المجتمع الصناعي، فهذه الرياضة كانت من افرازاته وهو من يصنع شعبيتها الخارقة بالتأكيد. ومن أراد ان يبلغ الفوز في كرة القدم عليه ان يكون على درجة عالية من التنظم الجماعي (خطة اللعب) فوق الميدان اين يجب ان يكون توزيع المسؤوليات محكما بين افراد الفريق وذلك من خلال الاعداد الجيد للانضباط في المواقع مع تنمية وتحفيز المبادرة الفردية اذ يقتضي كل موقع تطبيق مهارات مخصوصة: قوة المتصدين للكرة القادرين على فرض احترامهم على الميدان، جلد وصبر متوسطي الميدان اللذين هم رئة الفريق، رشاقة الظهيرين اللذين يمكنهما ترويض الكرة في باطن الكف، حسن التمركز لدى اللاعب رقم 10 وإحاطته الشاملة بمجريات اللعب، ثم الطابع الفردي لقائد الفريق. إن الجمهور في اصراره على اختلافه. يجد ضالته ويحقق المعنى لفرجته ففي لوحة المشجعين المزركشة والمتباينة هناك تقيمات تفاضلية تجعل من طبيعة الانحناءه لتحية نجم ما مختلفة عنها مع نجم اخر، اذ يخضع الاعجاب لمعايير مرهفة تتصل بالطبيعة المعقدة للعبة نفسها، فلا يعجب الشباب والشيوخ او العمال والاطارات بذات الابطال، ونفس الشيء يلاحظ مع في المجازات والتعابير الواردة في الاهازيج التي تعكس هويات اجتماعية شديدة الاختلاف فشعبية كرة القدم تعود مما لا شك فيه الى قدرتها التعبوية، إذ تعمل رياضة الفريق هذه على رمزية الولاء الاقليمي والنزاهة المحلية والوطنية والقومية. كما ان الاشكال الحالية لتنظيم المنافسات بداية من البطولات المحلية وحتى العالمية مرورا بالبطولات القطاعية، توفر سندا تعبيريا اثناء كل مواجهة تتأكد خلاله الاوجه المتنافرة لهوية الافراد (هويات مهنية جهوية عرقية وطنية). كما نلمس داخل الملعب الذي هو بمثابة فضاء فردي »بانوبتيكي« تجسُّدَ التعبئة كممارسة برغم انها منظورة ومراقبة من الجميع ووفقا لمقاييس ظاهرة الاشكال الخارجية للمجموعات ومن اجل عملية ضبط فضاء اللعبة والسيطرة عليه يتم التركيز على المجموعات الهامة في المدارج، ومثلما ان هناك اكثر من طريق يمكنها ان تقود الى الورع هناك ايضا اكثر من طريق للتلاعب وبلوغ جنون الانصار، اذ يتردد عشق كرة القدم في الزوايا الاربعة لمدارج الملعب وان بمدلولات خصوصية مثلما تتقاطع هناك حكايا فردية وجماعية مع تلك التي تدور على أرضية الميدان مع بعض التباينات بالتأكيد... ولكن الشغوفين بكرة القدم يتشاركون في تجربة موحدة رغم تنافرهم واختلاف كثافة الانبهار لديهم. هوامش 1) »كريستيان برومبارجي«: استاذ الانتروبولوجيا بجامعة »بروفانس« عضو بارز في المركز الفرنسي الجامعي وهذا النص وهو فصل من كتابه »هوايات معتادة«. 2) »أرسطو«، كتاب »فن الشعر« الفصل السابع. 3) »بول فاين«: مؤرخ فرنسي مولود في 13 جوان 1930 استاذ في المعهد الفرنسي (كولاج فرنسا) مختص في تاريخ روما القديمة، والاستشهاد الوارد في النص من كتاب »الأولمبياد في القديم، الذهنية والعصر الجديد للرياضة (1987) الصفحة 59. 4) »نوربار إلياس« هو كاتب وعالم اجتماع ألماني ولد سنة 1897 وتوفي سنة 1990 كتب كتابا مرجعيا في السوسيولوجيا التاريخية ظهر في فرنسا بعنوان »حضارة القيم والحراك الغربي«. 5) »بيتر هانداك« كاتب ألماني من اصل نمساوي ذو صيت عالمي ولد سنة 1942 .