تصدير شعري: أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟ حافظ ابراهيم شاعر النيل تصدير نثري: لغتنا العربية يسر لا عسر. و نحن نملكها كما كان القدماء يملكونها. و لنا أن نضيف إليها ما نحتاجه من ألفاظ لم تكن مستعملة في العصر القديم. د.طه حسين عميد الأدب العربي مثلما للكعبة بربّ يدافع عنها، فإن للعربية رجالا أفذاذا و نساء فضليات عالمات يذبّون عنها بالقلم و المحاضرة و عقد الندوات و تصنيف المؤلفات و تأسيس الجمعيات شأن الدكتور عثمان السعدي (1930 م ) و هو علم عربي من الجزائر ما فتئ يناضل في سبيل الذود عن حمى العربية و العروبة و يطالب بالتعريب الشامل بل و يسهم فيه بكتب قيّمة و آخر انجازاته تأسيس جمعية الدفاع عن العربية التي رأت النور بالجزائر قبل 15 عاما و وثّقت أعمالها في كتاب قيّم . و قد حضر بيننا يوم 23 نوفمبر 2009 بالمدرسة القومية للمهندسين مقدما محاضرة قيّمة عنوانها» رهانات اللغة العربية: التحديات الداخلية و الخارجية». و إذا كان المحاضر قدّم رهانات اللغة العربية على ما تواجهه من تحديات داخلية و خارجية، فإننا سنعكس الآية لسبب بسيط هو أن الرهانات تتصل بالمستقبل و الآفاق، في حين أن التحديات لصيقة الحاضر و الراهن. و نبدأ في هذا الإطار بملاحظة جوهرية مفادها أننا اليوم في أمس الحاجة إلى ملتقيات تدافع عن لغتنا القومية بصورة شمولية أمام ما يتهددها من أخطارفي حين عوّدتنا جامعاتنا على الندوات و الملتقيات الأكادمية العلمية و آخرها ندوة «التصريف العربي بين التحويل و التحريف» بكلية الآداب بصفاقس في منتصف نوفمبر2009 . و هي على أهميتها تنحى منحى معرفيّا حياديّا لا يرصد واقع اللغة و ما تعيشه من مصاعب و ما يتهددها من أخطار أو لعلّها و ما شاكلها لا تريد ذلك تحت مسمّيات مختلفة كالموضوعية و ما إليها. و نبدأ من البداية قائلين: إن التحديات التي تعيشها العربية لا تكاد تقع تحت الحصر، لكننا سنحاول من جانبنا الوقوف عند أكثرها أهمية من خلال عرض الأستاذ المحاضر مع إضافة ما نراه ضروريا في هذا السياق. و أولها على المستوى الداخلي مشكل التداخل بين الفصحى و العامية ، و هي ظاهرة موضوعية ما كان يكون لها تأثير سيّء لولا نزعات التوظيف القطرية في أرجاء الوطن العربي كافة و من بينها «التونسة» التي نظّر لها طويلا محمد مزالي و البشير بن سلامة في كتابه « تطعيم الفصحى بالعامية» و أدرجت في ذات الوقت ببرامج التعليم مادة هجينة هي «التنمية اللغوية» و هي اسم مُغْرٍ يزعم السعي إلى إثراء لغتنا، في حين أنها عملت بكل ما أوتيت من جهد على إقحام ألفاظ عامية و حتى دخيلة تحلّ محلّ الفصحى مدّعية أن هذا الشيء أو غيره لا تسمية له في الفصحى فلنطلق عليه ما نشاء من ألفاظ عامّية أو دخيلة. و فشلت التجربة لحسن الحظ. و لكن بقي علينا النظر في محاولات أخرى لا تقلّ خطورة لاستخدامها العامّية في التدريس و الإبداع الأدبي بدعوى التيسير على المتعلم حينا و بزعم الانغراس في البيئة المحلية حينا آخر مثلما صنع نجيب محفوظ و توفيق الحكيم في مصر و محمد العروسي المطوي و غيره في تونس فعسّروا على القارئ العربي خارج أقطارهم النفاذ إلى أدبهم و فهمه الفهم السليم. و هذا ما دفع الدكتور محمد فريد غازي رحمه الله إلى شرح بعض ما استعصى من ألفاظ عامية مصرية و غيرها في كتابه «نماذج من القصّاص العرب المعاصرين» ( الديوان التربوي 1960) و هو ما كنا في غنى عنه لو استخدمت لغتنا الفصحى في الأعمال الأدبية. و نضيف إلى ما سبق ذكره أن التباين و الاختلاف في وجهات النظر إزاء اللغة العربية في حدّ ذاتها يعدّ مشكلا مهمّا فعلينا أن لا نستهين به لما له من مضاعفات و انعكاسات خطيرة: فمن قائل إن العربية ميسورة التناول و الاستيعاب إلى ادعاء بأنها صعبة و متحجرة، و مصدر هذه الفكرة المتجنّية على لغتنا زمرة من المستشرقين و العرب المنبتّين عن جذورهم و المتنكرين لأصالتهم ، فما رأي هؤلاء الأدعياء في لغات كالصينية واليابانية و الكورية و الفيتنامية المعروفة بتعقدها من حيث عدد حروفها و رسمها... إذا قورنت بالعربية ، و مع ذلك تدرّس بها العلوم و مختلف المعارف منذ حصول بلدانها على استقلالها و تحررها من ربقة الاستعمار بأشكاله المختلفة. و لعل أهم فكرة بلّغها الضيف الكريم للجمهور الحاضر هي العلاقة الجدلية بين إعادة الاعتبار إلى اللغة الوطنية و القومية من جهة و النمو في شتّى القطاعات من جهة أخرى، و قدم الدكتور في هذا المضمار إحصائيات غاية في الدقة و الدلالة على صحة ما ذهب إليه و سلامته . و يتساءل عديدون في بلادنا العربية من مختلف الأعمار و الشرائح الاجتماعية و المستوات التعليمية و الفكرية: أيمكن تدريس شتى المعارف بما في ذلك العلوم الصحيحة أو الدقيقة بلغة الضاد، فلا يتم الاقتصار على مرحلة معيّنة مثلما وقع في قطرنا (المرحلة الأساسية من التعليم: الابتدائي ثم الاعدادي) بل نتجاوزها إلى مراحل التدريس كافة بما فيها المرحلة العليا أو الجامعية؟ و نرى من الواجب أن ننوّه في هذا السياق ببعض المحاولات الريادية ذات الشأن العميق مثل تجربة الأستاذ الدكتور أحمد ذياب في تدريس مادة جراحة العظام بكلية الطب بصفاقس، لكنها وئدت للأسف بسرعة رغم طرافتها و توفير كل الظروف العلمية لنجاحها ، فمن المتسبب في ذلك ؟ لا نملك من جهتنا إجابة . وقد استفدنا منها على الأقل معجما طبيا قيّما ثنائي اللغة ( فرنسي- عربي) فضلا عمّا تم من تحسيس بأهمية اللغة العربية في تدريس العلوم و تحريك السواكن و دعوة إلى إحياء تراثنا الطبي الضخم و توظيفه . و من القنوات الاخرى التي كانت تعزز- و إن جزئيا - منزلة العربية مادة التعريب في بعض سنوات الدراسة الطبية ثم اختفت من الوجود لأسباب لا علم لنا بها . و بما أن المخاطر الخارجية لا تقل أهمية عن العرقلة الداخلية فلا بد من الوقوف عند أبرزها و هو الغزو الثقافي الذي أفرز ظواهر عديدة منها التداخل اللغوي بين العربية و لغات أجنبية كثيرة من بينها التداخل اللغوي بين العربية و لغات أجنبية كثيرة. و ثمة فرق بين أن نتعلم لغات أقوام أخرى « فنأمن شرّهم « و نستوعب ما ينشر و يبث بألسنتهم دون إحساس بالنقص و بين أن تكون هذه العملية على حساب لغتنا و ثقافتنا القوميتين و تراثنا الأصيل بدعوى أن «المغلوب مولع أبدا بالإقتداء بالغالب» على حدّ عبارة ابن خلدون في كتابه المعروف «المقدمة» . و إذا كنا نبغي الخروج من المآزق التي نتخبط فيها فلا بد من توفر إرادة سياسية صادقة و حقيقية باعتبار جهودها ضرورية و محددة حتى يكون التعريب شاملا مترابط الحلقات لأن مجهودات الأفراد و حتى المجموعات و الهيآت العلمية الأكادمية غير كافية في هذا الباب. و يندرج كل ذلك ضمن وقفة جادة و حازمة من قبل السلطات السياسية حتى تأخذ المسائل الجوهرية طريقها إلى الحل. و لعلّها كثيرة لكن أهمها شمولية التعريب انطلاقا من قناعة ثابتة بجدوى هذه العملية التي نقر بأنها معقدة لكن ممكنة خصوصا بعد ما شهده تعريب بعض المواد في التعليم الثانوي ببلادنا من نجاحات باهرة كالفلسفة و التاريخ و الجغرافيا التي كانت تدرس جميعا بالفرنسية حتى بداية السبعينات من القرن الماضي. و قد عرفنا تجربة أكثر تطورا في التدريس من خلال ما يسمى « شعبة أ» حيث كان التعريب شاملا و ظهرت نتائجه ملموسة فيما اكتسبه الخريجون في مراحل لاحقة من مستوى مرموق في المعرفة و ما أحرزوه من شهائد عليا في كل الاختصاصات بما فيها العلمية أو ما أنجزوه من دراسات و مؤلفات و كتب تشهد لهم بالمنزلة السامية و القدرة على الإضافة إلى رصيد أمتهم. و إذا كان من حق البشرية أن تحلم فّإن أملنا كعرب وطيد في تعزيز مكانة لغتنا في الداخل و الخارج و في المحافل الدولية كافة. و بذلك وحده نكسب الرهان و نتجاوز الصعاب التي تبدو غي الغالب تقنية إن نحن ضمنّا الإرادة الخيّرة، و إن غدا لناظره قريب.