ما كنت أنوي الحديث في موضوع إلغاء صفحات المادة الرياضيّة من جريدتنا منذ مطلع السنة الجديدة لولا أنّ العزيز حسن بن عثمان أثار المسألة على عموده الخاص في الزميلة «الصحافة» الغرّاء يوم الأحد الماضي، لذلك أوضح فأقول: أوّلا، أنّه صرف صادر عن القاعدة العماليّة العريضة التي ما فتئت تنادي منذ سنوات ولا سيما خلال المؤتمرات الجهوية والقطاعية والندوات الدستورية والتكوينية والايام الدراسية بإلغاء التعاطي مع أي مادة رياضيّة على صفحات جريدة الشعب. لم نكن في أسرة التحرير نريد أن نسمع هذا النداء وكنّا نبذل لا سيما على مستوى الإدارة ورئاسة التحرير جهودا مضنية لإقناع ناقدينا بصحّة رؤيتنا الملزمة أو الفارضة لهذه المادة، على أساس التنويع مرّة، وعلى أساس زيادة المبيعات مرّة أخرى، وعلى أساس الدخول نقابيا إلى هذه «الحرمات» مرّة ثالثة وعلى أساس «الماركوتين» التجاري الصحافي، النقابي، الشبابي، السياسي، مرّة رابعة أو حتّى على أساس الحضور، لا أكثر ولا أقل، كما يقول المدرب فوزي البنزرتي، أو على أساس ان جريدة الشعب ليست نشرية داخلية بل هي صحيفة موجهة الى الرأى العام الوطني تنقل له وجهة نظر النقابيين في مختلف المسائل. لكن كلّ هذه الأساسات لم تفلّ في عزائم النقابيين، ولم تقنعهم ولم تستطع أن تنال من صبرهم وخاصة من عزمهم الراسخ على إلغاء هذه المادة من جريدتهم، فما من مؤتمر انعقد أو ندوة انتظمت إلاّ وعاب النقابيون على الجريدة تمسّكها بالمادة المذكورة وطالبوا بإلغائها جملة وتفصيلا، وتخصيص المساحة التي كانت تستهلكها والجهد البشري الذي كانت تستنزفه لمواد أخرى تنسجم مع خصوصيات الاتحاد عامة وخصوصيات «الشعب» كجريدة رأي، تدافع عن الحقوق والحريات الفردية والعامة وترتفع بالذوق العام، وتساهم في الإرتقاء بالمستوى الذهني والفكري للقرّاء، وعموم المواطنين وتهتم في المقام الأوّل بقضايا الشغّالين، فتثيرها باستمرار وتشرحها وتفصّلها وتعالجها بدل المرّة مئة مرّة. ورغم أن النقابيين يحبّون الرياضة ويمارسها بعضهم ويذهبون إلى الملاعب ويشجّعون الفرق المتنافسة، فإنّهم إتّفقوا، في إجماع منقطع النظير، ومنذ عشرات السنين على أنّ الرياضة ليست من قضايا الشغّالين، وأنّها على ماهي عليه الآن، ومن قبل، لا تستحق منهم الإهتمام الذي يبديه لها آخرون. نقرأ في الصفحة 108 تحت عنوان «أخطار ابتعاد الرياضة عن المنهاج التربوي» ضمن مؤلف تحت عنوان «في سبيل تنمية أسرع وتوزيع أعدل» وقع تقديمه كتقرير اقتصادي وإجتماعي إلى المؤتمر الرابع عشر للاتحاد المنعقد في مارس 1977 ما يلي: «كثيرا ما يردّد المسؤولون الرياضيون في خطبهم ان سياستنا الرياضية تقام على تكوين الشباب حتى يتحلّى بعقل سليم في جسم سليم باعتبار الرياضة أداة تربوية قبل كل شيء. ولكن للأسف الشديد، فإن ممارسة الرياضة اليوم قد حادت بعض الشيء عن مفهوم الرياضة الأصلي، فلم تعد تعني في نظر بعضهم إلا الكسب المادي وتسجيل الانتصارات. وأخطر العوامل التخديرية التي تتطبع بها الرياضة حاليا تتمثل في الشعبية المهولة التي باتت تحظى بها كرة القدم عل حساب الرياضات الجماعيّة الأخرى والرياضات الفرديّة بصورة خاصة. دخلت رياضة كرة القدم بتزايد انشغال الناس بها إلى الإدارات والمعامل والأماكن العمومية والبيوت، حتى أنّ قسطا هاما من الشباب التونسي لم يعد له انشغال آخر وتفكير وتعليق إلا عن كرة القدم ومقابلات الأسبوع الفارط والمباريات التي ستجرى في الأسبوع القادم، ونسي الناس ما لهم وما عليهم. وتناسوا القضايا الأساسية للمجتمع في مختلف الميادين وضاق بهم التفكير إلى درجة تأليه لاعبي كرة القدم ووضعهم موضع الأبطال، ومن نتائج هذا الوضع السلبي ان جلّ الجمعيات الرياضيّة ظلت تدعم فروع كرة القدم على حساب الفروع الرياضية الأخرى بينما أصبحت الجمعيات الكبرى متفرغة للبحث عن النتائج بالإستجابة إلى مطالب اللاعبين البارزين المشطّة أحيانا. ومن غريب الأمور أنّ بعض الأندية الرياضيّة أصبحت تخصّص من ميزانياتها السنويّة القسط الأوفر لفروع كرة القدم، بينما لا تحظى الفروع الأخرى إلا بقلّة قليلة من الأموال المرصودة. وهذه الظاهرة المتفشّية قد تخدم أغراض الأندية الكبرى ولكنها تعود بالمضرّة على بقية الجمعيات التي لا تتوفر لديها إمكانيات مادية ذات بال، مما يتسبب في خلق حزازات بين مختلف أصناف الرياضيّين في نفس الجمعيّة الرياضيّة» (إنتهى كلام الوثيقة). ثانيا، رغم كل التحصينات، ورغم الأساسات التي أقمناها، انزلقنا شيئا فشيئا مع التيّار السائد في القطاع، فصرنا مرّة مع هذا الفريق وأخرى ضدّه، ومرّة مع هذا المسؤول وفي الأخرى ضدّه، وسقطنا دون أن نشعر في الحسابات والمشاكسات، وبعدها في الترضيات والمجاملات إلى حدّ أننا أثرنا النقابيين ضد جريدتهم وضدّنا كأشخاص. حصل ذات سنة وكنّا عملا منّا على الزيادة في المبيعات نرفق كل عدد بصورة لفريق رياضي واحد خاصة لما يفوز ببطولة عربية أو إفريقية أو محليّة، لكن بمناسبة مقابلات الأجوار كنّا نطبع صور الفريقين على وجهي نفس المطبوعة، والذي حصل في مقابلة الذهاب لأحد الجارين (من خارج العاصمة) أنّنا رمينا 10 آلاف نسخة من «بوستار» مزدوج في المهملات لأنّ أنصار كلا الفريقين رفضوا اقتناء «بوستار» فريقهم لسبب بسيط وهو أنّ المطبوعة حملت في وجهها الثاني صورة الفريق المنافس، وحتّى لما أصلحنا الخطأ في مقابلة الإياب بطبع صورة كلّ فريق على حدة (باقتراح من النقابيين) لم نتمكّن من بيع العدد الذي كنّا توقعناه من النسخ لأنّ أنصار كلّ فريق حسبونا على الفريق المنافس. مازال يرنّ في أذنيّ عتاب مسؤول نقابيّ لامني شديد اللوم ذات مرّة كوننا بعثنا للتوزيع في جهته صورة فريق من جهة أخرى، ومازلت أحفظ تعليمات نقابي آخر بعدم التعرّض إلى مسؤول رياضيّ شهير، وإن أنسى فلن أنسى ما قاله نقابيّ متحمّس من أنّ جريدة الشعب ستفتّت وحدة النقابيين التي بناها الزعيم فرحات حشاد وبقيّة الزعماء بسقوطها في الترويج للجهويّات وإذكائها بشكل مقرف، كما لا أنسى شحنة الغضب التي أطلقها في وجهي نقابيّ شاب موجّها لي ولأسرة التحرير تهمة النزول بمستوى الجريدة إلى الحضيض والسفاسف. ثالثا، سبق للنقابيّين أن فرضوا إلغاء مواد أخرى حاولت «الشعب» طرقها من باب البحث عن إمكانيات الزيادة في المبيعات، ومنها مادّة أخبار المحاكم والجرائم، ومنها أيضا أخبار الفنّ والغناء والموسيقى ولا سيّما بالشكل الرائج في أغلب الصحف المحلية، كما فرضوا إلغاء نشر صور الفنّانات والممثّلات، ولو كان النشر يقتصر على وجه جميل أو صبوح، ومنها كذلك مادة المنوعات والخوارق وحكايات الجنّ ورأس الغول. رابعا، لم يثبت ماليا أنّ المادة الرياضية في الشعب على الأقل تضمن الزيادة في المبيعات أو تحافظ على رقم معيّن منها. وما لاحظناه من إرتفاعات نسبيّة للمبيعات خلال العام المنقضي (2009) مثلا إنّما كان بسبب الإعلان عن تفاصيل الزيادات في الأجور وعن نتائج المفاوضات بصفة عامّة، وهذه مادة أصبحت تنافسنا فيها كل الصحف. ورغم أنّنا لا نستطيع الحديث عن مبيعات شهر جانفي 2010 وهو الشهر الذي اختفت خلاله المادة الرياضية حيث أن عملية الجرد الخاصة به مازالت جارية، فإننا سجّلنا إرتفاعا في عدد الزائرين الذين أطّلعوا على الموقع الإلكتروني لجريدتنا بالمقارنة مع عددهم في شهر ديسمبر 2009، (والمدمنون على الإنترنات بإمكانهم التثبّت من ذلك)، كما أنّنا حافظنا على نفس العدد من المشتركين بين وزارات ومؤسسات. خامسا، إنّ تنفيذ القرار النقابي بإلغاء المادة الرياضية من صفحات الجريدة لا يعني الإمتناع عن التطرّق إلى الرياضة كظاهرة إجتماعيّة وسياسيّة وإقتصاديّة وإعلاميّة، وما العدد الذي خصصناه لكرة القدم من «منارات» الصادر بتاريخ 30 جانفي الماضي أي يوما واحدًا قبل نهائي كأس إفريقيا للأمم إلاّ نموذج للطريقة التي سنتناول بها المسألة مستقبلا وما المقالات التي نشرت ضمنه إلاّ عيّنة من الانتاجات الفكريّة الراقيّة التي ستختصّ بها «الشعب» عند معالجاتها القادمة للرياضة في مفهومها النبيل. سادسا، عاد «منارات» إلى الصدور بعد توقف اضطراري. وسوف نسعى الى أن يستمرّ، وما عودته إلاّ إستجابة لدعوات واسعة ومطالب ملحّة، ثمّ إنها عودة لافتة من ناحيتين: الأولى أنّه سيكون نصف شهريّ في إنتظار أن يصبح أسبوعيا، ولعلّنا نوفّق في تحقيق حلم يراودنا منذ سنوات وهو جعله مستقلا بذاته عن الجريدة، فيحاكي الصحف المتخصّصة مثل أخبار الأدب أو ما شابه. الثانية أنّه تسبب في نشأة ملاحق أخرى منها: «إضاءات تاريخية»، «أطروحات عماليّة»، «ملفات سياسية»، و»جهات نظر» و»مؤشرات إقتصادية». وربّما سنحت الفرصة بإبتداع ملاحق أخرى أكثر تخصّصا. سابعا، وأخيرا، حصل أن رغبت، لمّا كنت تلميذا في الثانوي، في الالتحاق بمعهد الرياضة بقصر السعيد، فاستشرت العائلة في الأمر رحّبت أمّي رحمها اللّه بالمشروع بما أنّه يبعدني عن الأكاديميّة العسكريّة التي عنّ لي في وقت ما أن أذهب إليها، وقبلها والدي رحمه اللّه على مضض بما أنّ الرياضة تنأى بي عن مهن أخرى يكرهها. أمّا جدّي رحمه اللّه الذي لم يعرف من الرياضة إلاّ المشي وحمل الأثقال، فقد ظلّ صامتا طوال الحوار الذي دار بيني وبين الوالدين أو هو تظاهر بذلك، حتّى لما سكتنا سألني: وماذا ستشتغل عند التخرج من هذا المعهد؟ قلت: مدرّسا للرياضة والتربية البدنيّة. قال: وهل تُدرّس الرياضة؟ قلت: نعم، نعلّم التلاميذ كيف يجرون، وكيف يلعبون الكرة، ونعلّمهم التربية البدنية. قال غاضبا: أيّ تربية ستعلّمهم يا... هل يعقل أن يُربّي الصّبيان من يقف أمامهم وهو عاري الركبتين؟! وعلى كلمته هذه، تفرّق جميع من كان في «الحّوش». شكرًا تفضّل السيّد منتصر وايلي الرئيس المدير العام لشركة إتصالات تونس فأهداني مشكورا مبلغا من المال قامت الشركة بإضافته إلى رصيدي من المكالمات الهاتفيّة على هاتفي الجوّال. وإذ لا أعرف إن كانت الهدية موجّهة لي كحريف وفيّ للشركة، ولأوّل رقم أسندته لي منذ نحو 12 سنة، أو أنّ الحظ اختارني في لعبة ما من اللعب الدعائيّة والاشهاريّة، التي تقوم بها الشركة هذه الأيام، أو إن كانت موجّهة لي كإعلامي يهمّ الشركة أن تكرّمه، فإنني استغلّ هذه المساحة لأشكر جزيل الشكر السيد منتصر وايلي ومساعديه وكافة العاملين في المؤسسة على هذه الهديّة، راجيا لهم دوام التألق والإرتقاء في خدمة الوطن والمواطن وليثقوا أنّنا نساندهم ونقف الى جانبهم، مجنّدين كما نحن دائما للدفاع عن هذه المؤسسة الرائدة، وعن ملكيّتها العموميّة ملتمسين في نفس الوقت إشعاع إعلاناتها الغزيرة على مثل هذه الجريدة.