تذكرت عبارة الشاعر الألماني الشهير «هولدرلين» القائلة: «ما تبقى يؤثثه الشعراء» وأنا أتطلع الى العدد الأخير من جريدة الطريق الجديد (العدد ,206 من 20 إلى 26 نوفمبر 2010) الذي ركز على المادة الثقافية بشكل لافت للانتباه يستحق التنويه فقد نشرت الجريدة في صفحتها الأولى مادّة غير أو (استثنائية) عاديّة في صفحات جرائدنا التونسية المكتوبة، اعتقدنا أننا افتقدناها منذ عقود، وقد طالعنا نص يحمل عنوان «رادس الغابة: يأتيك الإسم من حيث لا تدري وآن تدري» للشاعر العربي الكبير سعدي يوسف وقد احتفل في نصّه بالشعراء التونسيين وبذاكرة له في المكان إثر زيارة تونس، وبغض النظر عن شاعرية النص ومصادره فإننا نحيّي هذه البادرة الثقافية وننوّه بها، أصالة عنْ كلّ كتّاب تونس. لقد وجدنا أنفسنا بصدد القراءة والنظر من مصافحة الصفحة الأولى فحسب أنّ المادة الشعرية ليست سلوكًا نشريّا على الصفحات الأولى وعناوين الجرائد، ولكن هذه البادرة المتطرفة لم نعهدها إلا على صفحات الجرائد العربيّة التي تُعنى بالأدب، لقد ظنّنا أنّ هذا السلوك لن يعود بعد أن ودعناه منذ عقود. وهذا يؤكّد أهميّة الإعلام الثقافي المكتوب من جهة والرغبة في طرح بدائل إعلامية ثقافية جديدة من جهة أخرى، إن هذه الحركة الصحفية تكشف النوايا الحسنة تجاه الشعر بصرف النظر عن قيمته ودرجة شعريّته، وهي تطرح مسألة جدلية في العمق حول واقع الإبداع الادبي والثقافي عامة، في المشهد الصحفي المكتوب وليس غريبا عن هذه الجريدة اهتمامها بالحال الثقافية في تونس بكل تفاصيلها. لقد عرضت في الصفحة الأولى للمشهد الثقافي العام وربطه براهن مواز هو راهن العلاقة إن وجدت بين الثقافة والرياضة، فمثلت بذلك خروجا عن الروتين الذي نطالعه في المقالات التي تنتمي إلى نفس الموضوع واهتمت بالكاتب المغربي يهوديّ الأصل إدمون عمران المليح صاحب الكتاب الشهير «المقهى الأزرق» وهو كاتب غريب عن المشهد الفكري في تُونس لأسباب قد يطول شرحها، لعلنا نتذكر في هذا السياق زوجته الكاتبة «جون ماري سيسيل» «ديفور المليح» مؤلفة «الكتابة الأليغورية» وقد اشتركت مع زوجها في موضوع الكتابة وعلاقاتها المتشابكة وفي التكوين الفلسفيّ الصّلب، وعموما نودّ لو تتكرر هذه البادرة الصحفية حتى نضفي سمة تمييزية جديدة إلى المشهد الصحفي المكتوب في تونس لعل هذه السمة ظلت مقصورة على الجرائد الدولية «أصحاب الجرائد» لأن المسألة قد تُعقد في كونها مسألة انتشار جريدة وتوجهات عامّة، إلى جانب الأغراض الربحية. إنّ هذه اللحظة الإعلامية تتسم بتراجع في مجال الصحافة الثقافية المكتوبة والجدل حول إمكانيات الدعم والإشهار العموميين، زد على ذلك أننا نفتقد في صحافتنا التونسية الجرائد الثقافية التي تهتم بالمشاهد التشكيلية، المسرحية، السينمائية، الأدبية الفنية على أن بعض جرائدنا التونسية ذهبت إلى تخصيص بعض الملاحق الثقافية الخاصة بالراهن والآنيّ ولعلّها خطوة نحو استيعاب ثراء المشهد الثقافي تونس، في لحظة غلب تحويل الوجهات عليها. إن تراجع الصحافة الثقافية المكتوبة واقتصارها على نقل الخبر دون تمحيصه ومجادلته وقراءته وتقليبه على وجوهه الممكنة وتأويله في علاقته بالسلطة والفكر يفتح الباب لمناقشة هذا الملف واعتباره أولويّة، لقد حان الوقت للحديث عن صحافة ثقافية جادة وعادلة وحرة وهادفة في راهن أفقدنا ثقافة السبق الصحفي والمسائل ذات البعد الجدلي وكم هي عصية تغطية الحياة الثقافية ومضنية ولعل التفطن إلى المعادلة الصعبة في إدراج الأخبار مسألة لابد من إثارتها وبمناسبة المقال نشير إلى أنه حان الوقت للجدل حول واقع الصحافة المكتوبة وحضور المادة الأدبية فيها والمتتبع للشأن الصحفي المكتوب يدرك حساسيّة الموضوع في زمن اهتزاز مهام السلطة الرابعة وصعوبتها. لعلنا بدأنا نفقد ثقافة السبق الصحفي في مجال الأدب: ورغم أن أغلب توجهات الصحافة المكتوبة إلى الأخبار الجامعة فإنها كثيرا ما تدفع بالثقافي جانبا أو تؤجله إلى ما بعد السّياسي فتتحول الأخبار من سلطة الكائن إلى سلطة نريدها أن تسود كأن نكف مثلا عن اعتبار الصحافة سلطة في درج السلط. إنه لمن الجميل أن نبارك اختيارات «الصحفة الأولى شعرا» الصائبة في تصوّرنا لعله أفضل من تعميم مشاهد الملاعب ووجوه الرياضيين والكراسي المهشّمة في زمن تراجع الروح الرياضية. إننا هنا ندعو إلى عدالة في الأخبار. إن التوجه إلى الشعر والفن التشكيلي والفنون بصفة عامة يفسّر اعتبار المثقفين علامة نهضة الثقافة والجدير بالذكر التنويه بملحق منارات لجريدة الشعب الذي يسهم من جهته في العناية بثقافتنا التونسية ورموزها.